وزير الأوقاف يهنئ البابا تواضروس وجميع الكنائس والطوائف المسيحية بعيد القيامة    مدبولي يوجه ببدء حوار مُجتمعي على وثيقة السياسات الضريبية تنفيذاً لتكليفات الرئيس    بلومبرج: حماس تدرس اتفاق وقف إطلاق النار بروح إيجابية    تشكيل مودرن فيوتشر أمام طلائع الجيش بالدوري    بداعي الإصابة.. طارق حامد يعود للقاهرة بعد انتهاء موسمه مع ضمك    الخطيب يُطالب خالد بيبو بتغليظ عقوبة أفشة    قرارات نهائية بشأن امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 قبل انطلاقها بأيام    الأمم المتحدة: أكثر من 230 ألف شخص تضرروا من فيضانات بوروندي    تونس .. بيان مهم من البنك المركزي    خبر عاجل بشأن العمال ومفاجأة بشأن أسعار الذهب والدولار وحالة الطقس اليوم.. أخبار التوك شو    انتصارات فلسطين وهزائم إسرائيل    الولاية الثانية.. تقارير: تشيلسي يرسل عرضًا للتعاقد مع كونتي    وزيرة البيئة تنعى رئيس «طاقة الشيوخ»: كان مشهودا له بالكفاءة والإخلاص    وزيرة التضامن تستعرض نتائج تحليل مشاهد التدخين والمخدرات بدراما رمضان 2024    بسبب كاب.. مقتل شاب على يد جزار ونجله في السلام    لحظة انهيار سقف مسجد بالسعودية بسبب الأمطار الغزيرة (فيديو)    جنات: إعداد ألبوم كامل ليست الفكرة الأفضل، وهذه حقيقة خلافي مع عمرو دياب    حكم الاحتفال بشم النسيم وهل احتفل به الصحابة؟ دار الإفتاء تحسم الجدل    الضبيب: مؤتمر مجمع اللغة العربية عرسًا لغويًا فريدًا    أدباء ومختصون أكاديميون يدعون لتحويل شعر الأطفال إلى هدف تربوي في مهرجان الشارقة القرائي للطفل    "سور الأزبكية" في معرض أبوظبي الدولي للكتاب    صحة الدقهلية تنتهي من تدريب الإدارات على ميكنة المواليد والوفيات    "مشنقة داخل الغرفة".. ربة منزل تنهي حياتها في 15 مايو    القناطر الخيرية تستعد لاستقبال المواطنين في شم النسيم    لا تهاون مع المخالفين.. تنفيذ 12 قرار إزالة في كفر الشيخ| صور    الفندق المسكون يكشف عن أول ألغازه في «البيت بيتي 2»    أذكار بعد الصلاة.. 1500 حسنه في ميزان المسلم بعد كل فريضة    وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء: الخميس 25 يوليو انطلاق المرحلة الثانية لمسابقة النوابغ الدولية للقرآن    مسؤول أممي إعادة إعمار غزة يستغرق وقتًا طويلًا حتى 2040    الداخلية تضبط 12 ألف قضية تسول في شهر    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي الثاني للطب الطبيعي والتأهيلي وعلاج الروماتيزم    شوشة: مدينة السيسي الجديدة سيتم إنشاؤها على نمط التجمعات التنموية    مصر تستضيف بوركينا فاسو 7 يونيو وتواجه غينيا 10 يونيو بتصفيات كأس العالم    تمديد استقبال تحويلات مبادرة "سيارات المصريين بالخارج".. المهندس خالد سعد يكشف التفاصيل    «رئيس البريد»: أبناء الهيئة هم الثروة الحقيقية.. والعامل الرئيس في تحقيق الإنجازات    أول رد من الكرملين على اتهام أمريكي باستخدام «أسلحة كيميائية» في أوكرانيا    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة    ميقاتي يحذر من تحول لبنان لبلد عبور من سوريا إلى أوروبا    رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع ممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية تعمل في مصر    انتبه.. 5 أشخاص لا يجوز إعطاؤهم من زكاة المال| تعرف عليهم    تفاصيل منحة السفارة اليابانية MEXT لعام 2025 للطلاب في جامعة أسيوط    فقدت ابنها بسبب لقاح أسترازينيكا.. أم ملكوم تروي تجربتها مع اللقاح    الرعاية الصحية تطلق حملة توعوية حول ضعف عضلة القلب فى 13 محافظة    جرثومة المعدة.. إليك أفضل الطرق الطبيعية والفعالة للعلاج    أب يذبح ابنته في أسيوط بعد تعاطيه المخدرات    شراكة استراتيجية بين "كونتكت وأوراكل" لتعزيز نجاح الأعمال وتقديم خدمات متميزة للعملاء    واشنطن تطالب روسيا والصين بعدم منح السيطرة للذكاء الاصطناعي على الأسلحة النووية    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    تحديد أول الراحلين عن صفوف برشلونة    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجواهري في ذكراه
اثر علي ماء وعين علي السماء
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 08 - 2011

لا يتسع الأثر الشعري لأكثر من شاعر واحد في كل حقبة زمنية معينة،ثمة اصطفاء طبيعي هو نوع من الانتخاب الطبيعي ربما ذلك الذي قال به داروين ذات مرة، يجعل الشاعر يتسرب من بين أصابع القدر تتسابق معه القوافي والرؤي والدلالات الناجمة من استرداد طيفه الخاص بالفرادة الشعرية او من مفارقة سواه من مجايليه مثلا او من السابقين عليه،ولعل محمد مهدي الجواهري »26يوليو 1899-1يناير 1997« نموذج خاص للشعرية العربية بالرغم من تصميمه علي أن يكون واقفا ومنتصبا بشكل عمودي علي صهوة الشعر العربي لفترة قاربت القرن من الزمان ،كان فيها الجواهري حارق حُقب ومكتشف فروسيات في القصيدة العربية لا تقل شأنا عن الديوان العربي القديم من حيث صلادتها ومتانة الألفاظ فيها وقاموسه المعجمي العربي الفصيح زرع خللا في تقبل الشعرية لما هو بالضد من شكلها الحداثي ومن أسلوبها النثري الذي كان جميع الشعراء يتسابقون باتجاهه بموهبة وبلا موهبة ، بينما بقيت شعرية الجواهري تتقدم بصرحها ضمن المواصفات التقليدية للشعر العربي القديم حتي صارت هذه هي مزية الجواهري وحداثته الغريبة التي كانت مزيجا من التراث العربي الإسلامي والفقه الديني والمعجمية اللغوية إضافة إلي إتقانه مبكرا للبحور العربية ومصادر البلاغة العربية ولو عرفنا نوعية الحضانة الأسرية التي ولد فيها الجواهري وكبر وترعرع وهي تعود في أصلها وفصلها إلي عائلته وهي عائلة عربية نجفية عريقة، نزلت النجف الأشرف منذ القرن الحادي عشر الهجري، وكان أفرادها يلقبون ب"النجفي" واكتسبت لقبها الحالي "الجواهري نسبة إلي كتاب فقهي قيم جدا وشاع في ربوع الوطن وكان مؤلف هذا السفر المهم هو الشيخ محمد حسن النجفي، وأسماه "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام " ويضم44 مجلداً، لقب بعده ب"صاحب الجواهر"، ولقبت أسرته ب"آل الجواهري" ومنه جاء لقب الجواهري وهو لقب اعتمد الكتابة جوهرا والإبداع عنوانا، ربما لا تقدم لنا حياة الجواهري حتي تلك التي كتب عنها بقلمه في مذكراته المعروفة بذكرياتي الشئ الكثير في معرفة المكونات السيكلوجية لموهبة الجواهري الشعرية ربما تكون عائلته الدينية سببا في اختياره شكل القصيدة العمودية نهجا أساسيا في تعاطي الشعر علي نوع من الكلف ربما هو الأكثر قربا لحياة دينية جادة أم لعل أسلوب تعليمه الابتدائي الذي كان يتلخص في حفظ القرآن وتعلم النحو والصرف والبلاغة والفقه ولعل من الغرابة أن نقع علي أسلوب تعليم فتي صغير القراءة بحفظ خطبة للإمام علي من كتابه نهج البلاغة يعقبها حفظ قصيدة للمتنبي ثم العودة إلي نهج البلاغة وهكذا
هذا الأسلوب الشاق والشيق والذي يجمع نهج القول وصعوبة المعاني في بلاغة الإمام علي بن أبي طالب إلي جانب حفظ قصائد شاعر لا يشق له غبار هو المتنبي جمع بين بلاغتين بلاغة الخطابة والسمو بها إلي أعلي مراتب القول والتوجيه والاستعارات البلاغية العالية إضافة إلي بلاغة شعر المتنبي وتنوعه المعجمي واعتداده بالنفس وغلبة النرجسية عليه ربما يكون نوعا من التركيب الجمالي بين نوعين من الخطاب وهو الموجه الذي سيحفر في ذهنية الجواهري فيما بعد مثل ازدواج التعبير بين الرصانة"الأخلاقية والزهدية"و"للعب المجازي اللاهي قليلا" وسوف تنتج هذه المرحلة امتزاجها اللذيذ فورا الذهاب إلي كتابة الشعر مبكرا بعد أن ملك الصبي مفاتيح الكلمة وقوة التعبير والخلفية النحوية المناسبة لها، ومع ذلك فإن الجواهري لم يكن منذ بداياته مجرد "صبي كتاب "او حافظ أصم لما يقرأه من كتب او يحفظه من دروس ،بل إن هناك ميولا يسارية كانت تنمو في داخله وتوجه رؤيته نحو العالم حتي انه هجر الحياة الدينية التعبدية الطهرية ونزع العمامة ولم يحتفظ منها إلا بقبعة الصغيرة ذات الطراز البغدادي التي صارت علامة فارقة لشخصيته التي لا تخلو من سطوة وأسطورية,
وكان الجواهري قد نزل إلي السياسة مبكرا وخاض ردحا منها يذكر إن الجواهري شارك في ثورة العشرين العراقية وكانت له إسهامات شعرية رافضة للظلم والعدوان منذ بداياته وبغض النظر عن سعة مواقفه السياسية والأدوار المهمة التي لعبها إلي جانب كبار السياسيين في العراق بداية من البلاط الملكي مرورا بثورة 14تموز 1958والانقلاب البعثي الذي وقع عام 1968وغيرها من المواقف فإن الجواهري كان عصيا علي التصنيف ومن الصعب الوقوف علي التزام سياسي معين لديه ولعل هذه من المميزات الأساسية لطريقة تفكير الجواهري وعناده الشخصي في أن يكون تابعا إلي حركة سياسية بعينها او إلي حزب سياسي معين ومن هنا فإن الجواهري صار من نافلة القول بإقرانه بهذه الحركة السياسية او تلك ،ولعل هذا ما جعل قصائده تنهل من المواقف الوضعية والأحداث التاريخية التي مرت عليه وتأثر بها وعاشها وعايشها وتفاعل معها.
لو أنَّ مقاليدَ الجَماهير في يدي
سَلَكتُ بأوطاني سبيلَ التمرُّدِ
إذن عَلِمَتْ أنْ لا حياةَ لأمّةٍ
تُحاولُ أن تَحيا بغير التجدُّد
لوِ الأمرُ في كَفِّي لجهَّزتُ قوّةً
تُعوِّدُ هذا الشعبَ ما لم يُعوَّد
لو الأمرُ في كفِّي لاعلنتُ ثورةً
علي كلِّ هدّام بألفَي مشيِّد
علي كُلِّ رجعيٍّ بألفَي منُاهضٍ
يُري اليوم مستاءً فيبكي علي الغد
ولكننَّي اسعَي بِرجلٍ مَؤوفةٍ
ويا ربَّما أسطو ولكنْ بلا يَد
وحوليَ برّامونَ مَيْناً وكِذْبَةً
متي تَختَبرهُم لا تَري غيرَ قُعدد
لعمرُكَ ما التجديدُ في أن يري الفَتي
يَروحُ كما يَهوَي خليعاً ويغتَذي
ولكنَّه بالفكر حُرّاً تزَينهُ
تَجاريبُ مثل الكوكَبِ المُتَوقِّد
مشَتْ إذ نضَتْ ثَوبَ الجُمود مواطنٌ
رأت طَرْحَهُ حَتماً فلم تَتردَّد
وقَرَّتْ علي ضَيْم بلادي تسومُها
من الخَسف ما شاءَتْ يدُ المتعبِّد
فيا لك من شعبٍ بَطيئاً لخيرِه
مَشَي وحثيثاً للعَمَي والتبلُّد
متي يُدْعَ للاصلاح يحرِنْ جِماحُه
وان قيد في حبل الدَجالةِ يَنْقد
زُرِ الساحةَ الغَبراء من كل منزلٍ
تجد ما يثير الهَمَّ من كلِّ مَرقد
تجد وَكرَ أوهامٍ ، وملقَي خُرافةٍ
وشَتّي شُجونٍ تَنتهي حيثُ تَبتدي
هم استسلموا فاستعبَدتْهم عوائدٌ
مَشت بِهمُ في الناس مشيَ المقيَّد
لعمْركَ في الشعب افتقارٌ لنهضةٍ
تُهيِّجُ منه كل اشأمَ أربد
فإمّا حياةٌ حرّةٌ مستقيمةٌ
تَليقُ بِشَعبٍ ذي كيان وسؤدُد
وإمّا مماتٌ ينتهَي الجهدُ عِندَهُ
فتُعذَرُ ، فاختر أيَّ ثَوْبيَك ترتدي
وإلا فلا يُرجي نهوضٌ لأمّةٍ
تقوم علي هذا الأساس المهدَّد
وماذا تُرَجِّي من بلاد بشعرة
تُقاد ، وشَعب بالمضلِِّّين يَهتدي
اقول لقَومٍ يجِذبون وراءهُم
مساكين أمثالِ البَعير المعبَّد
اقاموا علي الأنفاس يحتكرونها
فأيَّ سبيلٍ يَسلُلكِ المرءُ يُطردَ
وما منهمُ الا الذي إنْ صَفَتْ له
لَياليه يَبْطَر ، او تُكَدِّرْ يُعربِد
دَعوا الشعبَ للاصلاح يأخذْ طريقَه
ولا تَقِفوا للمصلحينَ بمَرْصَد
ولا تَزرعوا اشواككم في طريقه
تعوقونه .. مَن يزرعِ الشوكَ يَحصِد
أكلَّ الذي يشكُو النبيُّ محمدٌّ
تُحلُونَه باسم النبيِّ محمّد
وما هكذا كان الكتابُ منزَّلاً
ولا هكذا قالت شريعةُ لَموعد
اذا صِحتُ قلتُم لم يَحنِ بعد مَوعد
تُريدون إشباعَ البُطون لمَوعد
هدايتَك اللهمَّ للشعب حائراً
أعِنْ خُطوات الناهضين وسدِّد
نبا بلساني أن يجامِلَ أنني
أراني وإنْ جاملتُ غير مُخَلَّد
وهب أنني أخنَتْ عليَّ صراحتي
فهل عيشُ من داجَي يكون لسرمَد
فلستُ ولو أنَّ النجومَ قلائدي
أطاوع كالأعمي يمين مقلدي
ولا قائلٌ : اصبحتُ منكم ، وقد أري
غوايَتكم او انني غير مهتدي
ولكنني ان أبصِرِ الرشد أءتمرْ
به ومتي ما احرزِ الغي أبعد
وهل انا الا شاعر يرتجونَه
لنصرة حقٍ او للطمةِ معتدي
فمالي عمداً استضيمُ مواهبِي
وأورِدُ نفساً حُرَّةً شرَ مَورد
وعندي لسانٌ لم يُخِّني بمحفِلٍ
كما سَيْف عمروٍ لم يَخنُه بمشْهَد
أكبرت يومك أن يكون رثاء الخالدون عهدتهم أحياء
أَوَيرزقون ؟ أجل ، وهذا رزقهم صنو الخلود وجاهة وثراء
قالوا الحياة فقلت دين يقتضي والموت قيل فقلت كان وفاء
يا قائد الجيش الشهيد أمضه شوق فزار جنوده الشهداء
أكبرت يومك أن يكون رثاء أجعلت منه موعداً ولقاء ؟
أبرفرف الخلد استفزك طائف لتسامر الخلصان والخلطاء ؟
أم رمت جمع الشمل بعد تفرق ؟ أم أن تثير كعهدك الشعراء
يا أيها "النسر" المحلق يتقي فيما يميل عواصفاً هوجاء
ينقض عجلاناً فيفلت صيده ويصيده إذ يحسن الإبطاء
أثني عليك .. وما الثناء عبادة كم أفسد المتعبدون ثناء
دية الرجال إساءتان ... مقلل وأساء ، جنب مكثر وأساء
لا يعصم المجد الرجال ، وإنما كان العظيم المجد والأخطاء
وإذا النفوس ترفعت لم تفتكر لا الانتقاص بها ، ولا الإطراء
لا يأبه البحر الخضم روافداً يلقي ، ولا زبداً يطير غثاء
لم يخل غاب لم يحاسب عنده أسد، بما يأتي صباح مساء
تحصي عليه العاثرات ، وحسبه ما فات من وثباته الإحصاء
قد كنت شاخص أمة ، نسماتها وهجيرها ، والصبح ، والإمساء
ألقت عليك غياضها ، ومروجها واستودعتك الرمل ، والصحراء
كنت ابن أرضك من صميم ترابها تعطي الثمار ، ولم تكن عنقاء
تتحضن السراء من أطباعها وتلم رغم طباعك الضراء

قالوا : أب بر فكانت أمة ألِفاً ، ووحدك كنت فيها الباء
خبطت كعشواء عصوراً ، وانثنت مهزومة ، فأثرتها شعواء
وأنرت درب الجيل شاءت دربه حيل الطغاة عميةً تيهاء
وعرفت إيمانا ًبشائر وعيه إذ كان يعرف قبلها إغواء
وانصعت في سود الخطوب لئيمة تسدي طلائعه يداً بيضاء
وبرمت بالطبقات يحلب بعضها بعضاً ، كما حلب الرعاة الشاء
ووددت لو لم تعترف شريهما لا الأغنياء بها ولا الفقراء
وجهدت أن تمضي قضاءك فيهما لتشيد مجتمعا يفيض هناء
أسفاً عليك ، فلا الفقير كفيته بؤساً ، ولا طلت الغنيَّ كفاء
قد كان حولك ألف جارٍ يبتغي هدماً ، ووحدك من يريد بناء

لله صدرك ما أشد ضلوعه في شدة ، وأرقهن رخاء
تلج السياسة في تناقض حالها فتطابق العزمات والآراء
كرا وإحجاماً ، ورقة جانب وصلابةً ، وسلاسةً ودهاء
وأريت في "أسوان" قدرة ساحر يسعي ليوسع ميتاً إحياء
وبعثته حياً ودست مشككاً وصفعت همازاً به مشاء
وقمرت شر مقامر وكسبته وسلبته أوراقه السوداء
ورددت كيد مكايد في نحره واصطدته بشباكه إغراء
ولففت رأس "الأفعوان" بذيله وقطعته ، وخطبتها بتراء
وصنعت معجزة "القناة" ورعتهم وسقيتهم حمم الجحيم الماء
وعصرت طاقات الجموع ، ورزتها فوجدتها وَلادةً عشراء
وجسست أوتار النفوس فوقعت لك طُوَّعاً أنغامها السمراء
ألقت إليك قلوبها وعروقها سمحاء ما شاء الندي معطاء
فإذا نطقت ملكت مهجة سامع وخشوعها ، والسمع والإصغاء
وإذا سكت أشاع صمتك رهبةً حتي يخال كتيبةً خرساء

أثني عليك ... علي الجموع يصوغها الزعماء ، إذ هي تخلق الزعماء
ورؤي "حزيران" وحسبك أنه يحيي لنا برؤي "عاشوراء"
ناهضت فانتهضت تجر وراءها شمم الجبال عزيمة ومضاء
واقتدتها فمشت يسدد خطوها أن كنت أنت دليلها الحداء
ونكست فانتكست ... وكنت لواءها يهوي ، فما رضيت سواك لواء
ثقة يحار بها النهي ، ومعزة تاهت علي هام السهي خيلاء
قالوا عميً في العاطفات وندرة بعث الزعيم عواطفاً عمياء
كانوا وعاةً يأخذون طريقهم للموت ، لا غفّلاً ، ولا أُجراء
خار الضعاف دروبهم ، وتخيرت همم الرجال مشقة وعناء

ما كان ذنبك أن يطول علي السري ليل يطيل صباحه الظلماء
يطوي عليه الناكصون جناحهم ويضم تحت جناحه العملاء
كلا ، ولا ذنب الجموع بريئة عذراء من غصب العفاف براء
ما كان ذنب كليكما عدد الحصي أمم تهين بوطئها الحصباء

يا مصر ، نحن الحالمون كما ادعوا حاشا ، وبئست نزعة تتراءي
إنا رئات في حنايا أمة راحت بنا تتنفس الصعداء
لم تأت بدعاً في البيان وإنما كنا لما حلمت به أصداء
لسنا ملائكةً ولكن حسبنا إغراؤها ، لنقاوم الإغراء
نلقي بما وهبت لنا من وحيها عن كل ما تهب الحياة عزاء
لا هم عفوك إننا من قلةٍ خلقت لتعطي حقها الأشياء
خلقت لتدرك ما يخامر نملةً في زحفها ، وحمامةً ورقاء
لتعيش مأساة الخليقة كلها ولتستبين دواءها والداء
وارحمتا للمبصرين تكلفوا أن يسدلوا عما يرون غشاء
دوت حماسات الرجال ، وأرزمت حتي لنستبق الجمال رغاء

ما أشجع "الآساد" تعجز كلها عن أن تنازل حيةً رقطاء
خمس مئوون .. ملة وعروبة تعطي الصغار ثلاثة ً لقطاء
تلهو و "ثاني القبلتين" مباحة وتعيِّد "المعراج" و "الإسراء"
وتزخرف الحلقات كل عشية لتقيم "زاراً" أو تشن دعاء
وتكدس الذهب الحرام كأهله تجد الحياة مذلةً وثراء
وتطارد الفكر الشريف كأنها منه تطارد "هيضة" ووباء
ويشارك "الدستور" وعي مناضل بالمجرمين عقوبة وجزاء
وتفلسف الجور العسيف وتجلد الدين الحنيف ليستحيل غطاء
من فوق أعناق المشانق تدلي خير الرءُوس شهامةً ووفاء
وتكاد أقبية السجون غضاضةً وأسيً تصيح لترحم السجناء
وتعود تعجب كيف كان مكانها من حيث تنطلق الحياة وراء
فيم التعجب ؟ لا نحمل وزرنا قدراً ، ولا ما نحن فيه قضاء
رحنا نقص من الجناح قوادماً وخوافياً قص الغرير رداء
ونزف لا الأرض الوطيئة نرتضي وكراً ولا يرقي الجناح سماء
ساءلت نفسي لا أريد جوابها أنا أمقت الضراع والبكاء
أتري "صلاح الدين" كان محمَّقاً أن يستشيط حميةً وإباء
أم عادت "القدس" الهوان بعينه؟ أم عاد دين المسلمين رياء

يا ابن "الكنانة" وابن كل عظيمة دهياء تحسن في البلاد بلاء
أعزز علينا أن تساء منبئاً ما كنت تكره مثلها أنباء
ذبح "الفداة" ورحت أنت ضحيةً عنهم ، وما أغني الفداء فداء
ذبح "الفداة" وليت ألفي ذابح عن أصبع منهم يروح وقاء
واخزيه "الأردن" صبغ ماؤه من خير أعراق لديه دماء
لا طاولت شمس النهار ضفافه وتساقطت رجماً عليه مساء
نذروا لأشلاء الغزاة بغربه فتساقطوا "شرقيه" أشلاء
تلك العظام سيستطير غبارها يعمي الملوك ، ويطمر الأمراء
وإذا عجبت فأن يضم رهيمها من حوله "الفرقاء" والفرقاء
لجأوا لأدبار "الحلول" فسميت وسطاً ، وسمي أهلها وسطاء

يا مصر ، يا حلم المشارق كلها من عانت الأحلام والأهواء
يا بنت "نيلك" من عذوبة جرسه نغمات جرسك رقة وصفاء
حضن الحياة صبية فمشت به ومشي بها يتباريان سواء
يقظي ليقظان يهز سريرها لم تقو في شطآنه إغفاء
وربيبة "الهرمين" شاخا إذ هما يتبنيانك صبوةً وفتاء
تلقين في السراء سحرك كله وتموعين بصبرك الضراء
وتمونين الدهر سبعاً خصبة يكفي بها سبعاً له جدباء
مشت القرون وخلفت أسحارها ترمي عليك الطل والأنداء
والصبح يصبغ وجنةٍ مشبوبة ً والليل يكحل مقلةً وطفاء
والشمس تلفح سمرة ًعربية ً والنجم يرقص قامة ً هيفاء
ودرجت في حقل "الحضارة" غضة وبدأته تفاحة خضراء
ولممت عن جنبيه أزهار الربي وجلوتهن جنائنا ً غلباء
أسكنتهن الشعر والشعراء والعلم ، والعلماء ، والحكماء
شعي برغم الداجيات ، وزحزحي منها ، وزيدي بهجةً ورواء
وتماسكي ، فلقد صمدت لمثلها وأمر ، ثم أطرتهن هباء
شعي فقارات ثلاث تجتلي عبر العصور سراجك الوضاء
يا "مصر" أحرفك الثلاثة كن لي لولا الغلو الوجد والإغماء
عشرين عاماً لم أزرك ، وساعة منهن كانت منيةً ورجاء
لم ..؟ لست أدري غير أن قصائداً عشرين لم تشفع لديك لقاء
ناغيت فيها شعب مصر وهجته ورجوته أن يركب الهيجاء
وشجبت "فرعوناً" يتيه بزهوه ينهي ويأمر سادراً ما شاء
وظللت أحسد زائريك ، وخلتني رتعاء ، تحسد أختها العجفاء
من كل حدب ينسلون ، ولم أكن وهواك فيهم نسلة نكراء
وهبي ثقيل الظل كنت فلم أطق أفما أطقت فديتك الثقلاء
دللت فيك أُبوة عهدي بها علم اليقين تدلل الأبناء

يا "مصر" لي وطن أجل عطاءه ويحب فيَّ سماحةً وعطاء
يغشي الدروب علي حتي إنني لأكاد أفقد في الزحام رداء
سرنا علي درب الكفاح من انجلي فجر الكفاح بجوه وأضاء
متجاوبين مدي الأبيد أهزه إيثارة ، ويهزني إيحاء
للموت أحدو والشهادة أهله أتري وجدت لأذبح الشهداء ؟
وبمصر لي وطن أطار بجوه ما لا أطار بغيره أجواء
أجد العوالم كلها في سفحه سبحان خالق كونه أجزاء

يا سدرة في المنتهي لم تعترف إلا الظلال الخضر والأفياء
عاطي ظلالك "ناصرا" فلطالما عاطي الجموع ظلاله وأفاء
وعليك يا فخر الكفاح تحيةً في مثل روحك طيبةً ونقاء
إن تقض في سوح الجهاد فبعدما سعرت فيها الرمل والرمضاء
ولقد حملت من الأمانة ثقلها لم تلقها برماً ولا إعياء
نم آمناً ستمد روحك حرة وسط الكفاح رفاقك الأمناء
..الزرقة الكثيفة الشديدة العتمة تتسرب من خلال القضبان الغليظة وتغرقني .. اصعد الي السطح دون عناء يذكر.
اضواء نمنمية تسبح في الزرقة الداكنة مشوشة الانارة ، في القعر فانوس صغير يتأرجح ويقترب..
..الزرقة ليل، والاضواء النمنمية نجيمات متباعدة .. فانوس القعر نجمة الراعي ، وانا افتح عينيّ بكسل..اسمع مع حوار النقيق المتقطع همسات منغّمة .
..ادفع الاغطية عني واجلس علي حافة السرير مرخيا ساقّيّ ، أنصت بإمعان ..
..النقيق يتواصل والهمس ينقطع ..الهمس يعود غناء ..حدواً ..اسرح بعيداً في متاهات ضبابية شفافة
دون أخيلة واضحة المعالم.
.. انهض وامسح عينيّ ..
أتكيء علي حافة السياج الخشبي واسند ذقني الي راحة كفي .
.. زرقة حبر الليل تسيل .. تذوب في عتمة دجلة ،
لاحدود بينها وبين الستارة المنسدلة المرصّعة بالماسات الصغيرة المتلامعة والجوهرة الكبيرة الساقطة من اعالي الزرقة السماوية الكثيفة الي القعر.
ازيز جنادب يتجاوب..صوت مجذاف يقترب .. تختلط اصوات ضرباته بالنقيق، واضواء ذابلة ، وانعكاسات متكسرة تتحرك فوق سطح الماء ..
يعود الحادي لغنائه المهموس.
أتأمل الحادي منسرحا فوق شازلونج في الشرفة شبه دائرية الممتدة داخل النهر ومسرحّاً بصره في الافق
اللا محدود للظلمة..يتوقف الحادي عن الغناء وينصت ..النقيق يتواصل مع حوار الجنادب وانغام ضربات المجداف .
.. الانغام تقترب من حافة الشرفة ..تعبر ساحة الدار المكشوفة ..تنساب- صاعدةً- فسحة الدور الثاني حيث اقف .
.. وجهي يَندي بنثّ قطرات ماء المجذاف .
سلامٌ علي جاعلات النقيق..
سلامٌ علي جاعلات النقيققققْ ..
النقيق.. الهوي..الهوي..
بريدَ الهوي
.. جاعلات النقيقْقققِ ..بريد الهويآآآ..
علي الشاطئيييين .. بريدَ الهوي ..بريدَ الهويآآ
سلامٌ علي جاعلات النقيقِ .. علي الشاطئييييين
سلامٌ علي جاعلات النقيقَ علي الشاطئينِ بريدَ الهوي
يستمر الحدّاء في الغناء منتقلا من صورة لأخري وتختلط انغامه بانغام الجنادب ونقيق الضفادع وضربات
المجداف وصيحة ديك مبشر بأن " بأنْ قد مضي الليل ُ إلا إني " ..
ينهض الحدّاء فينقطع الغناء ..يتوجه الي حافة الشرفة . يقف منصتا دون حراك ومجيلا بصره بين آن وآخر
من اضواء الجسر المترائي علي اليمين الي موقع الشاطيء الرملي الذي يشّف بين ستارة الليل الكثيفة وحبر
النهر الداكن ، ثم يسارا حيث يتمايز شعر سعالي النخيل المشتبك، كتلة مكثفة من ظلمة الليل .
..اسمع انغام الحادي تتعالي برفق من جديد..
علي الجسر ما انفكَ من جانبيييه..
علي الجسر ما انفكَ من جانبيه.. .. علي الشاطئيييين..
علي الجسرِ ما انفكَ من جانبيه
أأأأأأأأ الهوي ي آآ
يتيح الهوي..
..الهويآآآ
يتيحُ الهوي..
من عيونِ المهآآآ
علي الجسرِ ما انفكَ من جانبيهْ
يتيحُِ الهوي..
من عيونِِ المهاِ
عليا النخلْ
علي النخلِ
ذي السعفات الطوالْ
ويستمر الغناء واستمر في السرحان في الظلمة وفي متابعة الحادي الذي يخترق الظلمة بقامته الفارهة والذي يٌنظِّم بايقاعاته سمفونية الفجر المقترب .
- ايه دنيا !
يلقي الحدّاء نظرة اخيرة سريعة من الشرفة علي بانوراما دجلة الليل ،ويستدير ويخطو ، ويبدو أن تأملاته لم تنقطع تماماً و هويرتقي السلالم ، دون أن ينتبه الي موضع اطلالتي عليه من متكئي علي سياج ممر الدور العلوي ، ولا في انني كنت اتابعه في حدوه وتغنيه بالابيات المنظومة .
- انت هنا ؟ يسأل مبتسماً وفي دهشة.. منذ متي وانت هنا ؟ .. ما الذي صحّاك في مثل هذه الساعة والفجر لم
يَبن بعد ؟
انه يعرف انها لم تكن المرة الاولي لمثل هذه الاطلالة والمتابعة ، ولا في انني ساذهب وارتدي ملابسي علي
عجل لاسبقه الي الممر قرب باب الدارلمرافقته..او الاصح اللحاق به في خروجه اليومي عند الفجر.
لقد فات وقت محاولة الاقناع ، بثنيي ، لامنعي عن هذا الامر، والعودة الي سريري ، فقد مر علي ذلك زمن ، وكاد يصبح لحاقي به ،عادة يومية اثناء العطل المدرسية . بل لقد اصبحتْ وربما ومن المرة الاولي مرافقةً ، تقابل بالجذل،.. وإن لم يخل من استغراب مصحوب بحنان ، يحاول جاهدا ان لا يكون معلناً تماماً.
خطواته واسعة ، لم احاول ان اجاريها . لا ولم احاول ان يكون موقعي ، في شبه هرولتي ، مجاورا له في سيره .. إلا ما ندر، حين ياخذني إما فضول ، او رغبة في ان اشعره ، انني لا ازال موجودا، وأن لا حاجة به الي الالتفات الي الخلف للاطمئنان انني لست بعيدا عنه كل البعد .. حينها ارفع راسي وانا ما ازال مواصلا خطوي السريع واتمعن في وجهه. فأما اجده مبحرا في عالم بعيد المتاهات او منشغلا في دمدمة حدائه المنغم الخافت.
الظلام لا يزال سائدا ، إلا ان اضواء المصابيح اليسيرة المتباعدة، تلقي ظلالها الشبحية علي الشارع اكثر مما تنيره ، فتبعث فيه الكثير من الغموض ، واجواء من الخرافات والاساطير ..
هذه الازقة الجانبية الغارقة في العتمة.. كم فيها الآن من الطناطل والسعالي ، تلك التي تناقلنا حكاياها انا وصحابي في الليالي ، ونحن نجلس عل عتبة دار احدنا ..كم فيها من ارواح هائمة . خصوصا في تلك الازقة الضيقة المؤدية الي ارصفة دجلة وشرائعها ..،هناك حيث الغرقي يخرجون من اعماق دجلة ملتفين بألاعشاب وملطخين بكتل غريّن القاع اللزج الكثيف ، وبعين واحدة محدّقة ، وتقحوّر الاخري التي اكلتها الاسماك..
حين اصل الي مشهد الغريق الهائم ، يتصاعد الوجيب في صدري وتصخب به اذناي.. اسرع اكثر مقترباً من ساقّي والدي .
..انظر من جديد الي الزقاق ، فاما ان يكون شبح الغريق قد هرب واختفي ، او انه يبدأ الآن في الاستدارة عائداالي مكانه من ظلامات النهر القريب.
ها هي اضوية الجسر الجديد تتلألأ ..لقد انتصر النور اخيراً !
عند مدخل رصيف الجسر يستدير والدي نحوي ، فافهم الرسالة المعتادة
..اقترب علي عجل فيمسك بيدي ويبتسم ونواصل السير سوية ،
جنبا الي جنب ويدا بيد .
ثم عند الربع الاول من الجسر يترك كفي ويبطأ سيره .
نواصل العبور شبه متلاصقين..
حين نصل نهاية الجسر ، يمسك بكفي من جديد لنستدير داخلين سوق السراي .
يبدأ بعض باعة الكتب فيه بفتح ابواب دكاكينهم ، فتصبح بقع اضويتها كافية لانارة اجزاء من السوق .
.. حينها يترك كفي من جديد ، وكل منا يعود الي مساره وعوالمه..
- صباح الخير استاذ ،يرفع احد الباعة صوته.
- صباح الخير والسلامة ابني
- صبحكم الله بالخير ابو فرات ، تنطلق التحية من دكان ثان.
- صبحكم الله بالخير حجي ، يجيب الوالد رافعاً يده بالتحية وهو يواصل سيره
- " أبوفرات .. كبة تلوك لهل الحلك الذهب ، خلي استفتح بيك رزقي اليوم ! "
- " تشكرْ ابو بهية ..صارْ. . لِفْ اثنين ودزهنْ للجريدة ..تفضل !
- " خليها عليّه ابوفرات. .الله يزيدك، هاي هواية انطيتني ! "
- " لُطفكْ كان أَزيَدْ .. هذا إِستفتاحْ ابو بهية وانشالله بيها البركة. "ننعطف علي شارع المكتبات وتستمر تصابحات الخير،.. وتتزايد حين نستدير علي شارع الرشيد، مقتربين
من مقهي" حسن عجمي " .
يدخل المقهي دون أن يلتفت صوبي ويلقي التحايا ، ويتوجه الي ركنه المعهود قرب الزاوية اليمني.
اقف عند المدخل الواسع ماسحاًً ببصري تفاصيل المقهي..
..علي اليسار من المدخل، تصطف اباريق الشاي المختلفة الحجوم علي رفوف متدرجة ، الوانها زاهية
ونقوشها في الغالب اوراد متباينة الاحجام ، واغصان مورقة ، واشكال نجمية ودائرية متداخلة..
علي يمين الاباريق ، هنالك سماور نحاسي ضخم يضيء بلمعانه ، وآخر مماثل تماما له علي اليسار. ..تصطف امام اباريق الشاي ومن الجانبين سماورات اصغر ، تتدرج في ارتفاعها .
في ارجاء المقهي تنتشر تخوت من خشب عاتم ،بصفوف متقابلة، عدا تلك التي تستند علي جدران المقهي
الثلاثة .
. .يغطي سطوح التخوت وظهورها سجاد ايراني .
ارضية المقهي مرصوفة بالطابوق الفرشي النظيف والمندّي دائما . أما انارته فهي مما يسمح بالهدوء
والتأمل ،وقراءة الجرائد بالطبع ،وهي تأتي من فوانيس كهربائية نحاسية مزخرفة تتدلي من اماكن عديدة من
السقف .
يجلس " حسن عجمي " بجسمه الضخم الممتليء وراء طاولة فوقها صوان ٍ نحاسية مختلفة الأحجام، يضع فيها الخارجون حساباتهم من القطع المعدنية .
.. وجهه وادع بشوش علي الدوام ..
يستقبل حسن عجمي رواده بالتحايا ويودعهم ،وهو جالس وراء طاولته، بالسلامة او بمعية الله . . يقوم احيانا لنجدة " الجايجي " العجوز، والمنشغل دائما في ملءِ اباريق الشاي بالماء المغلي من احد السماورين الضخمين ، او بدلق الشاي من ابريق لآخر، او بغسل اقداح الشاي الصغيرة - الاستكانات - وصحونها ، وبالطبع في ملئها وفق طلبات الزبائن، والتي ينادي مساعده صانع المقهي بها بصوت عالي منغّم : " واحد شاي واثنين حامض وواحد زهورات "
.. صانع المقهي يقوم بإيصال الطلبات الي رواد المقهي .. اما الماء فيدور به ساق ٍ خاص يدور باستمرار بين التخوت حاملا دورق الماء في يمينه ومنغّماً رنات الاقداح العديدة ،التي يحملها بيساره .
ما يسترعي اهتمامي ، ليست كل هذه التفاصيل التي احبها اكثر من اي مكان آخر ارتاده مع والدي .. ..
..الفرحة المشرقة دائما هي في ببغاوات حسن عجمي الثلاث بالوانها الصاخبة، ولغوها المدمدم ذو النبرة الجادة.. انها تصدر اوامراً، اوتلقي حكماً ومواعض.. واياًهي المفردات التي ترددها ، فقد كانت دائماً تدمدم بها علي عجل شديد .
..اخطو بحذر وببعض الخجل من الحاج حسن .
..يبتسم مشجعاً..هويعلم كل العلم انني اقترب لا منه ، ولكن من ببغواته الثلاث .
ها هي الكبيرة منها ، و التي يغلب اللون الاصفر علي بقية الوانها ، تفلح ودون جهد ، من تسلّق ذراعه الايسر وتقف شامخةفوق كتفه..
.." سلامُ عليكم ..سلامُ عليكم " تدمدم العابثة الصفراء ، عاقفة رأسها المتوّج الممدود تجاه الجانب الايسر للحاج حسن ..تلوي رأسها اكثر لتظهر تساؤلها الواضح وانتظارها الملّح بعينها المدورة البراقة ، و التي اصبحت تواجه عين الحاج اليسري.
..يرفع الحاج حسن يده اليسري بهدوء ودون اكتراث ظاهر، مقدماً حبة يقطين بيضاء كبيرة ..تلتقطها
الببغاء اللعوب بهدوء ودون عجلة وتبدء في تكريزها ، غير ناسية ان تلقي بالقشور المنزوعة ، ومن موضعها ذاك ، الي الصينية الموضوعة علي المنضدة تحتها .
الببغاء الضاربة الي خضرة عشبية براقة، تتناول باناقة حبة من بضعة حبوب منثورة فوق المنضدة
دون ان تلقي بالا ً، لا الي الحاج ولا غيره .
الثالثة منشغلة بحل معضلة كبيرة وهي تروح وتجيء بكبرياء ملكية وقورة فوق المنضدة، مطرقة برأسها ونافشة ريش عنقها.
.. يناولني الحاج بضعة حبات بيض سمان..
..اقترب من الصفراء اللعوب المنتصبة فوق الكتف الايسر
..تعقف رأسها و تدير لي عينها المدوّرة اليسري متفحصة متسائلة
..تلمح الحبة البيضاء بين اصبعيّ :
.." سلام ُعليكم ..سلامُ عليكم " ترطن الببغاء .
اجلس علي التخت بهدوء الي جوار والدي المنشغل بقراءة احدي الصحف ..بعد حين ينتبه الي وجودي:
- " شَربتْ شيْ ؟ "
..اهز رأسي بالنفي .
- " ابو محمد ! من فضلك !..يخاطب ساقي الماء..فد كَلاصْ شربت زبييب وصمونة بيها قيمر من ابو شربت الزبيب اللي يمكم ، لحضرة الافندي ..يشير اليّ مبتسماً ".
..بائع الجرائد الصباحية ، والتي توزع الي الباعة المتجولين عند الفجر ،يمر بين تخوت زبائن المقهي حاملا جرائده بشكل تظهر اسمائها وعناوينها واضحة للجالسين علي تخوت المقهي
..يشتري البعض بضع صحف .
الغالبية من رواد المقهي هم من زبائن شخص آخر ممن يؤجر قراءة الصحف ، يدور عليهم معيراً اياهم الصحيفة المطلوبة ، ورافعا الجريدة التي انهي الزبون قرائتها والتي يضعها جنبه علي التخت ، ليعيرها الي زبون ثان ٍ لم يطالعها بعد .
- " كبه يا الله ..كبة ياالله ، " تدمدم علي عجل الببغاء الصفراء.
.. " كبة يا الله ..كبة يا الله " تكررها ذات اللون الاخضر ،..
..ويستمر سجال المناداة المنغم ، حتي يتناهي من علي رصيف الشارع ، الذي يطل عليه المقهي ،صوت جهوري مبحوح :
" كبة يا الله ..كبة يا الله "
..يظهر رجل ضخم متقدم في العمر يحمل طنجرة كبيرة فوق راسه المعتمر بمخدة دائرية يستقر فوقها القدر الذي يتصاعد من تحت غطاءه البخار ..
- " كبة يا الله ..كبة يا الله " ، يكرر الرجل النداء، ويقف مستديرا بحذر ومواجهاً المقهي وروادها ويكرر ندائه:
" كبة يا الله ..كبة يا الله " .
نعبر شارع الرشيد الشبه خالي من السيارات وعربات الخيل ..نمر ببضعة محال كانت قد فتحت ابوابها.
..نتجاوز جامع " الحيدرخانة " ، لنصل بعده بقليل الي سلالم تنحدر الي زقاق ضيق ، تمتد علي جانبيه دورمتراصة ، ذات ابواب ضخمة قديمة خشبية ، بنقوش بارزة ومطارق نحاسية كبيرة .
بعد اجتياز بضعة بيوت ، تبان قطعة خشبية علقت فوق باب مفتوح بضلفتين ..القطعة، مؤطرة بإطار متواضع، كتب عليها بخط جميل، " جريدة الرأي العام " وتحت هذا العنوان وبخط اصغر "، جربدة يومية سياسية " .
..دخل الوالد ، وبخطي واسعة اجتاز الممر الصغير ونصف الساحة المكشوفة ،ناهباً درجات السلم الي الدور
الثاني.
..لم ينتظر جواب تحيته الصباحبة لعمال الطباعة في الدور الاول ، وربما لم تصل الي مسامعه وهو يقطع المسافة الي غرفة تتوسط الجانب الايمن من الدور الثاني وتشرف ،عبر نوافذها العديدة الطويلة ذات القضبان الحديدية، علي الدار كله بطابقيه
في اقصي زاوية من الغرفة، يجلس شاب نحيف قصير وراء منضدة صغيرة، واضعا اذنه لصق مذياع صغير، ومدونا غلي عجل ما يتنصت اليه ..يهبّ الشاب عند دخول والدي .
- اهلاً استاذ .. صباح الخير، يسبق الشاب الوالد بتحيته .
- صباح الخير ،.. ها سليم ؟! التقطت شي مهم من الصبح ؟ يقول والدي ذلك ،دون ان يلتفت تجاه سليم .
..سليم التكريتي يواصل الاستماع الي الراديو الضخم ويخربش بسرعة كبيرة ، بكفه القميئة الاصابع ، حروفا واشارات فوق قصاصات ورقية .
..والدي منشغل بخلع سترته علي عجل وتعليقها علي ظهر كرسيه ، وراء طاولة غير كبيرة ، مزحومة بالصحف الصباحية، وقصاصات اوراق مطبوعة، واجندة صغيرة، واوراق مكتوبة بخط مختلف .
سلام ٌ علي هضباتِ العراق ِ
وشَطيه ِ والجُرفِ والمُنحني
علي النَخل ِ ذي السَعفاتِ الطوال ِ
علي سَيد ِ الشجرِ المُقتني
ودجلة َ إذ فارَ آذيّها
كما حُمّ ذو حَرد ٍ فاغتلي
ودجلة َ تمشي علي هَونِها
وتمشي رُخاء ً عليها الصَبا
ودجلة َ لهوُ الصَبايا المِلاح ْ
تخوض ُ منها بماء ٍ صَري
تُريكَ العراقي َ في الحالتي
ن يُسرف ُفي شِحه ِ والَندي
سلام ٌعلي قمر ٍ فوقَها
عليها هَفا واليها رَنا
علي الجسرِ ما انفك ّ َ من جانبيه
يُتيح ُ الهوي من عيون ِ المَهي
سلام ٌ علي جاعلات ِ الَنقيق
علي الشاطئين ِ بريد َ الهوي
تَقافزُ كالجن ِ بين الصخور
وتندسّ ُ تحتَ مَهيل ِ النَقا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.