بالأسماء، وزير الداخلية يأذن ل 21 مواطنا بالحصول على الجنسيات الأجنبية    «بحر البقر».. أكبر محطة بالعالم لمعالجة الصرف الزراعى بسيناء    رئيس الوزراء يُهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    إزالة 36 حالة تعدي على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    «مدبولي» لممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية: نهتم بتوسيع نطاق الاستثمارات بالمجالات المختلفة    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    «الإسكان»: بدأنا تنفيذ 64 برجا سكنيا و310 فيلات في «صواري» الإسكندرية    وزير التعليم العالي: توسيع التعاون الأكاديمي وتبادل الزيارات مع المؤسسات البريطانية    ارتفاع عدد المعتقلين خلال الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية إلى 1700 شخصا    جيش الاحتلال يقصف مسجد القسام في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    سفير روسي: اتهامات أمريكا لنا باستخدام أسلحة كيميائية «بغيضة»    غضب الله.. البحر الميت يبتلع عشرات المستوطنين أثناء احتفالهم على الشاطئ (فيديو)    الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني وتدمير 12 طائرة مسيرة كانت تستهدف مناطق في العمق الروسي    ميدو يصدم قائد الأهلي ويطالب بتسويقه    التشكيل المتوقع لمباراة روما وليفركوزن بالدوري الأوروبي    موعد مباراة الزمالك والبنك الأهلي في الدوري المصري الممتاز والقناة الناقلة    صباحك أوروبي.. حقيقة عودة كلوب لدورتموند.. بقاء تين هاج.. ودور إبراهيموفيتش    حالة الطقس اليوم الخميس.. أجواء معتدلة على أغلب الأنحاء    تفاصيل الحالة المرورية بالقاهرة والجيزة.. «سيولة في شارع الموسكي»    تحرير 11 محضرًا تموينيًا لأصحاب المحال التجارية والمخابز المخالفة ببلطيم    العثور على جثتي أب ونجله في ظروف غامضة بقنا    مصرع طالب صدمته سيارة مسرعه أثناء عودته من الامتحان ببورسعيد    بعد 119 ليلة عرض: رفع فيلم الحريفة من السينمات.. تعرف على إجمالي إيراداته    هل توجد لعنة الفراعنة داخل مقابر المصريين القدماء؟.. عالم أثري يفجر مفاجأة    تامر حسني يدعم بسمة بوسيل قبل طرح أغنيتها الأولى: كل النجاح ليكِ يا رب    بعد أزمة أسترازينيكا.. مجدي بدران ل«أهل مصر»: اللقاحات أنقذت العالم.. وكل دواء له مضاعفات    «الوزراء»: إصدار 202 قرار بالعلاج على نفقة الدولة في أبريل الماضي    بحضور السيسي، تعرف على مكان احتفالية عيد العمال اليوم    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    نسخة واقعية من منزل فيلم الأنيميشن UP متاحًا للإيجار (صور)    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    أوستن وجالانت يناقشان صفقة تبادل الأسرى والرهائن وجهود المساعدات الإنسانية ورفح    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول ترجمة جونتر جراس إلي العربية
الإيقاع وصداه البعيد
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 03 - 2014

لابدّ من الإشارة في البدء إلي أننا سنتناول في هذه المقدمة القصيرة موضوعاً واحداً يتعلّق بترجمتنا لرواية "طبل الصفيح" للكاتب الألماني جونتر جراس والصعوبات التي رافقت هذه الترجمة. وبلا شكّ أنّ جونتر جراس يعتبر من الأدباء المتعدديّ المواهب، فهو روائي وقاص وشاعر ومؤلّف مسرحيّ ورسّام ونحّات وخطيب سياسيّ. لكنّ المنحي الروائي قد غلبَ علي نشاطه الإبداعي منذ صدور روايته »طبل الصفيح« التي نشرت في عام 1959 للمرّة الأولي

يتسم أدب جراس، وربّما علي العكس من أدائه الفنيّ التشكيليّ، بقوّة العبارة ومتانتها وإنغلاقها أحياناً، وكذلك إحالاتها التاريخية والفكرية والسياسية العديدة؛ مما يجعل هذا الأسلوب صعباً ومعقداً بسبب خصوصيته المحلية الصرف، علي الرغم من انتشاره في جميع أرجاء العالم. غير أنّ الصعوبة بحدّ ذاتها لا يجوز أن تكون حائلاً دون نقل الإبداع الأدبي العالمي، إنما قد يجد فيها المترجم متعةً فكريةً وتحدياً لغوياً لا مناص من خوض غماره. وبالأخص حينما يتمّ هذا النقل من لغة مثل اللغة الألمانية المعروفة بتركيباتها النادرة إلي اللغة العربية التي لا تقل عنها تعقيداً وبلاغةً، وهنا بالذات تكمن معضلة الترجمة كلّها. ولكي نتأكد من صحّة هذا الرأي فعلينا أن نبدأ بعنوان الرواية في الأصل الألماني وهو Die Blechtrommel وقد جاء معرفاً بأداة تعريف المؤنث die ، فهو يتحدث إذن عن طبل صفيح محدد ويعبّر تعبيراً شاملا ً عن محتوي الرواية، بينما نجد مسميّات مثل »الطبل الصفيح« أو »طبلة الصفيح« أو »الطبلة الصفيح«لا تعطي المعني ذاته، وسيظل الإيهام يرافقها حتي لو حملت لام التعريف، لأننا لو قلنا علي سبيل المثال: »عندما يدخل الزائر إلي المغرب يجد كذا وكذا«، فإننا لم نعرف شيئاً في واقع الأمر. وبهذا المعني فإننا لو قلنا طبلة صفيح أو طبل صفيح أو طبلة الصفيح فسوف لا يتغيّر في المعني شيء، لأن هذه التسميات لا تدل بدقّة علي شيء معرّف ومحدد تماماً مثل قولنا »حين يدخل المرء إلي المقهي...« فالمرء هنا سيبقي نكرة علي الرغم من لام تعريفه، علي العكس من سياق الأصل الألماني المحدد تحديدا كليّاً. ومع ذلك وتسهيلاً للأمر جعلنا العنوان "طبل الصفيح" بمعناه الشامل. وعلي أية حال، يجب أن لا نبالغ في أمر التسمية طالما هناك بدائل تتيحها لنا اللغة العربية عند الضرورة. وحسنا ً فعل المترجم الفرنسي عندما اختار مفردة واحدة هي »الطنبورة« المأخوذة من العربية التي اقتبستها بدورها عن الفارسية فجعلها عنواناً. وبهذا السياق فإن اسم Guenter Grass يكتب عندنا بثلاث طرق مختلفة فهو كونتر كراس أو جونتر جراس في المشرق العربي أو جونتر جراس في مصر حيث عرفت روايته بالطبلة الصفيح.
أسلوب الرواية
يتضح من خلال العنوان أنّ هذه الرواية تتحدث عن أداة أو آلة لها علاقة بالفن والموسيقي، أي الطبل الذي يقرع أو ينقر عليه. وتنتمي حسبما يقرر محقق أعمال جراس فولكر نويهاوس إلي جنس الرواية التربوية التعليمية Bildungsroman علي غرار »سنوات تدريب فيلهلم مايستر« لغوته و »هاينرش فون أوفتردنغن« لنوفالس و »هاينرش الأخضر« لغوتفريد كللر و »دكتور فاوستوس« لتوماس مان. بيد أنّ غراس نفسه أكّد في أكثر من مناسبة بأنه كان متأثراً بأسلوب الكتابة السائد في المغرب العربي إبان العصور الوسطي ومثلما جسدته روايتا "سبمليسسيموس" Simplicissimus لغرملسهاوزن و"دون كشيوت" لسرفانتس، هذه الرواية التي استوحي غراس الكثير من مقومات بنائها وتقنياتها وأجوائها فيما يتعلق بمعالجة الشخصية ذات النزعة السلبية والساذجة أو الفطرية ومراقبة تطورها النفسي والذهني. وعن تأثره بهذا الأسلوب يقول غراس «إن من يتمعّن في قراءة سرفانتس سيلاحظ من خلال الإشارات التناصية أن سرفانتس استفاد من إقامته وسجنه في بلاد المغرب استفادةً عظيمة، واعتمد أسلوب السرد المشرقي وطوّره.» وأشار جراس إلي أنه تأثر بكتّاب عصر الباروك أيضاً في ألمانيا والذين كانوا قد تأثروا بدورهم بأساليب السرد الشائعة في أسبانيا آنذاك، بعد أن استعاروا شخصية »البطل« المتشرد المشاكس أو الظريف أو الشاطر مثلما يطلق عليه أحياناً، ونقصد به شخصية البيكارو Picaro. ونجد هذا النمط في الشخصيات المتسمة بالجرأة والقدرة علي السخرية والنيل من الآخرين في بعض الحكايات العربية السائدة آنذاك في عموم المغرب العربي ومشرقه، ومنها علي سبيل المثال حكاية أبي زيد الهلالي والأمير حمزة البهلوان ومنامات ركن الدين الوهراني، وما إلي ذلك من الأدب الشعبي والموروث القصصي. وعلي هذه الموروثات والذخائر الفنيّة اعتمد غراس في بناء شخصيته الرئيسية »أوسكار« وسرد الأحداث الكبري من خلالها. والرواية بمجملها قائمة علي الوقائع المتسلسلة التي لعبت دوراً بارزاً في تاريخ مدينة غدانسك أو »دولة غدانسك الحرّة« فيما بعد، حيث ولد الكاتب جونتر جراس وحيث تدور معظم أحداث رواية »طبل الصفيح«، بالإضافة إلي روايتي »قط وفأر« و »أعوام الكلاب« المصطلح عليها »بثلاثية غدانسغ«. وغونتر غراس يكثر من استخدام أسلوب التقويم الزمني الذي يتيح التعرّض إلي جملة من الأحداث السياسية والعسكرية خارج السياق الروائي وتوظيفها دون أن ينضب معينه التاريخي والسياسي. وإذا ما أضفنا تاريخ ألمانيا »البرويسية« و»الاتحادية« و»الديمقراطية« إلي تاريخ غدانسك ودولة بولندا، فإننا سنحصل في نهاية المطاف علي مشروع روائي مفصّل وبالغ الشمول. ونكاد نعثر في كلّ مقطع علي عدد من الإحالات التي تتطلب اطلاعاً معيناً علي تاريخ ألمانيا القومية وبولندا أيضاً، وبالأخص علي التاريخ الحديث لدولة غدانسك التي شنّت ألمانيا النازية من أجل ضمها إلي الرايخ الثالث حرباً علي بولندا، معلنةً بدء الحرب العالمية الثانية التي رسمت الحدود الحالية للقارة الأوروبية برمتها.
لغة جراس
صحيح أن »ثلاثية غدانسغ« ليست عملاً بيوجرافياً في المقام الأوّل، إلا أنّها انطوت علي معالم محلية متعددة، تصدرها مسقط رأس غراس نفسه، أي موطن الكاشوبيين الذي كان ومازال الكاتب شديد التعلّق به والولاء له، بحيث استطاع أن ينقذ بعضاً من لغة هذا الشعب الصغير الذي تنحدر منه والدته. وفي كتابه »من يوميات حلزون« يخاطب جراس ولده »راؤول« بالقول: »أريد أن أبلغك أنتَ، يا من تهتم بفروع الأشجار والحدود غير المنتظمة، بأن الكاشوبيين أو الكاسوبيين الذين يرجّح بأن ثلاثمائة ألف منهم مازالوا يعيشون اليوم، هم من قدماء السلافيين ويتكلمون لغةً مهددةً بالانقراض، لغةً مطعّمةً بالمفردات المستعارة من اللغتين الألمانية والبولندية«. وبات جراس مولعاً باللغة الكاشوبية وبذل قصاري جهده بغية إحيائها من خلال اللغة الألمانية، لغة الأبّ إن صح التعبير. لكنّ هذه اللغة التي استخدمها جراس لم تكن عادية تقليدية ومألوفة، إنما لغة خاصة به وحده، أوجدها لنفسه، أو أعاد صياغتها، فصار ينحت ويشتق منها كما يشاء. ولم يكتف بذلك، إنما وضع لها لحناً مميزاً يتناغم مع إيقاع الجملة طولاً وقصراً، مولّداً أنغاماً وإيقاعات موسيقية وصرخات بشرية وأناشيد جماعية وغير ذلك من الأصوات التي يشهدها المرء في
الحرب والسلم. وقد عرف عن غراس أيضاً أنه كان يردد ما يدونه بصوت عال كما لو أنه يلقيه إلقاء، مما جعله يحظي بإعجاب المستمعين الألمان في أماسيه الأدبية. فالتطبيل إذن هو السرّد وقد اتخذ طابع القرع اللغوي بمضربين لا يختلفان عن قلميّ الكتابة بغيةَ أيقاظ الحواس واستحضار الذاكرة واستنطاق التاريخ. والطبل هو الأداة القابضة علي الإيقاع والضابطة له منذ بداية الراوية وحتّي نهايتها. ونورد هنا بعض النماذج المتعلقة بإيقاع الجملة: «كانت بناية المسرح البلدي، أي مطحنة البنّ الدرامية، قد أغرت أصواتي الجديدة المتكلفة التي جربتها فوق سطحنا، فوجهتها نحو نوافذها المصطبغة بحمرة الشمس الغاربة. وبعد دقائق من الصراخ المتنوع الشحن والاحتقان الذي لم يسبب ضرراً تمكنت من استخلاص صوت غير مسموع إلي حدّ ما، فأصبح بإمكان أوسكار أن يعلن بفرح وبفخر خائن غدّار: لقد توجّب علي زجاجتين في الوسط من الجهة اليسري لنوافذ البهو التخلّي عن شمس الغروب، حتّي أصبح يمكن التعرّف عليهما كمربعين سوداوين، يحتاجان إلي تركيب زجاج جديد علي وجه السرعة. وفي مشهد مؤثر يصف أوسكار حالة الحزن التي استبدت بوالده ماتسرات إثر فقدان خليلته، والدة أوسكار، فيقول: »كنت أري ماتسرات الذي لم يكن يحتسي الخمر في زمن أمّي إلا بصحبة الآخرين، جالساً بمفرده في وقت متأخر خلف كأس صغيرة مخصصة لجرعة واحدة، ويتطلّع بنظرة مخمورة. وكان يقلّب ألبوم الصور، محاولاً، ومثلما أفعل أنا الآن، إحياء ذكري أمّي المسكينة بصور سيئة أو جيدة الإضاءة، ثمّ يبكي في منتصف الليل عندما تحين ساعة البكاء فيخاطب هتلر أو بيتهوفن المتجهمين المعلقين قبالة بعضهما البعض[...] وبدا أيضاً كما لو أنه كان يتلقّي إجابة من ذلك العبقري الأصم ، في حين كان القائد الزاهد بالشرب يلوذ بالصمت، لأن ماتسرات الذي كان مسؤول خليّة صغيرة وسكيراً تراءي غير جدير بالتنبؤ بالمستقبل. ومن المفيد هنا أن نأتي بمثل آخر علي انشغال غراس بهاجس الإيقاع وهو المثل الذي يلخّص كل ما شهده أوسكار، البطل المركزي، ومحتوي الرواية، بعد أن منحه طابع الصلاة الأخيرة: «ما الذي عليّ أن أقوله الآن: فتحت اللمباتِ ولدتُ وفي سنّ الثالثة توقفتُ عن النمو عمداً، وطبلاً تسلمتُ، وزجاجاً حطمتُ وعطر َ فانيلا شممتُ، وفي الكنيسة سعلتُ، ولوتسي أطعمتُ، ونملا ً راقبتُ، وعلي النمو أصررتُ، وطبلاً دفنتُ، وإلي الغرب رحلتُ، والمشرقَ أضعتُ، والنحتَ تعلمتُ، وموديلاً وقفتُ، إلي التطبيل عدتُ، فالخرسانة تفقّدتُ، ومالاً كسبتُ، وإصبعاً حفظتُ، وإصبعا أهديتُ، وضاحكاً هربتُ ، وبسلّمٍ طلعتُ، وللاعتقال تعرضّتُ فحكمتُ وإلي المصحة نقلتُ، ثمّ بُّرأت، واليوم في عيد ميلادي الثلاثين احتفلتُ، لكنني خائف من الطاهية السوداء مازلت - آمين.» والترجمة في معظم الأحوال هي تفسير للنصّ، وأحياناً يوقف هذا التفسير العبارة الأصلية علي معني واحد لا غير، فيحدّ من تداعياتها وإيحاءاتها ويخلّ كذلك بتركيبها. وعندما يقدم مترجم آخر علي نقل نصّ مترجم أصلا ً إلي لغة ثالثة، مثلما حدث مع رواية "طبل الصفيح" التي صدرت بترجمتين عن الفرنسية والإنجليزية وغير مرخّص بهما، فإن هذه التداعيات والإيحاءات الشاحبة في الترجمة الأولي ستختفي لا محالة، فضلاً عن وقوع المترجم الثاني في أخطاء لا حصر لها. وستكون أسماء الشخصيات والمدن والشوارع والأنهار، أي طوبوغرافيا العمل الذي أريد له أن يكون بمثابة طوبوغرافيا قوم ودولة اندثرا فلم يخلفا سوي الحنين والأسماء وبقايا لغة تتعرض للانقراض، ستكون هذه الأشياء كلّها من أول ضحايا الترجمة غير الأصلية. والرواية بمجملها عبارة عن قراءة تاريخية نقدية للأحداث المهمة التي شهدتها أوروبا وألمانيا علي وجه الخصوص، ولذلك فإن أسماء المواضع تشير حيثما وردت إلي أحداث تاريخية مهمة، وأي تحريف فيها قد يؤدي إلي سوء فهم، أو إلي التقليل من أهمية الحدث ذاته، فضلاً عن أن هذا التصحيف يؤدي بالضرورة إلي اختلال الصورة الفنيّة وتداعياتها.
ثراء السرد وفقر القاموس
ومن الطبيعي أنّ الكاتب المتميّز لابد أن يكون له أسلوبه الخاص، بصرف النظر عن جودة هذا الأسلوب أو عدم جودته، لكنه يظل في كل الأحوال يحمل سمات التميّز والتفرّد. والكاتب الحقيقي هو من يجهد نفسه ليختط لنفسه أسلوباً ومنهجاً سردياً ومنظورا ً متجدداً علي الدوام، يصوغ من خلاله الوقائع وفق رؤيته الذاتية، حتي لو داخل هذا الأسلوب شيء من الاقتباس والتناص. وضمن هذا الإطار يعتبر غراس من المجددين في أساليب السرد الحديثة في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، علي الرغم من اتكائه علي بعض مقومات النثر القصصيّ في عصر الباروك وآلياته. وتتضح هذه الجدة والحداثة عبر اختيار غراس لمفرداته وحرصه الشديد علي أن تكون غير مبتذلة أو مستهلكة من فرط الاستعمال. وأحيانا يضطر إلي نحت المفردات، مستفيداً من الطبيعة الطيّعة للغة الألمانية في توليد المفردات وتركيبها، مما يتعذر وجوده في اللغات الأوربية المعروفة. واجتماع مفردتين أو ثلاث أو أكثر في تركيبة ذات معان متقاربة أو متناقضة هي عملية سهلة للغاية في التوليف اللغوي الألماني. ويمكن من حيث المبدأ التنويع علي كل مفردة بعد إدخال البوادئ واللواحق عليها بما يسمي بمنهج الصيغ الصرفية Paradigma. ولعلّ غراس بالغ بعض الشيء في توليداته النحتية، فصار ينوع مثلًا علي اللون الأحمر فيقول أحمر-أزرق و أحمر-أشقر و أحمر-بني و أحمر-ذهبي و أحمر-أسود وقهوائي-محمر وما إلي ذلك. أو يقول لون الأرض ولون البطاطس ولون العاج ولون اللحم وقديد الخنزير الوردي المطبوخ. ولذا ارتأي المهتمون بأدبه وضع فهرست من 083 صفحة، يضمّ جميع المفردات المدوّنة في رواية »طبل الصفيح«، ليتمكن الباحث أو المترجم من تعيين مواضع ورودها وعدد المرات التي وردت بها، إضافةً إلي وضع تعليق شامل وشروح للأحداث التاريخية وأسماء المدن والأنهار والأعلام. ويعبّر هذا الاهتمام من ناحية ثانية عن الروح المنهجية التوثيقية التي تتحلي بها المؤسسات الثقافية الألمانية علي العموم، بينما نجد الباحث أو المترجم العربي يجهد نفسه ويبدد وقته سدي في البحث عن مفردة مناسبة ليضعها مقابل المفردة المراد ترجمتها. وكل ما يستعين المترجم العربيّ بالقاموس يخيب أمله، نظراً للعيوب والنواقص الكثيرة التي يحفل بها القاموس الألماني-العربي. ولو تناولنا هنا مفردة واحدة مألوفة يمكن أن ترد في أيّ نصّ أدبي مثل Adamsapfel وبحثنا عن مقابل لها لأصبنا فوراً بالإحباط، لأن هذا القاموس الضخم يوقف المفردة علي معني واحد غامض وهو »تفّاحة آدم«. في حين أتي صاحب المورد بثلاث مرادفات لمفردة Adams apple ، وهي الحرقدة وتفاحة آدم وعقدة الحنجرة. وقد تكون الحرقدة مدعاة للإشكال بسبب قدمها، وقلّة استخدامها، لكننا لا يجوز أن نتخلي عنها لهذا السبب وحده، لاسيما وأنّها تعطي المعني المراد بكلّ دقّة. وأشار»لسان العرب« إلي أن الحرقدة هي عقدة الحنجور، والجمع الحراقد. وذكر غراس هذه العبارة مرتين ومرة ثالثة في صيغة الجمع. فلو أننا ترجمناها في تلك الصيغة لقلنا »تفّاحات آدم«ًٍٍَِِ وهو معني بعيد للغاية عما نريد، ولو تخيلنا مريضاً يقول له الطبيب »إن تفاحة آدمك ملتهبة« فكم سيكون ذلك مدعاة للعجب، بل للسخرية حتّي. غير أنّ هذه واحدة من أبسط المشاكل التي نحن بصددها هنا، فقد أحصيت ما لا يقل عن مائة مفردة وعبارة وردت في »طبل الصفيح« ولم يرد لها ذكر في القاموس الألماني-العربي، أو جاء معناها مشوها أو غير دقيق، مثل Feldzeichen وهي عبارة مركبة وتعني العلامة عموما أو علم التفريق بين جيشين متحاربين علي وجه الخصوص. لكننا لا نجد لها أثرا في القاموس، إلي جانب عبارات مترادفة كثيرة التداول مثل Feuerhaken و Feuerpause التي هي عبارة يومية مهمة وتعني وقف إطلاق النار و Feuerschein. كما عرب كلمة Fron leichnamsfest المركبة ب »عيد (خميس) الجسد« وهو تعريب صحيح، بيد أن هناك مرادفا ً لهذه التسمية وهو عيد القربان. ولعلّ واضعي القاموس كانوا يخشون أن تتطابق معانيهم مع معاني قاموس »المورد« المشروحة شرحاً جيّداً والمزودة أحياناً برسوم توضيحية، فتوخوا التمايز والاقتضاب. ثم إن القاموس الألماني-العربي خلا من طائفة من المصطلحات الحربية مثل Feldplatz وPanzerabwehr و Panzerfaust وعرّب كلمة Schiessscharte بكوة أو »مزغل« وجمعها مزاغل، إلا أن الباحث أو المترجم لا يستفيد شيئاً من هذا التعريب؛ لأن الكلمة الألمانية المركبة تعني بدقة الثغرة الصغيرة التي توضع في المتراس لغرض الرماية والحماية معاً. ويعطي اسماً غامضاً لمفردة دارجة تتعلق بالبيروقراطية وهي كلمة Pa pierkram المركبة، فجعلها »دشت«، والمعروف أن »دشت« كلمة فارسية الأصل تعني السهل أو الأراضي المنبسطة أو الصحراوية ولا تفي هنا بالغرض الذي هو تراكم الأوراق وكثرة الإجراءات الروتينية. وقد جعلته حمية التمايز يمعن في الاقتضاب فاختصر كلمة Nachttopf إلي مجرد »قصرية«، بينما هي في الواقع إناء للتبول أو مبولة صغيرة توضع في غرفة النوم. وأعطي معني واحداً مبتسراً لصفة phlegmatisch فأوقفها علي صفة »بلغمي«، وهو المعني القريب، مع أن هناك معاني أخري مثل كسل أو ارتخاء أو لامبالاة. ويتكرر الأمر مع عبارة غير متداولة كثيرا ً وهي Sakristei فيعربها ب "الموهف"، وهو تعريب صحيح، لكنه غير مفسّر، في حين يعرفه صاحب »المورد« بأنه »غرفة المقدسات وملابس الكهنة في كنيسة«. وقد استخدمنا تعبير الموهف في الترجمة بعدما فسّر في سياق النصّ ذاته، تماماً مثلما الحال مع مفردة »الرمث« بعدما تحققنا من صحتها تاريخيّاً ولغويّاً. ومع ذلك تبقي مهمّة الترجمة، وبالأخص الترجمة الأدبية، من المهمات الشاقة التي تتطلب الكثير من المهارات اللغوية والفنية والأدبية والتأني وتقليب الرأي قبل وضع الصياغة النهائية. لذلك وقعنا نحن أيضاً في جملة من الأخطاء في الطبعة الأولي، لا يمكن تبريرها بأن الوقت أدركنا إثر حصول غونتر غراس علي جائزة نوبل للأدب وروايته الشهيرة »طبل الصفيح« لم تترجم بعد إلي العربية، وحاولنا تصويبها في الطبعة الثانية من الرواية.
مقدمة الطبعة ثانية من "طبل الصفيح"
تصدر قريبا عن منشورات الجمل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.