آخر تحديث لسعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن الإثنين 29 إبريل 2024    كلمة الرئيس السيسي خلال افتتاح مركز البيانات الحوسبة السحابية الحكومية    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم قرية برقة شمال غرب نابلس    نتنياهو يعيش في رعب.. هل تصدر محكمة العدل الدولية مذكرة باعتقاله؟    رابطة العالم الإسلامي تعرب عن بالغ قلقها جراء تصاعد التوتر في منطقة الفاشر شمال دارفور    «مسلم»: إسرائيل تسودها الصراعات الداخلية.. وهناك توافق فلسطيني لحل الأزمة    أول رد رسمي من الزمالك على احتفال مصطفى شلبي المثير للجدل (فيديو)    مدحت شلبي يقدم اقتراحا لحل أزمة الشحات والشيبي    عامر حسين: إقامة قرعة كأس مصر الأسبوع القادم بنظامها المعتاد    مصرع 5 أشخاص في انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوي بالمنيا    وفاة المخرج والمؤلف عصام الشماع عن عمر ناهز 69 عاما    شاهد صور زواج مصطفى شعبان وهدى الناظر تثير السوشيال ميديا    شقيقة الفلسطيني باسم خندقجي ل«الوطن»: أخي تعرض للتعذيب بعد ترشحه لجائزة البوكر    سامي مغاوري عن صلاح السعدني: «فنان موسوعي واستفدت من أفكاره»    التهديد الإرهابي العالمي 2024.. داعش يتراجع.. واليمين المتطرف يهدد أمريكا وأوروبا    صحة قنا: 4 حالات مازالوا تحت الملاحظة في حادث تسريب الغاز وحالتهم على ما يُرام    حار نهاراً ومائل للبرودة ليلاً.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم    تموين الإسكندرية: توريد نحو 5427 طن قمح إلى الصوامع والشون    برلمانية: افتتاح مركز البيانات والحوسبة يؤكد اهتمام الدولة بمواكبة التقدم التكنولوجي    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    الزمالك: لا عقوبات على مصطفى شلبي.. كان يشعر بالضغط    بعد طرح برومو الحلقة القادمة.. صاحبة السعادة تتصدر ترند مواقع التواصل الاجتماعي    "بلومبرج": الولايات المتحدة تضغط من أجل هدنة في غزة وإطلاق سراح الرهائن    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    "بحبها ومش عاوزه ترجعلي".. مندوب مبيعات يشرع في قتل طليقته بالشيخ زايد    إخلاء سبيل سائق سيارة الزفاف المتسبب في مصرع عروسين ومصور ب قنا    الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين وتُحذر: ظاهرة جوية «خطيرة»    ملف يلا كورة.. الزمالك يتأهل لنهائي الكونفدرالية.. وطائرة الأهلي تتوّج بالرباعية    ميدو: لو أنا مسؤول في الأهلي هعرض عبد المنعم لأخصائي نفسي    بعد حركته البذيئة.. خالد الغندور يطالب بمعاقبة مصطفى شلبي لاعب الزمالك    ميدو: سامسون أكثر لاعب تعرض للظلم في الزمالك    فراس ياغى: ضغوط تمارس على الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية للوصول لهدنة في غزة    فيديو.. سامي مغاوري: أنا اتظلمت.. وجلينا مأخدش حقه    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    هل مشروبات الطاقة تزيد جلطات القلب والمخ؟ أستاذ مخ وأعصاب يجيب    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    هل يؤثر تراجع الطلب على الأسماك في سعر الدواجن.. مسئول بالاتحاد العام للدواجن يجيب    وزير الاتصالات: 170 خدمة رقمية على بوابة مصر الرقمية    4 مليارات جنيه لاستكمال المرحلة الثانية من مبادرة حياة كريمة لعام 24/25    فيصل مصطفى يكتب: عجلة التاريخ    الاقتصاد الأمريكي يحتاج لعمال.. المهاجرون سيشكلون كل النمو السكاني بحلول 2040    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    على مدار نصف قرن.. سر استمرار الفنان سامي مغاوري في العمل بالفن    ندوة حول تطور أذواق المستهلكين بالمؤتمر الدولي للنشر بأبوظبي    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    الاستعداد للعريس السماوي أبرز احتفالات الرهبان    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    ضربة للمحتكرين.. ضبط 135 ألف عبوة سجائر مخبأة لرفع الأسعار    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    وظائف خالية ب الهيئة العامة للسلع التموينية (المستندات والشروط)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأبنودي فرح بالجائزة لقصيدته ولشعر العامية:أشهد أني عشت للشعر
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 06 - 2010

مع الشجرة الأنثي الذهاب إلي المحبس الصحي لعبدالرحمن الأبنودي في الإسماعيلية يشبه الذهاب نحو الشعر. سير في الطرق الملتفة التي يحبها كل إبداع كبير. لكن الحارات التي تقود إلي البيت، لا تصطف علي جانبيها البيوت، بل المانجو. الأشجار الأكثر أنوثة علي سطح الأرض. السير وسط المتاهة الخضراء الأجمل من حديقة بورخيس ذات الطرق المتشعبةيحتاج إلي الحدس السليم. ومن يتمكن من الوصول إلي بيت الشاعر، حيث فرض عليه الإطباء الإقامة الجبرية، يستطيع أن يصل إلي المعني الذي يريد من بيته الشعري.
لكن من يسكن البيت ليس عبدالرحمن واحدًا، بل عصبة. هناك الفتي الصعيدي، النجم، الفلاح، الجنايني، السياسي، والشاعر. وهناك من يخفيه عبدالرحمن تحت جلجلة صوته: الرجل المريض!
وقد زرت من قبل هذه الشخصيات في البيت نفسه، لكن زيارتي هذه المرة كانت للشاعر الذي فاز بجائزة مبارك، وقد عزمت علي أن يكون حديثنا عن الشعر، وقاومت علي مدي الحوار الذهاب إلي السياسة بالتباساتها المغرية في حياة عبدالرحمن الأبنودي. الوحيد الذي لم نستطع أن نصرفه هو الأبنودي المريض، الذي كان يسعل ويقطع حوارنا فيرشه الشاعر من أنبوب التنفس ليهدأ.
سألته عن الجائزة؛ التقديرية 2001 ومبارك هذا العام؛ جائزتا الدولة الكبيرتان لعبدالرحمن الأبنودي. هل يرضيك هذا الاستثناء، كونك الوحيد الذي حاز الجائزتين، أم يحزنك علي شعر العامية الذي لم يحصل فيه شاعر آخر علي الجائزة؟
كوني حصلت علي الجائزتين، معناه أيضًا اعتراف بشعر العامية لأنني بالأصل شاعر عامية. صحيح أنني أهتم بالتراث وأكتب الفصحي في المقالة، في البحث الشعبي، لكن الجائزة لشاعر العامية عبدالرحمن الأبنودي.
هذا يرضيني من الناحية الشخصية، وأحس بالامتنان الشديد لكل من وافق ضميره علي أن يعطيني صوته، من لجنة كبار الأدباء والنقاد فهذا يعني أنك في الطريق الصحيح، وهذا يؤكد أن الله لا يضيع أحر من أحسن عملاً.
يقولها مبتسمًا لاستخدام الكليشيه، لكنه يفسر الأمر جادًا: أنا لست شاعرًا هاويًا، أنا مقاتل شعرًا في الحياة، الحياة عندي شعر، والشعر بالنسبة لي مسألة حياة أو موت.
أريد أن أقول إنني أستحق الجائزة لأنني لم أضيع وقتا طويلا خارج الشعر، حتي هذا الرجل المريض لم يعطلني أبدا، شفت أنا لما كح أعطيته البخة وذهب إلي حال سبيله.
لكن هذا كان علي مدي العمر، أنت كم عبدالرحمن؟
ثلاثة علي الأقل. الواد الصعيدي الغلبان اللي زي الفولة الناشفة، هذا يجعلك تتحمل، الجماهيري جدا المحب للبشر وفيه المنطوي للقراءة والكتابة بصورة قد لا يعرفها الآخرون، ولما أنغمس في قراءة أذهب بالحماس نفسه الذي أذهب به إلي الكتابة، الثالث الكائن الاجتماعي بكل احتماله.
والسياسي؟
السياسي هذا تبعي، لأنني لا أضع لافتة، السياسة جزء مني ومن الحياة.
أظن أنني أختلف عن كثيرين من الشعراء بأنني حينما يباعد الوقت بيني وبين قصيدة جديدة أحس بالعار، أحس بأن ملامحي تبهت، وأحس أنني متردد في لقاء الناس. لا أكتسب فخري وثقتي ورضاي عن ملامح وجهي في المرآة إلا إذا كانت في جيبي قصيدة تحظي برضي الناس. وهذه ميزة في شعري؛ لذلك فإن كثيرًا من الشعراء والنقاد لا يحبونني لكنهم لا يستطيعون أن ينكروا قصيدتي، لأنني لا أكتبها تلفيقًا ولا صناعة، ولا زيادة عما تحتاجه الحياة، ولا أقل مما يحتاجه الشعر، ولا أقل مما بلغه الشعر في كل ما تحصلنا عليه من كل ثقافات العالم. وأظن أننا نتابع ونعرف إلي أين وصلت القصيدة وإلي أين وصلت الرواية، وإلي أين وصل الإبداع عموماً. من هذا الجانب لا شك أنا فخور وراض، لا يمكن أن أفتعل مشاعر مختلفة، ولكن بالعودة إلي شعر العامية؛ فقد جاءت هذه الجوائز للأسف متأخرة.
تأخرت عن فؤاد حداد، تأخرت عن صلاح جاهين، رحلا دون أن ينالاها، وكانا يستحقانها ربما بأفضل مني، لكنك الآن لا تستطيع أن تحرمني من فرحتي بأنني حصلت عليها وبأنني لازلت أمثل شرعية بالنسبة لشعر العامية، لأن الجائزتين في ظرف عشر سنوات تعنيان أنني مازلت مستمرًا في العطاء. وأن شعر العامية يستطيع أن يجتاز كل المزالق، وأن يبقي ويعوض غياب قصيدة الفصحي. أنت تري أننا نعاني حالة إدقاع شعري. لدينا شعراء يكتبون، ولكن ليست لدينا حركة شعرية جارفة كما كانت في الستينيات مثلاً.
تعني الفصحي والعامية؟
نعم، أنا لا أفرق بين عامية وفصحي، وعندما يعطي شاعر فصحي قصيدة جيدة أفرح بها جدًا، وحينما ينكر شاعر فصحي قصيدة جيدة لي أو لغيري يكون غير محب للشعر أصلاً، ولابد أن يناقش صلته بالشعر.
الشعر شعر، ولو أحببته وأخلصت له فلن تراه عامية أو فصحي، إنجليزي أو فرنسي، اللغة هي الغلاف الذي يحيط بالقصيدة، فإذا أنت فرقت بين شعر وشعر لن تكتب شعرًا، ولن تكتشف جماليات الشعر. وانظر، لدينا حالة فظيعة (فظيعة كلمة مبتذلة) لدينا حالة نادرة في مصر وهو أن شعراء كانوا يملأون الدنيا ضجيجًا ومنذ ربع قرن لم يكتبوا بيتًا ولم يتواصلوا مع عالمهم القديم أو يطوروا جديدًا. وعليهم أن يبحثوا داخلهم عن السر(دا أنا لو حصل معي هذا لمدة عام أو عامين!) أنا أعري نفسي من كل شيء ما عدا هذا التساؤل.
برأيك، ما الذي يُفلت خيط الشعر من يد الشاعر؟
هذا يتوقف علي سؤال آخر: لماذا خرجت للحياة شاعرًا، ماذا تريد من الشعر؟ فكرتك عن الشعر من الأساس، لماذا وهبت هذه الهبة، وما الذي تنوي أن تحققه بها؟
وإذا لم تدرك بصفة حقيقية أن ثمة دائما شعراء أفضل منك وأن تخفف الوطء لأن هناك أعظم منك؛ ربما علي مرمي حجر، ربما في بلد مجاور أو بعيد، ربما في كتاب منسي في مكتبتك، هناك دائمًا شعراء، مهما كتبت ومهما نال إبداعك من تقريض فلابد أن تدرك أن ثمة شعراً أعلي قيمة مما تكتب أو مما تحلم بكتابته ستفقد القدرة علي الحلم.
وإذا اعتقد الشاعر أنه أنجز ما لا ينجر، وأنه أهدي الشعر فضاءات عالية، فصدقني لن يجرؤ علي أن يكتب، خلاص أنهي ورده. لكن هؤلاء الذين يتعاملون مع الشعر يوميًا كالتلاميذ يبقون علي قيد الشعر. بمجرد أن تنفخ صدرك يذهب الشعر.
هناك شعراء يتعرضون لامتحانات قاسية في الإبداع، محمود درويش وأنت مثالان.
يشير عبدالرحمن إلي صورة الشاعر، صورته أهه، ليكون معنا في الحوار.
درويش اجتاز اختبار الدلال من الثورة والسلطة الفلسطينيين، واختبار الشهرة ولم يفقد خوفه من القصيدة، أنت كيف حافظت علي خوفك منها علي الرغم من بحار الجماهير في أمسياتك؟
أولاً الجماهير كانت تصفق لعبدالناصر بنفس الحماس الذي تصفق به لمها صبري، ولذلك مهما أحبتك الجماهير لابد أن تحتفظ بمسافة بينك وبين إعجابها، وأنا أظن أن درويش كان يفهم هذه المعادلة جيدًا. وأظن أننا كنا متفاهمين علي هذا الأمر بدون أن نناقشه. استحضر درويش وهو يلقي القصيدة، لن تجد له صلة بالجمهور، أنا أختلف، قد أضحك وأقيم حوارًا لكن الجمهور في النهاية كتلة لا صلة لي بها، صلتهم بالقصيدة وليس بي. القصيدة هي التي يجب أن تكون علي صلة بهم. هذا لا يعني أنني لا أحب الناس، أنا أعشق الناس والبقاء بينهم، واليوم الذي لا أقيم فيه اتصالا مع الآخرين ليس يومًا.
تعني أصدقاءك والدوائر الشخصية، لكنك تحب كتلة الجمهور أيضًا؟
نعم، ثمة ثقة أستمدها من الناس تجعلني أستمر. هؤلاء الذين تكرههم الجماهير، يا دي المصيبة! هل أنا ممكن ألقي قصيدة ويغادرني أحد؟ أموت في مكاني، فقط في أمسيات مثل معرض الكتاب تجمع مسافرين يمكن أن ينصرفوا لأنه آخر قطار ويحيونني صامتين في انصرافهم، شاعر يحضر له سبعة ويقول شعرًا، ثم هذه الطريقة المتعجرفة في النظر إلي النفس وإلي الآخرين، ثم تتساءل بعد ذلك لماذا لم تعد الجماهير تحبك؟
الآن، في هذا المكان البعيد المعزول عن الأمة، لماذا يستمر في داخلي الرغبة في البقاء، لأن الناس لا تكف عن زيارتي وعن مهاتفتي وعن ترديد الشعر. والنجومية التي أعطوها لي لم أغتر بها أو تهزني، جعلتني مرحًا راضيًا، هذا كل ما في الأمر. ولم أسمح لإعجابهم بأن يدخل معي لحظة الكتابة.
عن لحظة الكتابة، أحب أن نتحدث: كيف تأتي القصيدة، كيف تصنع إيقاعها الخاص، لماذا هذه تكتفي ببضعة أبيات، وتلك تتمدد لتصبح ديواناً؟
أنت تعرف أن القصيدة تأتي، ولا يتم الذهاب إليها؟ أريد أن أعرف أننا متفقين علي هذا أولاً.
وإذا لم يأت؟
تكون هناك مشكلة، علي الشاعر أن يحلها معه أو مع نفسه أو مع العالم. وأنت حين تراني لن تلحظ أن لي علاقة بالثقافة، أقصد ليس ورائي واجب تجاه الثقافة، ولا تستطيع أن تعرف شيئًا عن قراءاتي أو تكويني. وحينما يأتي الشعر أنتبه له. زمان كنت أكتب نائمًا علي بطني.
تفترش القصيدة؟
الآن لا أستطيع. أجلس إلي هذا المكتب الصغير، وهو يبدو مكتب امرأة صغيرة. اشتريته من شارع هدي شعراوي، كنت أنزل وأشتري الأشياء القديمة، تأتي القصيدة في بيتين، ترسل المفتتح، وأنا أفتح بنفسي البابين وألج إلي عالم القصيدة.
أستقر ولا يكون هناك غير الوحي والإلهام والملهمة، هذا التفتيت والتجميع لأشياء يحبها الناس ويندهشون لأنهم يعرفون كل هذا ولم تنتبهوا إليه، والذي نبههم هو الطريقة التي أمام بها الشاعر العلاقات بين الأشياء داخل القصيدة.
في لحظة اللإبداع أندهش من أن هذا بداخلي، أندهش مع الناس أيضًا بأنني اكتشفت هذا الجمال الذي لا تكتشفه في حياتك العادية كمواطن، لكنه موجود لدي الشخص الآخر داخلك، الشخص الذي يستظل بظل الضمير.
تنتفي كل الموجودات، كل الأصوات كل الإغراءات وأي مكاسب في الدنيا لا تساوي الهبة (اللي أنا فاتح حجري وبستقبلها بلحة بعد بلحة وشمروخ بعد شمروخ).
وأنا أكتب لا أحس بالقلم أو ثقله في يدي أو أية مسافة بيني وبين هذا الهاتف الذي يجعلني أخف وأشف وأصبح في حجمها؛ لأن اللحظة بلا وزن. حالة من الشفافية تلهمك وعيا فوق وعيك ورؤية فوق رؤيتك وذاكرة فق ذاكرتك. في الأحوال العادية لا أتذكر الكثير من الأشياء، لكن في القصيدة تصبح الذاكرة حادة بذاتها تتذكر بنفسها. ويكون ثمة اتحاد، ثمة تلاش لذات الكاتب.
عندما تقرأ أعمالا مثل رباعية داريل أو الأمل لجورج أمادو أو الحرب والسلام أظن أن الكاتب يكون غير موجود وإلا أفسد عمله. هناك أمثولة عن رجل يصنع الفخار زاد إصبعه بطريقة قد تفسد الآنية في يده فقصه بالمقص. في القصيدة هذه التصفية لغباء الوعي واللغة إلي صفاء كل ذلك، ويكون ربنا راضي عليك.
إذا لم تخرج القصيدة دفعة واحدة فلن تكتب، كثير من القصائد التي أجبرتني علي التوقف تركتها،
والقصيدة الديوان، كيف تولد؟
بعكس القصيدة التي اختارت قصرها، هذه تسمح بالاستراحات: تقول استرح، تمشي، استأنف.
قصيدة أحمد سماعين، كتبتها علي ثلاث مراحل، الأولي في القاهرة، الثانية في السجن علي ورقة بفرة صغيرة بقلم كوبياء رفيع. منحوني سجارة زيادة، الحياة منحتني سيجارة زيادة فكنت أقسمها علي ثلاثة أجزاء لأدخنها أثناء الكتابة، الجزء الثالث لم يكتب إلا في أبنود.
عمومًا هي لحظة سر. علماء حاولوا رصد لحظة الكتابة، كل تجربة تختلف عن الأخري، ناس تكتب في عزلة، ناس تكتب في قطار.
لكن هذا يصنع سمات لكل نص؟
المهم أن يجد لكاتب لحظته، وهي بالمناسبة تصل للقاريء. هذه المكتبة كنت أنظفها وأراجع ما بها. واستغنيت عن الكتب التي لم أجد فيها عند قراءتها ذات التوهج المفترض في لحظة كتابتها.
جئنا عرضًا علي أنوثة المكتب، لكنها ليست مزحة في اعتقادي؛ بل لها علاقة بأنوثة الكاتب، هل توافقني علي أن المبدع به حصة أنثوية أكثر من أي رجل آخر؟
يصمت قبل أن يجيب. أنا أعيش مع ثلاث نساء في البيت، أمي عشت معها زمنًا طويلاً فتشربتها، فاطنة أحمد عبدالغفار هي أختي وهذا هو حبها لزوجها حراجي.
أتحدث عن قيم الأنوثة الولادة، العلاقة بالخلق، الرقة؟
هذا ما كنت أتوقعه من الأديبات، هؤلاء أقدر علي كل هذا لكن مؤكد أن هذه اللحظات إذا قربنا منها سنكتبها. الأرض أنثي، الأم أول وآخر أنثي، النبات، المانجو شجرة أنثي، إن لم تربت عليها وأزلت عنها الورقة الجافة لن تكون بكامل ألقها. نحن نعيش داخل عوالم الأنثي أطول مما نظن.
وكم تعيش مع الشعر؟
شوف، أنا قميصي هذا شعر، الطريقة التي أنظر بها إلي شجرة في هذه الحديقة شعر. أنت هنا، علي قيد هذه الحياة من أجل الشعر. علي أن الشعر عندي له مسافات ودرجات، يعني لا أحرم نفسي من كتابة قصيدة غامضة، لا أعني غموض الاستغلاق المجاني، وإنما قصيدة قد تستغلق علي درجات من القراء، مثل قصيدة "صمت الجرس" وهناك بالمقابل قصائد صارت تنتمي للناس أكثر مما تنتمي لي. يعني مثلا لما الناس تطلب مني حراجي القط، أحس أنهم يعيدونني إلي مرحلة من وعيي تجاوزتها بمراحل.
والأغنية؟
أنا فصلت مبكرًا بداخلي بين الأغنية والقصيدة. الأغنية حرفة، نعم سربت الشعر في الأغنية لكنني فصلت بينهما. الأغنية مذهب وثلاثة كوبليه وفي الآخر القفلة تسلم للمطلع. مهنة مثل صناعة هذه الترابيزة أو نقش الصواني النحاس، لازم تعرف كيف تنشر الخشب وكيف تسوي القوائم، بعض الصناع يذهب بالصنعة جهة الشعر، لكنه محكوم بالصنعة. في الأغنية أنت لست حرًا يجب أن تكتب كلامًا تفهمه المطربة، ويستسيغه الملحن ثم الجمهور بعد ذلك وأن تبقي في مستوي هؤلاء. يعني السيدة لن تقف لتغني الأحزان العادية للأبنودي أو لامبو.
ألا تكون فخورًا عندما تمضي في الشارع وتجد الناس يغنون أغنيتك؟
جداً، وما يرضيني أن الناس تقابلني وتحدثني عن القصيدة أيضًا. يكلمونني عن يامنة وحراجي القط، وهذا يشعرني بأن لي قيمة في الحياة (دا أنا ربنا كارمني آخر كرم) ونحن ندعي أننا نريد أن نحول الشعر إلي لقمة وخبز يومي للناس، فما الذي يثبت لك أنك علي الطريق الصحيح. لكنني أعرف أن الواقع تحكمه درجات من الوعي والثقافة، من الصفر حتي أعلي درجات الوعي، ذلك النوع من القراء الذي يقرأ بعين من أبدع، لكنني لاحظت أنه بالنسبة لشعري ولشعري فقط فالقاعدة أن كل المستويات تفهم نفس القصيدة، وهناك بعضهم يحب صوتي، يصدقون تونات صوتي وهذه الظاهرة تخصني، وأخشي كثيرا من الحديث عن نفسي، خذ مثلا عمنا بيرم التونسي، كتب قصائد كثيرة الرجل، ثورية ونفي، ولكنه كان في دوائر الطبقة المتوسطة، لم يكن أحد في قريتي قد سمع به.
وفؤاد حداد؟
فؤاد عمنا، أحببناه، نحن جمهورة وقراؤه ومروجوه، لكنه بيننا، وصلاح أيضًا، قصائده وأغنياته وصلت الطبقة المتوسطة. أشياؤه في الفوازير وهو وهي لسعاد حسني وأحمد زكي، وصلت جماهير عريضة، لكن الشعر مثل غنوة برمهات أو المحاكمة أو علي اسم مصر، هذا أيضا نحن. أما أن يصل صوتك لدود الأرض فهذه الجائزة التي لا تشبهها أو تساويها جائزة. في السودان أو تونس وأي مكان.
أنا كنت دائمًا أحسد عمي جابر أبو حسين، وكنت أقول أنه لم يحدث أن كان لشاعر مصري هذا الجمهور، والرجل غلس، يقول شعرا بين العامية والفصحي والناس تخترق هذا وتصل للمعني.
أنتم خلقتم حالة في الريف المصري، أتذكرها تمامًا.
آه، جول يا عم جابر صارت مثلاً شعبيًا. في كل عام كان في معرض الكتاب تمتليء القاعة الكبيرة في حالات درويش أو نزار أو أنا.
برأيك، ما مشكلة النقد مع شعر العامية؟
شوف لما أجول لك، الهم ما يشيله إلا أصحابه. لا أحد مستعدا لحمل بلوي غيره. لايوجد ناقد مستعد لأن يترك ما وراءه ليري حكاية عبدالرحمن الأبنودي، من الأرض والعيال إلي الآن.
ما أردت أن أقوله، إنه ليس الآن فقط، ولست وحدك، الكبار الذين سبقوك في العمر. هناك حدس مبهم بالجمال وتقدير فطري، لكن لايوجد عمل نقدي يقرأ نسقا ثقافيًا في شعر الأبنودي أو غيره من الكبار. لا قراءة في الصور أو منظور الرؤية أو قضايا وأنساق تتكرر بشكل معين في قصيدتك. الناقد مثل المواطن العادي، هناك إيمان بوجود شاعر كبير، لكن لا أحد يقول لماذا؟
هي حيرة الاعتراف بالعامية، يعني هو ناقد كبير وهكذا ويكتب عن العامية ويشعر بأنه ينخر في أساس الشعر العربي؟ "لكن في نفس الوقت ما أهونش عليهم" فكان مثلا يراني الدكتور جابر في تونس؛ فيحس بحجم الجماهيرية التي أقابل بها ويباغت بها فيعود ليكتب عن الظاهرة الأبنودية، وليس النص. يكتب عما رآه.
الشاعر الذي كتب عني جيدًا هو فاروق شوشة، كتب مقالاً رائعاً في الأهرام، لأنه محب كبير للشعر. وعلي فكرة كونه كان مديرا للإذاعة وتقديمه لبرنامج لغتنا الجميلة ظلمته شاعرًا. وأنا أذكر قصيدته عن أمل دنقل التي تستحضر روح أمل كما لم يستحضرها أحد من الشعراء، بمن فيهم القريبين منه. أنا صاحب أمل غرت منه.
شاعر يقدر شاعرأً، غير حرفة النقد؟
نعم، علي المستوي الذي تقصده نادر. ما كتبه سيد خميس عن الأرض والعيال، رضوي عاشور كتبت بجدية شديدة، صافي ناز كاظم كتبت مقالاً رهيباً عن أحمد سماعين وأنا أظن أنها سمت ابنتها "نوارة" لما اكتشفت الاسم في أحمد اسماعيل والبقية احتفاء (فرح العمدة)!
وهذا أحد التقصيرات في حياتنا الأدبية، ظواهرنا نتركها تتحدث عن نفسها، أنا سوقت نفسي بنفسي (أي والله) يعني تحدثت عن شعري، وعن مصادر معرفتي بنفسي. ماذا ستفعل. انت قل لي من؟ وفي زمن السوق والجوائز، راح زمن التعبد أمام النص الشعري، مندور والمعداوي. الناس تحكم جائزة، أشياء من هذا القبيل.
عندما تراجع عناوين دواوينك، ألا تري أنها ماضية باتجاه الفصاحة ديوانًا بعد الآخر؟
من أول ديوان والفصاحة سمة من سماتي، لأن الجنوب كان معبرا من القصير إلي الجزيرة العربية، الصعايدة هجرات عربية. كنت أستغرب من لغة جدتي ست أبوها تقول أشياء، وأذهب أفتش عنها فأجدها فصيحة، مثلا تقول:"نقلتوا تري للأرض؟" ليس "تراب" أفتش عنها فأجدها تقصد "ثري" أشياء من هذا القبيل. لما تتأمل تعرف أنك أنت غير الواصل.
في الأرض والعيال توجد لغة تبدو غامضة جدا لكنها لغتنا هناك. حتي الأستاذ صلاح عبدالصبور (رحمة الله عليه) كتب مقالا في المصور عن قصيدة "عن المدن" في ديوان "الزحمة" فكتب إن الأبنودي شاعر فصحي، احنا حسينا في ذلك الوقت أنه يريد أن يعزلنا عن شعر العامية. وصلاح جاهين قال لي هذا مقال جيد جدا، وأنا قلت لأ، نحن شعراء عامية.
صحيح أننا نخدم الفصحي ونقرب المسافة بينها وبين الجمهور. وما هو شعر العامية؟ هو الفصحي متخلصة من النحو.
فلماذا لم تكتب فصحي؟
من؟ أنا بدأت شاعر فصحي، كتبت ثلاث أربع سنين فصحي، جاهين شاعر فصحي، سيد حجاب كتب فصحي، من لم يكتب الفصحي؟! لكن الانحراف نحو العامية، كان ضرورة، أبنود كان فيها كنوز لا يمكن التعبير عنها بالفصحي. وأنا انحرفت هذا الانحراف نحو العامية لأنني وجدت راحتي هنا. وأبي مزق ديواني الأول، وجعله فتافيت حتي لا أهتدي لبيت.
إلي هذا الحد كان غاضبًا؟
نعم، أنا خضت معركة العامية والفصحي قبل أن أغادر بيت الشيخ الأبنودي.
مزق الديوان شر ممزق مما يدل علي قسوة الموقف.
ألم تنقذ منه شيئا؟
قصيدة أو اثنتين، عندما وصلنا إلي القاهرة نشرتها في المساء عند عبدالفتاح الجمل، ولم أضمهما لدواوين.
لكن فكرة كنوز العامية، هذا طعم يمكن أن يبتلعه شاعر عامية ويقف نموه. يعني لما تقول اتسعت الرؤية، هذا النفري؟
من المدرسة كان أمامي أمشي في طريقين، من مكر مفر مقبل مدبر، إلي حافظ وشوقي، وعلي الجارم، إلي آخره.
إما مكر أو "يازارعة الرمان علي السواقي رمانك مر ما ينداق"؟ ما هذا يا أولاد ال .. الذي تقولونه؟!
لا أريد أن أشتمهم حقيقة، وهم شعراء عظام، لكن الفرق كبير بين النظم وبين هذا الفلكلور. مثل بيبة في عرق البلح هي أغنية أمي فاطمة قنديل كما هي "بيبة والصعيد مات .. بيبة خلف بنات". يعني مقارنة لا تجوز او كما تقول عن المقبرة: يا مُجبرة يا خيمة الوالي، يا ما جبدنالك من الغالي.
أتتلمذ هنا أم هناك. أنا مبدئيًا كنت تتلمذت، لأن أبي أغضب أمي وأقمت في الناحية الأخري من البلد ورعيت الغنم واستمعت إلي غناء العمل، الذي ستحتاجه وتعمل به بعد ذلك.
لكن في البورتريهات وما قبلها أنت مقبل علي الفصاحة أكثر، في الجملة وفي الصورة؟
أنا ابن الفصحي، لكنني لن أهاودهم في خبر كان والمنادي والاستثناء، لست مستعدًا لأن أتوه قبل ما أدخل للناس، ما هم عزلوا العربي ، أضعف مادة عند طلاب مصر هي العربية، وهذا خطأ اللغويين الذين وضعوا المناهج وجعلوا الطفل يكره العربية. وصار الدارس يصل إلي الإعدادية وليست لديه قدرة علي تكوين جملة عربية سليمة. ونحمد الله أننا كتبنا بالعامية ووفرنا قيمة ثقافية لم توفرها الفصحي. أتعرف لم صمتت الادعاءات ضد العامية؟ كانت هناك ادعاءات بأننا سنفتت الأمة إذا كتب المصري بالعامية المصرية والعراقي بالعراقية والسوداني واللبناني وهكذا، لكننا كتبنا ولم تتفتت الأمة، وثبت أنهم هم الذين فتتوا الأمة، ونحن جزء من بقائها لأننا جزء من واقع أمتنا.
في اعدادنا القادمة:
أجمل ما أنشدة الأبنودي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.