بدأت ظاهرة تلفزة السياسة في الظهور في التشكل مرحلة بعد الأخري منذ ظهور جهاز التلفاز في المجتمعات الأوروبية والولايات المتحدة، وعديد من دول العالم التي دخل إليها هذا الجهاز المرئي واستطاع أن يؤثر في السياسة وإنتاجها وعملياتها، وفي المساهمة في تطوير الوعي شبه الجمعي لدي ذ شرائح وفئات اجتماعية مختلفة لاسيما الطبقات العاملة الصناعية، والزراعية. استطاع جهاز التلفاز أن يؤثر كثيراً علي اتجاهات الرأي العام وشرائحه في دعم بعض السياسات والأحزاب والقادة، أو في التعبير عن الآراء والاتجاهات الحزبية والفكرية المعارضة، أو في المساهمة في توجيه الكتل التصويتية لصالح هذا الحزب أو الاتجاه السياسي، أو ذاك. التلفاز والترانزستور شكلا أحد أهم تأثيرات تقنية الاتصالات منذ اختراعهما في السياسة، ونمط الحياة الحديثة في عالمنا، ومن ثم نستطيع القول، أنهما ساهما في إنتاج وترويج مجتمع الاستهلاك، ومجتمع الاستعراض بتعبير الفيلسوف الفرنسي "جي دييور" بكل انعكاساته علي أنساق القيم واتجاهاتها، وأبعادها المعيارية والأخلاقية، ويمكن القول أن التلفاز والوسائط المتعددة فيما بعد ساهمت في عمليات تشكيل المجتمعات ما بعد الحديثة، وفي المزيد من "فردنة" الفرد إذا جاز التعبير وساغ. التلفاز وتطوراته التقنية المتسارعة ساهم أيضاً في الانتقال إلي عصر ثورة الاتصالات والمعلومات والوسائط المتعددة، أو الثورة الفنية والرقمية وتداخل معهما، لأن المرئي شكل أحد مكونات الرقمي وأسواقه التفاعلية في عديد أبعادها وموضوعاتها وفضاءاتها المعولمة التي كسرت حواجز الأسواق الوطنية السياسية واللغوية والثقافية.. الخ.. من هنا نستطيع القول أن السياسة والتلفزة، أو سياسات التلفزة ارتبطا علي نحو مؤثر وتفاعلي منذ ظهور هذا الجهاز ولغته المرئية المؤثرة والجازبة. التلفزة ليست أداة محايدة، لأن وراء برامجها وخطاباتها المرئية سياسة تنتمي إلي الإيديولوجيا- أو الإيديولوجيات- السائدة كقناع للمصالح والتحالفات الطبقية في السلطة وحولها في إطار هذا المجتمع أو ذاك، ومن يملك الشركات التلفازية، أو المؤسسات التي تدير التلفزات، سواء كانت شركات رأسمالية كبري متعددة للجنسيات، أو تحت سيطرة الدولة، أو السلطة السياسية سواء في دول الإمبراطورية السوفيتية السابقة، أو في عديد الدول التي كانت تنتمي إلي العالم الثالث وفق مصطلحات ما بعد الحرب العالمية الثانية كان جهاز التلفاز وأقنيته تحت سيطرة الدولة لدوره البارز في الهيمنة الإيديولوجية، والناعمة علي الوعي والوجدان شبه الجمعي في هذه المجتمعات وذلك في عديد المراحل التاريخية منذ ظهور هذا الجهاز المؤثر علي صياغة واتجاهات الرأي العام والوعي الاجتماعي. في دول الديمقراطيات الغربية الليبرالية ذ اياً كان شكل النظام السياسي فيها- كان التعدد السياسي الحزبي والإيديولوجي، والأسواق السياسية المفتوحة، تخضع لتوجهات ومصالح الطبقة السياسية الحاكمة في حدود وهوامش المجتمع الليبرالي الديمقراطي في أوروبا والولايات المتحدة، وفي غيرها من دول الديمقراطيات الغربية. في ظل النظام الدولي الثنائي القطبية في الاتحاد السوفيتي، والكتلة الماركسية في أوروبا الشرقية ذ آنذاك- وفي الصين الماوية خضع الجهاز، وسياسة التلفزة داخل الدائرة الاشتراكية لإيديولوجيا النظام وسياساته علي اختلافها، وشكل أحد أهم أدوات جهاز الدولة الإيديولوجي، ولعب دوراً بارزاً في نطاق نظم وسياسات التنشئة السياسية مع غيره من مؤسساتها وأدواتها، وعلي رأسها التعليم والتربية وفي نطاق في إطار الأحزاب الشيوعية. استخدمت دول العالم الثالث- في ظل سيادة هذه التسمية أثناء الحرب الباردة-، أو دول جنوب العالم التلفاز وقنواته، وسياسة التلفزة وفق طبيعة النظام الإيديولوجية والاجتماعية ومصالحه. كان التلفاز أحد أيقونات دولة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، وكان يُعد أحد رموز "السيادة الوطنية"، وأحد علامات قوة الدولة الرمزية والإيديولوجية، مثله في ذلك مثل الدبابة والمدفع والطائرة، وهراوات الجنود والمصانع... بل كان يشكل ذ مع المذياع- أداة "الأمن الإيديولوجي" آنذاك إذا جاز هذا التعبير وساغ والمستمد من سطوة اللغة الأمنية التي سادت هذه الدول والمجتمعات العالم ثالثية بعد الاستقلال. دخل جهاز التلفزيون إلي مصر في المرحلة الناصرية وساهم في إشاعة وتوزيع السلع الإيديولوجية والرمزية للنظام ومنتجاته حول الاشتراكية العربية، وسياسة عدم الانحياز ودعم حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث لاسيما أفريقيا. وعلي الصعيد الداخلي دعم سياسات التحول الاشتراكي، ومواجهة الأعداء الإيديولوجيين للناصرية. ساهم تلفزيون الدولة المصرية في عمليات التغيير الاجتماعي، وفي دعم بعض القيم التقدمية، حول المرأة ودورها الاجتماعي والسياسي، وفي الترويج للخطاب السياسي الرسمي، وفي مواجهة بعض القيم التقليدية، التي شكلت عائق ضد مشروع استمر دور التلفزيون في أداء أدواره الإيديولوجية الداعمة للسلطة الحاكمة في عهدي السادات ومبارك، واستخدم في مواجهته الدعاوي الإيديولوجية والسياسية لخصوم النظام من اليساريين والقوميين في عهد السادات بعد مصالحته مع جماعة الإخوان المسلمين ثم في مواجهة الجماعات الإسلامية السياسية بدءاً بجماعة المسلمون التي اشتهرت إعلامياً باسم التكفير والهجرة، والجماعة الإسلامية والجهاد وسواهم- ومن ثم كان ولا يزال أحد أهم أدوات النخبة السياسية الحاكمة ذ أياً كانت- في التعبير عن سياساتها وخطاباتها الإعلامية أو المصالح الحاكمة لها، ومن ثم كان هو المعبر الأمين مع الصحافة "القومية" الرسمية. عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والرمزية. من هنا نستطيع القول أن حراس البوابات الإيديولوجية والخطابية للنظام التسلطي- ووراءهم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية- هم أحد أبرز الذين يؤثرون وقد يحددون من الذي يمر عبر تلفزات الدولة التي تضخمت عمالتها وأجهزتها الإدارية، ومقدمي برامجها ومعديها، ومعهم الأجهزة الفنية والإدارية علي نحو متضخم وهو ما كلف الدولة ميزانيات ضخمة ومتزايدة، بالإضافة إلي بروز ظاهرة ضعف مستويات الأداء والترهل الإداري، وانحسار وانحصار بعض الإبداع والخيال التلفازي، ومستويات المهنية. بدأ دور التلفزات الرسمية في التراجع النسبي مع ظهور الفضائيات العربية، لاسيما قناة الجزيرة التي أصبحت واحدة من أبرز الأدوات الإعلامية في التعبير عن السياسة القطرية الخارجية وأهدافها ومصالحها- ومن وراءها-، والتي استطاعت أن تقتحم بجرأة نسبية بعض سياجات المحرمات السياسية في أكثر من بلد عربي، علي نحو أدي إلي استقطاب ملايين المشاهدين في إرجاء المنطقة، وبما أثر ذ نسبياً- علي مصداقية التلفزات العربية الوطنية وشكلت تحديا لها، وذلك قبل الانتفاضتين التونسية والمصرية. شاركت قناة "الجزيرة" في تاثيراتها علي بعض اتجاهات الرأي العام عديد من القنوات التنمية. الحالة التنافسية، ساعدت علي تراجع مستويات الحوار الموضوعي لصالح السجالات، ومن ثم تراجع الحالة الحوارية لصالح الحالة السجالية الصاخبة. ترتب علي ذلك المساهمة في تزايد الانقسامات الحادة بين التيار الإسلامي السياسي بكافة مكوناته، وبين ما يطلق عليهم مجازاً بالتيار المدني تراجع تأثير قناة الجزيرة بوصفها أحد أبرز أدوات السياسة الخارجية القطرية مع فوائض مالية ضخمة ومؤثرة- في المنطقة، وذلك لتراجع بعض مستويات الأداء المهني الاحترافي الذي كان يُسم سابقاً منذ إنشائها بعض ممارساتها عن غيرها من الأقنية والتلفزات الوطنية العربية لاسيما في مصر وتونس وغيرها من البلدان الأخري العربية الأخري لاسيما أثناء وبعد الانتفاضة والحالة الثورية في كلا البلدين العربيين، وتحديداً قنوات "العربية" و"سكاي نيوز العربية" Sky News، وال B.B.C بي. بي. سي.، والحرة الأمريكية. أدت الحالتين الثوريتين التونسية والمصرية إلي عديد التأثيرات علي التلفزات الوطنية الرسمية، والخاصة المملوكة لشركات بعض رجال الأعمال في كلا البلدين، والتي برز بعضها بقوة علي المسرح الإعلامي الوطني في تونس ومصر، في هذا الإطار يمكننا طرح الملاحظات التالية من خلال المتابعة والمشاركة في بعض هذه البرامج الحوارية talck Show ، وذلك علي النحو التالي: 1- تراجع تأثير قناة الجزيرة بوصفها أحد أبرز أدوات السياسة الخارجية القطرية ذ مع فوائض مالية ضخمة ومؤثرة- في المنطقة، وذلك لتراجع بعض مستويات الأداء المهني الاحترافي الذي كان يُسم سابقاً منذ إنشاءها بعض ممارساتها عن غيرها من الأقنية والتلفزات الوطنية العربية لاسيما في مصر وتونس وغيرها من البلدان الأخري. بدي بجلاء انحيازها إلي جماعتي الإخوان المسلمين في مصر، والنهضة في تونس، وعدم التوازن في عرض الأخبار والمتابعة والتعليق وتحليل الأحداث، ومواقف الأطراف المختلفة المتنافسة علي الساحة في كلا البلدين من قضايا المرحلة الانتقالية. أمتد تراجع تأثير الجزيرة إلي قناتي الجزيرة مباشر، والجزير مباشر مصر لاسيما الأخيرة علي نحو ملحوظ ومتنام، وباتت أقرب إلي الانحياز والتعبير عن مواقف ومصالح جماعة الإخوان المسلمين وأصواتها والداعمين لها، والعاطفين عليها قبل وبعد خلع الرئيس السابق محمد مرسي، مما أفقدها المصداقية والتأثير علي الساحة الإعلامية المصرية، ومن ثم تراجعت نسب المشاهدة لها. 2- قامت القنوات الوطنية الخاصة بعد ضخ تمويلات مالية من بعض رجال الأعمال- دفاعاً عن مصالحهم والتأثير علي مسار المراحل الانتقالية وترتيباتها- باستيعاب فائض المشاهدة الناتج عن التحول عن مشاهدة "الجزيرة" وبعض الفضائيات الأخري وذلك لبعض الأسباب التي أشير إلي بعضها فيما يلي: أ- تنامي الطلب المرئي ذ السياسي لدي قطاعات من الجمهور المصري- جماعات"المشاهدين"- علي اختلاف شرائحهم الاجتماعية علي مشاهدة الجدالات والسجالات حول قضايا المرحلة الانتقالية الأولي، ثم الثانية، ثم الثالثة بعد 30 يونيو 2013 لاسيما في ظل بروز بعض الغموض الذي سار حول ما يجري خلف مشاهد السياسة واستعرضاتها اليومية. ب- غياب تصور واضح المعالم لدي الفاعلين السياسيين من أطراف اللعبة السياسية، لإدارة المرحلة الانتقالية، ورسم خارطة طريق واضحة للمراحل الانتقالية وترتيباتها المختلفة لاسيما في ظل حالة تناحرية، واضطراب سياسي، وعدم استقرار في الحالة الأمنية بعد انكسارها في عصر 28 يناير 2011، واستمرار اختلالاتها بعد ذلك. لا شك أن حالة الغموض والتشوش حول كيفية إدارة شئون البلاد- فضلاً عن الشكوك التي انبثقت من الرؤي الغائمة والمبتسرة للأطراف الفاعلة في مشاهد الاضطراب السياسي- ساعدت علي استمرارية بيئة الغموض المحلق علي المرحلة الانتقالية علي نحو أدي إلي سعي قطاعات اجتماعية واسعة إلي اللجوء إلي القنوات الفضائية الخاصة التي تمحور عملها، وبرامجها الحوارية، ومقابلاتها ونشراتها الأخبارية حول الأوضاع المصرية أساساً، وذلك سعياً وراء فهم ما، أو رأي يقال، أو خبر صحيح، يساعدهم علي فهم وقائع ما يجري علي الساحة السياسية، ومن ثم ازداد حضور هذه التلفزات في الحياة اليومية للمصريين، وأثرت علي بعض توجهاتهم. في ظل تسييس عارم لدي عديد من الفئات الاجتماعية لاسيما الوسطي- الوسطي، والصغيرة، بل وقطاعات شعبية مختلفة لاسيما في المدن "المريفة". ج- المخاطر الأمنية المتعددة، وانفتاح سوق الجريمة علي مصراعية، وظهور بعض ممارسات العنف والخروج علي القانون المحمول، علي نحو أعطي انطباعاً ولو غير دقيق بأنهم يشاركون في إبداء آرائهم حول قضايا الحوار وأشاع هذا الانطباع مشاركة بعض المشاهدين في إبداء آرائهم علي بعض مواقع هذه البرامج علي الفضاء الفني / الرقمي، أو من خلال مواقع التفاعل الاجتماعي الفيس بوك face book، أو تويتر Twitter، وهو ما يشكل نمطا آخر من التفاعل مع البرامج الحوارية وما يطرح فيها من آراء ومداخلات ومساهمات. 3- ضعف التركيبة الحزبية المعارضة من حيث هيكل عضويتها وسندها الاجتماعي وتبلوره ووضوحه كنتاج لخطاب الحزب السياسي، ومدي وضوح برامجه السياسية والاقتصادية والمصالح التي يدافع عنها. أحزاب تتجلي داخلها سيولة اجتماعية "طبقية" في تكوين عضويتها المحدودة الإعداد، والتوزيع علي الجغرافيا /السياسية والحزبية للبلاد، وتركزها في بعض المدن المريفة بما فيها القاهرة، والإسكندرية رغماً عن بعض مظاهر الترييف في القيم وأنماط السلوك والعلاقة مع الزمن وإدراكه كزمن متثاقل، بالإضافة إلي تدهور الأنماط المعمارية المدينية وتشوهها، واضطراربات بالإضافة إلي بعض الترييف الذي وسم الحياة والمعمار وبعض السلوك في هوامش المدن وقيعانها، أو ما يطلق عليه بالعشوائيات أو السكن اللارسمي. 4-هيمنة نمط من الإنتاج الإيديولوجي والرمزي يتسم بالنزعة الشعاراتية، وعدم الوضوح والتبلور والتحدد في نظام اللغة السياسية السائلة بين عديد الإيديولوجيات وعلي هوامشها، وهو ما سبق أن أطلق عليه بعض الباحثين الفرنسيين بالإيديولوجيا الناعمة أو الرخوة. هذا النمط من إنتاج الإيديولوجيا الرخوة يدور حول لغة أجيال حركة حقوق الإنسان، وبعض من تيارات دولة الرفاهة في تطور الدولة القومية في أوروبا والولايات المتحدة واليابان. تمثل الإيديولوجيات الرخوة والهشة في الإنتاج الإيديولوجي المصري، الجوانب الشعاراتية والرثة في بعض الأحيان والتي تشكلت من اختلاط وتشوش عديد من المصادر الإيديولوجية المتعددة التي سادت تاريخياً. من هنا تمثل السيولة في اللغة السياسية والاجتماعية والمعاني الحاملة لها والميوعة في الدلالات أحد أبرز جوانب الوهن الإيديولوجي التي أثرت سلباً علي السجالات السياسية والاجتماعية، ومن ثم أدي إلي إضعاف حالة الصراع الاجتماعي، والتنافس السياسي بين "الفاعلين" الحزبيين والسياسيين في البلاد. 5- ظهور ما سبق أن أطلقنا عليه ترييف السياسة، وبروز حكم نخب ريفية في بعض مكونات الوعي والذائقة السياسية وفهم العالم والنظرة إليه والأستثناء محدود بينها في هذا الصدد. 6- استمرارية نخب سياسية جاء غالبها من أطر بيروقراطية، وتكنقراطية تدور حول معارف وخبرات محلية مبتسرة في تخصصاتها، وبعضهم جاء من "الجامعات الريفية" التي انتشرت في مصر في ظل نظام يوليو 1952 والتي ساعدت علي تخريج أجيال من الحاصلين علي "الشهادات الجامعية" في الطب والهندسة والعلوم والتجارية والقانون والعلوم الاجتماعية والتي تحولت الشهادة الوثيقة إلي قيمة وأيقونة في ذاتها بقطع النظر عن مدي عمق التكوين التعليمي أو المهني لخريجي الجامعات، ومن ثم هل معني "الشهادة الوثيقة" بديلاً عن معرفة وتكوين رصين ورفيع في هذه التخصصات إلا فيما ندر ولإعتبارات خاصة تتعلق بتكوين هذا الاستثناء النخبوي ورموزه ومستويات ذكاءهم وقدراتهم علي التوصل إلي مصادر أخري للمعرفة خارج المصادر الجامعية "الريفية" تلك التي تمارس عملها وتدريسها خارج ضوابط علمية وتنظيمية تتسم بالجدية ومواكبة تطورات العلم العالمي في تخصصاتها علي اختلافها. "الفكر النخبوي" لمدرسي الجامعات وأساتذتها من تكنقراط الأحزاب الإسلامية الإخوانية والسلفية وسواهما، والاخرين عموماً إلا فيما نّدرَ من استثناءات- هو "فكر ريفي"! حتي هؤلاء الذين يتبنون الفكر الإسلامي السياسي الوضعي يتناسون أن الذي طور الفقه واللغة والفكر الإسلامي عموماً هم أبناء المدن تاريخياً، وفي الدول ذات الحضارات التي دخلها الإسلام وساهمت في تمدده وانتشاره في العالم! 7- أدت الفراغات الأمنية، وبعض الغموض الذي رانَّ علي المشاهد السياسية وسيولتها- وبعض التغير في عناصرها وتركيباتها وفاعليتها- إلي تزايد الطلب الاجتماعي والسياسي علي استهلاك البرامج الحوارية، ومتابعة الأخبار والتعليقات، لاسيما التي بثتها ولا تزال القنوات الإخبارية الخاصة، لاسيما في ظل تراجع مستويات الأداء المهني للإعلام المرئي الرسمي الذي لا يزال يخضع لتوجهات السلطة الحاكمة، سواء السلطة الفعلية في ظل المجلس العسكري السابق في أعقاب الانتفاضة الثورية في 25 يناير 2011 وما بعد، أو الحكومات الإنتقالية منذ رحيل الرئيس الأسبق "حسني مبارك" عن سدّة السلطة، وحتي انتخاب الرئيس السابق "محمد مرسي" وعزله عن السلطة. بعض الأضطراب ومصاحباته من العنف اللفظي والتظاهرات الفئوية، وبعض موجات العنف المادي، وأشكال الرفض، وغياب الوضوح في قواعد اللعبة السياسية وتنافساتها، أدي إلي تزايد معدلات الطلب الاجتماعي علي التلفزة السياسية ذ البرامج الحوارية والأخبار والتعليقات... الخ- سعياً وراء متابعة ومحاولة لفهم طبيعة ما يحدث في أروقة السلطة الرئاسية، أو في أجهزة الدولة، وفي الشارع وهو ما بلور ظاهرة تلفزة السياسية في مصر، وساعد علي ذلك ما يلي من أسباب:- أ- أدي سعي جماعة الإخوان المسلمين- وزراعها السياسية حزب الحرية والعدالة- إلي تمددها داخل جهاز الدولة إلي بروز عديد من الأخطاء السياسية التي وسمت القرارات السياسية والدستورية والقانونية علي نحو أدي إلي استثارة بعض أشكال المقاومة لهذه النزعة التي وصفها بعضهم بمحاولة أخونة الدولة"، أو السعي إلي الاستيلاء علي مفاصلها! أياً ما كان الرأي في مثل هذه الأوصاف الإيديولوجية ومحمولاتها، يمكن القول أن بعض التناقضات التي شابت سياسة الرئيس ذوالجماعة- أدت إلي صراعات مع عديد السلطات والفاعلين، علي رأسها: السلطة القضائية وحصار مجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا، والانتقادات الحادة للجماعة القضائية والتي وصلت في بعض الأحيان إلي التشهير الذي يمس حريتها ونزاهتها. ب- بروز بعض الصراع المستتر حيناً والظاهر حيناً آخر مع القوات المسلحة، ومع الأجهزة الأمنية، وأمتد الأمر إلي الصراع مع الإعلام المصري، وتغيير في قياداته واستبعاد عديد من الصحفيين وتعيين آخرين من ضمنهم عناصر تنتمي إلي جماعة الإخوان، أو من يميلون إليها. ج- تزايد حدة الصخب السياسي، واللغة السياسية العنيفة والهجائية والانقسامية، الذي أدي إلي ازدياد النزعة نحو الانقسامات السياسية وتعبيراتها الخطابية، وهو ما أدي إلي حالة من الإثارة السياسية، دفعت إلي المزيد من الطلب علي المشاهدة. السؤال الذي نثيره في هذا السياق كيف أثر تزايد الطلب علي التلفزة إلي بعض التغير السياسي نحو ظاهرة تلفزة السياسة؟ يمكن القول أن استقطاب القنوات الفضائية الخاصة لكتل اجتماعية متعددة من المشاهدين، أدي إلي بعض التغير في المزاج السياسي لهم، وإلي تأثير ذلك علي السياسة وفاعليتها وممارساتها فيما يلي: (1) استخدام بعض رجال الأعمال ذ وثمة بعض الشكوك حول تداخلات تمويلية وسياسية من الإقليم النفطي مع بعض أنشطتهم في هذا المجال التلفازي- للقنوات الفضائية الخاصة، وشراء بعضها أو إنشاء جديدة، في التعبير عن مواقفهم ومصالحهم الاقتصادية والسياسية في الفترات الانتقالية، ومحاولة التأثير علي مساراتها. أدي ضخ تمويلات كبيرة واستثمارها سياسياً في القنوات الخاصة، إلي دعم سياسة الإثارة والصخب السياسي في البرامج الحوارية لأنها تؤدي إلي استقطاب نسب مشاهدة عالية، ومن ثم إلي تيار من الإعلانات من حول السلع والخدمات التي تنتجها وتقدمها الشركات المتنافسة في هذا الصدد، وهو ما ساعد علي استعار المنافسة بين القنوات حول هذه البرامج الحوارية السجالية والحادة. الحالة التنافسية، ساعدت علي تراجع مستويات الحوار الموضوعي لصالح السجالات، ومن ثم تراجع الحالة الحوارية لصالح الحالة السجالية الصاخبة. ترتب علي ذلك المساهمة في تزايد الانقسامات الحادة بين التيار الإسلامي السياسي بكافة مكوناته، وبين ما يطلق عليهم مجازاً بالتيار المدني أو الليبرالي أو الديمقراطي، - بكل تنوعاتها "الليبرالية"، واليسارية، والناصرية القومية. إلي آخر هذه الأوصاف، بقطع النظر عن مدي دقتها الإصطلاحية، والتي تشكل جزءاً من ظاهرة سيولة المصطلحات والمفاهيم واستخداماتها الأنشائية في هذا الصدد. وللحديث بقية.