في مقال سابق كان التساؤل لماذا فقدت الأيديولوجيات سحرها؟ وهل يمكن لمشروعات وأفكار الاصلاح التي يتردد صداها اليوم مثل التحول الديمقراطي، وتدعيم حقوق وحريات الإنسان واعلاء قيم الشفافية والنزاهة والمساءلة، ومكافحة الفساد ان تقدم حلولا لمشاكل الوطن، وان تصبح بديلا للنظريات والأيديولوجيات التي شغلت عقول الناس وأثارت خيالهم السياسي لأكثر من سبعين عاما مثل الماركسية، والاشتراكية، والقومية، والليبرالية التقليدية، وربما السلفية أيضا؟ وكانت الملاحظة ان تراجع الأيديولوجيا الجامدة لصالح الرؤي العملية المرنة وفلسفات الهجين الفكري والسياسي هي ظاهرة عالمية.. وقد وجدت هذه الظاهرة ارهاصاتها الأولي علي يد فوكوياما حين أعلن في كتابه الشهير نهاية التاريخ عن الانتصار النهائي لقيم الرأسمالية الليبرلية علي كل ماعداها من الأيديولوجيات الأخري لكن التساؤل الجدير بالانشغال هو هل كان فوكوياما يقصد انتصار الرأسمالية كأيديولوجية أم كمجوعة من القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية المتنوعة التي تستلهم من حركة التطور بأكثر مما ترتبط باطار معرفي وأيديولوجي محدد؟ تلك علي أي حال أسئلة مطروحة ولاتزال في المجتمعات المتقدمة لكن الاجابة عليها قد لاتصلح بالضرورة لتفسير تراجع الأيديولوجيات في الحال المصرية والعربية عموما.. فالسياق الاجتماعي مختلف بيننا وبين الغرب ودرجات التقدم متفاوتة. ثم وهذا هو الأهم أن لدي الغرب أيديولوجيات صاحبها منهج نقدي كان قد نضج واكتمل.. هذا المنهج النقدي هو الذي قاد الغرب في الربع الأخير من القرن العشرين لأن يرجح الحلول علي الأصول وينشغل بالبرامج لا المباديء ويقفز في ذكاء علي المطلقات لكي يحسن التعامل مع المتغيرات.. ولهذا رأينا في دول شمال أوروبا كالنرويج والسويد وفنلندا والنمسا مجتمعات رأسمالية لكنها تتبني نظما للعدالة الاجتماعية عجزت عن ابتكارها الدول الشيوعية والاشتراكية في ذات الوقت الذي نجحت فيه في تحقيق الرفاهية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. ورأينا توني بلير البريطاني ينتشل حزب العمال من أزمته التاريخية وجموده الأيديولوجي مستلهما فلسفة الطريق الثالث وهو الأمر الذي أغاظ حزب المحافظين وهم يرون توني بلير العمالي الذكي وكأنه يسرق بعضا من أفكارهم في وضح النهار!! هكذا بدا تراجع الأيديولوجيات في الغرب تعبيرا عن درجة متقدمة لمنهج نقدي يتجاوز أسر المفاهيم المطلقة والنظريات الجامدة إلي فضاء المبادرة والتجديد. فماذا عنا نحن! لماذا لم تحافظ التيارات والأحزاب القومية والاشتراكية والليبرالية علي زخمها القديم وأصبحت تعاني الاحباط والتشتت والانقسام؟ ولماذا فقدت الأيديولوجية الوعود والأحلام التي طالما بشرت بها؟ تفسيران محتملان لهذه التساؤلات أولهما أن هذه الأيديولوجيات رغم طابعها الإنساني قد تأثرت بذهنية عربية تخاصم المنهج وتنفر من المراجعة بقدر ماتؤثر الاطلاق والتعميم وتستعذب جموح الرأي وتطرف الرؤية.. وقد تم كل ذلك علي خلفية من العناد العقلي الذي اقترن خطأ بمعاني البطولة والاقدام وحين أدرك انصار هذه الأيديولوجيات أهمية المراجعة النقدية، وفضيلة التواضع العقلي، والوعي بالمستويات الوسطي والمعقدة للحقيقة بعيدا عن حدودها المتطرفة كحد السكين الذي يجرح صاحبه كان الوقت قد ضاع!! وكان العالم المتقدم الذي يسبقنا في الخمسينيات بمائتي عام قد أصبح اليوم يسبقنا بنحو أربعمائة عام.. أما علي الأرض فكانت فلسطين قد سلبت واكتمل استيطانها إلا قليلا.. وكان العراق قد تم غزوه لذات السبب( أيديولوجية عنيدة وممارسات حمقاء مع أنه كان يمكن للأيديولوجية أن تكون أكثر ذكاء والممارسات أن تصبح أكثر دهاء!! والواقع ان هذا الجمود الأيديولوجي قد أفضي إلي نتيجتين هامتين.. فمن ناحية أولي أدي هذا الجمود إلي تراجع دور الأحزاب التقليدية في الشارع المصري ولم تعد موضع اهتمام ولا انشغال المواطن العادي وانحصر تأثيرها في النخبة فقط بل لعله انحصر في مجموعة ضيقة ممن احترفوا العمل الحزبي.. وهكذا لم تعد الأفكار والمقولات الماركسية أو الاشتراكية مثلا تثير حماس الناس.. ربما علي العكس اثارت دهشتهم، وسخريتهم.. أما القومية العربية وعلي الرغم من أنها تقدم للعرب مشروعا حياتيا وتطرح مجموعة من الحلول لقضايا وجودهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي فقد تم اختزالها عن سوء نية في مجرد ايديولوجية عنصرية تجاوزها العصر، ويصدق هذا علي العديد من الايديولوجيات الأخري، ومن ناحية ثانية أوجد هذا الجمود الايديولوجي شبه فراغ ونوعا من أنواع الخلخلة الفكرية داخل الأحزاب نفسها وهوالامر الذي يفسر ظاهرة الضجر الحزبي، وانصراف الكثيرين من المشتغلين بالأحزاب إلي الانخراط في حركات وتجمعات جماهيرية غير حزبية ربما وجدوا فيها جدة وحيوية يفتقدها العمل الحزبي الذي صار يئن تحت وطأة ايديولوجيات تجاوزتها حركة التطور وتعقيدات الواقع. لقد كان مطلوبا من الايديولوجيين والمثقفين والحزبيين المصريين أن ينشغلوا بمنهج المراجعة قدر اخلاصهم لمضمون الفكرة.. وأن يزاوجوا بين مقتضيات التطور وضرورات النضال لكي تصبح هذه الأيديولوجيات أكثر قربا من مشاكل وقضايا الناس.. وكان مطلوبا أيضا ان تهبط هذه الأيديولوجيات قليلا من برجها العاجي لتتحول إلي برامج عمل واقعية ومرنة وقابلة للتطبيق حتي وان تنازلت عن بعض مثالياتها وحدودها القصوي.. لكن الذي حدث ان كل من تكلم عن ضرورات المراجعة والنقد صار محاصرا بالشكوك في ظل عقلية لم تفرق بين من اختلفوا في الوسيلة، ومن فرطوا في المبدأ.. صحيح ان هناك محاولات للتجديد تمت علي يد بعض المفكرين والباحثين العرب المعاصرين مثل المغربي عابد الجابري وقبله زكي نجيب محمود لكن هذه المحاولات علي أهميتها لم تترجم من أسف إلي برامج حزبية ومشروعات عمل وآليات واقع. أما التفسير الثاني لتراجع الأيديولوجيات أو بالأحري اخفاقها فكان تجاهلها لأهم قيمة من قيم التقدم وهي الديمقراطية بما يتفرع عنها من لوازم، ومفترضات وعلي رأسها احترام حقوق وحريات الإنسان.. وحين وضعت كل الأحزاب والتيارات المصرية هاتين القيمتين علي رأس أجنداتها ومطالبها فلم يكن ذلك في الغالب عن سابق عزم فكري وتصميم سياسي بل كان لدي البعض من قبيل الانتهازية النبيلة لحركة المتغيرات الدولية، ولدي البعض الآخر استجابة لمناخ عالمي هادر لاقبل لأحد بالوقوف أمامه!! وفي الحالتين فقد اكتشفنا متأخرا كم كانت حاجتنا ملحة لاجراء تصالح بين قيمة الديمقراطية وبين تياراتنا الأيديولوجية واحزابنا بقدر حاجتنا إلي دمقرطة الدولة بجميع مؤسساتها.. وهكذا انفقنا اكثر من نصف قرن من الزمان ونحن نراهن علي ايديولوجية تلو الاخري.. كنا نقدم الحماس السياسي، والبراءة الفكرية علي حساب قيم النقد والمراجعة. والحماس، والبراءة مطلوبان لاستنهاض الهمم بينما النقد والمراجعة ضرورتان لتقدم الأوطان. علي أي حال السؤال الآن هل يكون بوسع تيار الاصلاح أن يتقدم في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ الوطن ليصوغ مشروعا ولو انتقاليا يواجه مجموعة التحديات المستقبلية؟ وهل يقدر للاصلاحيين الجدد أن يستفيدوا من تجارب الأيديولوجيين القدامي الذين برغم نبل مقصدهم نزعوا إلي الجموح، وصادروا حرية الرأي الآخر.. فلم ينجز الرأي الأول شيئا ولم نعرف ماذا كان الرأي الآخر!! هذا سؤال يستحق البحث عن اجابة. ------------------------------------------ الاهرام : 26-10-2005