"خلف كل باب هنا يقف شاعر" .. هذا بالضبط ما قالوه لنا ونحن بعد في الطريق الطويل من بغداد إلي النجف الأشرف، وهو ما رأيناه بأنفسنا حين لامست أقدامنا أديم النجف للمرة الأولي، هنا .. سيجد المرء نفسه علي حين غرة، ضائعًا في غلالة من النغم والضوء، من الإيجاد والفقدان، من البهجة الغامضة والحزن الشفيف، نعم .. أنت الآن في النجف الأشرف حيث الحزن ناموس المدينة العتيقة، وسرّها الباقي، وحيث السواد رايتها الأثيرة. علي مدي أربعة أيام أضاء الشعر كما أراد له اتحاد الأدباء والكتاب بالنجف في الدورة الثانية لملتقي "عالم الشعر"، الذي انعقد في المدة من 25 حتي 28 نوفمبر المنصرم، بمشاركة ما يقرب من ثلاثمائة شاعر وناقد وباحث جاؤوا من أنحاء العراق ومن خارجه، امتلأت بهم قاعة المؤتمرات بمقر غرفة التجارة بالمدينة المقدسة عن آخرها علي مدي أيام الملتقي، وهو الأمر الذي جعل من هذا الملتقي خير تمهيد لإعلان مدينة النجف الأشرف عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2012. وعلي الرغم من الفاجئة المحزنة التي ألمت بالملتقي في جلسته الافتتاحية عندما أسلم الشاعر الفلسطيني عبد العزيز جمعة الروح إثر أزمة قلبية مفاجئة، إلا أن الشعر كان كفيلا بتدارك الأمر، فسرعان ما مارس هوايته، كي يضيء حرًا ويبدد العتمة العابرة. هكذا، استطاع ملتقي عالم الشعر تحت شعاره الطموح "الشعر يضيء حرًّا" الذي اختير له، أن يصنع حالة نادرة وغير مسبوقة من تجانس الفرقاء، حالة لم تعهدها حياتنا الأدبية في عالمنا العربي، تلك الحياة التي لم تعرف طوال الوقت سوي ثقافة التحزب والاستقطاب، وربما ما ساعد علي صناعة هذه الحالة الجديدة هو بروز فصيل من الشعراء الجدد الموهوبين بالعراق، مثل الشاعر فارس حرام وغيره من شعراء المدينة المقدسة، حيث استطاع هذا الفصيل أن يقدم نماذج شعرية رفيعة عبر أشكال الشعر المختلفة، من العمود الخليلي برصانته، حتي النص المشكل، أعني قصيدة النثر، فكان أشبه ما يكون بجسر جديد يصل ما بين دعاة الأصالة وحراسها من جهة، وبين والحداثة ومشاغبيها من جهة أخري، ليبدد الكثير من الريبة التي راكمتها شائعات نقدية لدي الطرفين، كان بها دائمًا من الوهم أضعاف ما بها من الحقيقة. علي أننا يجب أن نعترف بأن المناخ العام للملتقي بدا ميالا للمحافظة بشكل واضح، هذا علي الرغم من الاجتهاد الواضح من بعض شعراء العمود الذين سمعناهم، في إحداث نوع من الخلخلة المحسوبة في بنية هذا العمود الراسخة، أو ضخ حساسية جديدة في شرايينه التي كانت قد انسدت، أو أوشكت علي الانسداد، علي نحو ما لمسناه من شعراء مقتدرين مثل عامر عاصي أو قاسم والي وغيرهما، وهذا الميل يمكننا تفهمه في بيئة ثقافية يهيمن عليها الموروث الديني والعقائدي، وفي بلد يري نفسه بل يراه الآخرون أيضًا، مهدًا للفصاحة العربية ومعقلا للغة، وهو في الأخير البلد الذي قدم للعربية اثنين من أهم شعرائها التاريخيين .. المتنبي والجواهري. إلا أن وجهًا آخر للملتقي قد برز فجأة وعلي غير توقع في الأمسية الشعرية المسائية التي انعقدت في اليوم الثالث، عندما هيمنت عليها أصوات واعدة شابة قدمت حساسية مغايرة وجارحة، نحسب أنها أعادت الاتزان للمشهد الشعري العراقي الراهن، ووضعت الشعرية العراقية في مكانتها المستحقة كعضو فاعل علي الدوام في الحداثة العربية، وكان من هذه الأصوات التي يصعب نسيانها الشعراء علي محمود خضير، وميثم الحربي، وعلي وجيه، ومروان عادل، وكريم جخيور، وزاهر موسي وغيرهم. أمكن لهذا الملتقي أيضًا، أن يجتذب بعض شعراء العراق من الشتات الذي فرضته النكبات المتوالية علي هذا الشعب العظيم ونخبه، فبعد سنوات طويلة صار من الممكن أن تري وتسمع فوزي كريم، وزاهر الجيزاني، ومحمد مظلوم، وعبود الجابري وغيرهم معًا وفي مكان واحد، بعدما كان ذلك فيما مضي يعد ضربًا من خيال. وبالطبع، كان هذا إلي جانب الشعراء الذين أتوا من بلدان عربية وإسلامية مجاورة مثل الشاعر السوري ماهر شرف الدين، واللبنانية أمل طنانة، والإيرانية سودابه أميني، والبحريني حسين السماهيجي، والمصريين محمد آدم، وفارس خضر، وحسن شهاب الدين. علي جانب آخر، كان علينا أن نعترف لأنفسنا قبل غيرنا، بأن الملتقي لم ينجح بالقدر الكافي -تحت كل هذه الأعباء الضخمة التي وضعها علي كاهله- في وضع محاور نقدية لامعة، فقد جاءت الجلستان النقديتان اليتيمتان باهتتين بعض الشيء، فالأبحاث المقدمة بدت إما تقليدية التناول بشكل لافت، أو ناتئة عن العنوان الرئيسي للجلسة، هذا باستثناء ورقة الباحث اللامع حيدر سعيد التي احتفظت برونقها لالتزامها بالقدر اللازم من التأصيل المعرفي، وعلي الرغم من ذلك، فقد كان تفاعل الحضور مع الأوراق كلها حيًا وساخنًا، حيث تلقت المنصة علي غير توقع، سيلا من الانتقادات الحادة نمّ عن وعي وانتباه بالغين. إن ملتقي "عالم الشعر" في دورته الثانية تجربة حية ودافقة وفريدة بكل مقياس، وهو بالتأكيد رسالة بليغة تحمل معان تحتاج إليها ثقافتنا العربية والإسلامية في وضعها الحرج الراهن، كان أهمها بامتياز .. قبول الآخر.