»كل رحلة لا تذهب إلي القلب وإنما تعود إليه. كل رحلة لا تحمل أملاً باكتشاف أرضٍ جديدة. وإنما حنيناً إلي مكان يُخيل إليها أنها كانت فيه من قبل. أما القلب فيبقي دائماً علي بُعد خطوة.« ترد الفقرة السابقة في قصة الأرواح الميتة، من المجموعة القصصية »حلم يقظة« التي صدرت مؤخراً عن دار ميريت. وبقدر ما تصف الفقرة رحلات إحدي الشخصيات إلي عوالمها الداخلية في أحلام يقظتها، ربما تصف أيضاً طبيعة الرحلة التي يحاول هيثم الورداني الاقتراب منها، فهي ليستْ رحلة مكانية أو حضارية وحسب، بقدر ما هي رحلة داخلية، تتحول خلالها الذات إلي طيف يتذبذب بين الوجود والعدم، يَصير ما يُسمي بالواقع خلالها أقرب إلي حلم يقظة. يمكن قراءة مجموعة حلم يقظة بوصفها كتاباً قصصياً لا تنفصل قطعه السردية عن بعضها البعض، لا من حيث العالم الذي تتلمسه (المهاجرين في برلين من جنسيات مختلفة الاغتراب الروحي قبل المكاني أسئلة العولمة الراهنة) ولا من حيث طرائق الاشتغال السردي (الوحدة العضوية للفقرة شبحية الشخصيات الانحياز للعالم الداخلي التخييل المكبوح برفق والملعوب بذكاء اللغة الرصينة التي تعتمد أحياناً مسكوكات قد تبدو ثقيلة من نوع: «زرافات ووحداناً» إلي جانب الصيغ العامية والمفردات الأجنبية). ثمة جهد مبذول في ترتيب النصوص بحيث تتخذ بنيةً ما، لا تقترب رغم ذلك من قصدية معمار الرواية أو المتتالية القصصية، ولكن السيميترية واضحة. وإذا عمدنا إلي تقسيم نصوص الكتاب إجرائياً سنجد في القلب القصتين الأطول والأهم، الأرواح الميتة ومسلسل »النائمون«. الأهم من حيث درجة وضوح عالم الكتاب وهمومه وأسئلته، من خلال دراما شخصيات معلقة في فراغ كوني، فراغ تتخذ فيه مدينة غريبة شكل هذا الكوكب بكل نزعاته وأطيافه. شخصيات _غالباً أسيرة مؤسسات كبري، مؤسسات لها بُعد كوني كذلك، حيث تختلط الألسن والديانات والعقائد. لا مهرب لمثل تلك الشخصيات إلا أحلام اليقظة أحياناً، وسرعان ما يتحول هذا المهرب في قصة الأرواح الميتة إلي وسيلة مبتكرة للانتقاد والمواجهة : تحويل أحلام »بي« إلي كتاب مزود بالصور التي يلتقطها جرجس زميلها من الشركة. في القصة نفسها نلمس كيف تتحول علبة لبن في ثلاجة في بوفيه مؤسسة إلي بؤرة للنقاش حول الملكية الخاصة والموارد المتاحة للجميع، وكيف نتعامل كأفراد أو كجماعة مع استبداد الإدارة أي إدارة. موقع الفرد وعلاقته بالآخر نغمة تتردد بتوزيعات مختلفة خلال قصص الكتاب. في القصة الأخري، والتي جاءت أقرب إلي نوفيلا، وهي مسلسل »النائمون« مواجهة المؤسسة الغربية يتمثل في التخطيط لأعمال إرهابية ضخمة، توقظ النائمين، وتطول النقاشات حول هدف التدمير، هل يكون موقعاً تاريخياً له دلالته الرمزية أم سوق تجاري عصري كتجسيد للحداثة التي تشوه وتقتل وتسلب الخصوصية؟ يبقي الأمر في حدود التخطيط والنوايا والعزم، حتي يختلط الحلم باليقظة هنا وفي أغلب قصص الكتاب فلا يدري أحد إن كان الهجوم قد وقع بالفعل أم تظل الشرطة في حالة استنفار مرابطة بجوار المبني المُهدد تحسباً للاحتمالات. بعض شخصيات الكتاب تتآكل أطرافهم، تختفي ببساطة، ومنهم من يختفي وجهه فعلياً وليس مجازياً، وتتخذ أجسادهم ردود أفعال مرضية للتكيف مع هواء المدينة. الطبقة الثانية من الكتاب تتمثل في ثلاث قصص تحمل اسم السيد فهمي: ( السيد فهمي يذهب إلي العمل، السيد فهمي يذهب إلي حفلة، السيد فهمي يركب المترو). هذه القصص لا تأتي علي التوالي، لكن مواضعها من الكتاب تؤكد السيميترية. والسيد فهمي هنا أقرب ما يكون إلي السيد كاف في بعض أعمال كافكا، الإنسان العام الذي تبتلعه أو تمسخه ماكينة المؤسسة ومتاهة الشمولية وألغاز الوجود الإنساني. السيد فهمي أكثر بساطةً ومرحاً، شخص بلا ملامح واضحة، مجرد مهاجر عربي بسيط يعيش وحيداً، يُضاف إلي خلفية المدينة حتي يكاد يندمج بها تماماً، يعمل كومبارس حيث يظهر في أولي القصص الثلاث جالساً إلي البار، مع صديقته إيستر، بينما يتم تصوير مشهداً سينمائياً، فيما نتابع الحوار الدائر بينهما وهما يحاولان ألا يغفلا الإشارات بالأيدي اللازمة للمشهد... تُحدثه هي عن ضجرها من كونها صارت مجرد صورة باهتة تطفو علي سطح كل مدينة ترحل إليها، يحاول من جانبه إقناعها بإمكانية البقاء في عالم الصور وقتاً أطول، طالما أنها لن تجد سواه في مدينة تذهب إليها. في القصص الثلاث نتابع مع السيد فهمي أفكاره وهواجسه حول الهجرة والاغتراب، من قبيل نظرية الثلاجة حيث تتجمد المعرفة بمزحات وقفشات الوطن عند لحظة الرحيل عنه، ومن ثم يتم تجميدها واستعادتها كما هي طوال الوقت. في القصة الثالثة فقط ينشق الديكور الواقعي للمدينة المحيطة عن سلخة من فانتازيا سوداء، لحظة اقتحام الديدان الكثيرة لعربات المترو واندماجها مع الركاب، وفي سياق مشهد مطاردة الهارب من مفتشي المترو، تندغم أوهام وهواجس الذات في المشهد العام بلا انفصال، تماماً كما تتسرب ذات الرائد الفضائي إلي الفراغ الكوني في القصة الأخيرة من الكتاب. ثم نأتي للطبقة الأساس من الكتاب وهي القصص الأربع التي تحمل علي التوالي عناوين: اليوميات والحوارات والأعراض واللقاءات، إنها تحيط بالكتاب في أوله وآخره، كما تتخلله، وهي أقرب إلي وقفات تأملية سردية، بدون شخصيات ولا أحداث بالمعني المتعارف عليه، مُعتمدة علي وحدة الفقرة الواحدة في إنتاج الدلالة، مع وجود روابط بين فقرات كل نص. اليوميات ترسم صورة بانورامية لمدينة برلين، انطلاقاً من كتابات الجدران وكيف تعكس ما بداخل سكّان هذه المدينة من تباينات واختلافات سياسية واجتماعية، علي حيطان الشوارع أو فوق جدران المراحيض العامة يتحاور المجهولون وقد يتبادلون السباب، معلنين عن توجهات تتراوح من الفاشية إلي الفوضوية. وبينما تكتمل تلك اللوحة البانورامية لا تعكس الحركة في المدينة نفسها ذلك الصخب الصامت، لا تعكس الجملة التي كُتبت في الشارع «أنا لن أموت في صمت»، بل نري مجموعات المهاجرين وسواهم أقرب إلي كائنات شبحية أو مسرنمين. كأن الحرب باطنية، بلا وجهٍ مكشوف، ويبقي العجز عن تحويل صمت فترات ما بعد الظهيرة إلي سكينة حقيقية، «ويورث هذا العجز شعوراً مربكاً بفوات ميعاد لا يمكن تداركه». في مقابل الحرب الصامتة علي الجدران العامة نسمع في الحوارات كل الضجيج الممكن المُخبأ تحت صمت الشوارع، في فقرات متتالية يُحيط بكل منها قوسي عبارات القول، نستمع إلي ما يقترب من شهادة توثيقية قصيرة في فيلم صغير عن المهاجرين، أو فضفضة حميمة من أحد المعارف في سهرة ودية، بلهجات عربية تنتقل بين فلسطين ولبنان ومصر، ورغم انفصال هذا الصوت _الكلام عن مصدر الأصلي، عن شخصيته ذات الملامح والحدود الواضحة، فهو لا يعني مع ذلك تجريده إلي مجرد قضية، يظل صوتاً إنسانياً له خصوصيته. في آخر قصص هذه المجموعة اللقاءات، وهي آخر قصص الكتاب، يعتمد الورداني صيغة الفقرة الواحدة في أوضح صورها، الفقرة كوحدة سردية عضوية تكاد تكون مستقلة بذاتها، ترسم مشهداً فانتازياً أو تحكي حكاية طنين رأس عائشة أو رائد الفضاء الذي أرسل ليدور حول الأرض لالتقاط أكثر الصور الممكنة نقاءً فنزف ذاته في الفراغ أو نزف الفراغ إلي ذاته... كل فقرة تتصل بالفقرات الأخري بخيطٍ رفيع، لعله مجالها الدلالي، أو أسئلتها المتكررة التي قد تتخذ أشكالاً سردية أو تصويرية متباينة، يصدق هذا علي فقرات هذه القصة الأخيرة، يصدق بالقدر نفسه علي قصص الكتاب كلها. بين غلافي حلم يقظة تجربة عميقة ووعي مرهف بلحظتنا الإنسانية الراهنة، تجربة لا تُتيح نفسها بقراءة سريعة أو حتي بقراءة واحدة.