"العيش في لغة أجنبية يشبه مشاهدة التليفزيون. تجلس وتتابع وأنت تعرف أن ما يدور أمامك هو وهم شبيه بالواقع، تعرف أن ما تشاهده هو لحظة منفصلة تقع علي هامش لحظتك الحالية" المجتزأ السابق من قصة" اليوميات "يعكس الخط الرئيسي للمجموعة القصصية "حلم يقظة" للكاتب هيثم الورداني الصادرة عن دار ميريت، والتي تضم نصوصاً تترابط في المكان والأفكار وشعور الاغتراب المسيطر علي كل شخوصها، تطل مدينة برلين حيث يقيم الورداني منذ عشرة سنوات مدينة كابوسية، وتتقاطع فيها حياة المهاجرين في إطار أشبه بحلم يقظة، ممتد علي طول المجموعة، ستجد نصوصاً تتواصل عناوينها مثل: السيد فهمي يذهب إلي العمل، السيد فهمي يذهب إلي حفلة، السيد فهمي يركب المترو" تقطعها نصوص أخري، تتعدد فيها الأصوات وتبدو أحيانًا كانها صوت واحد رغم اختلافها، يقول الكاتب: "كنت مهتما في هذا الكتاب باختبار كيفية خلق وحدة عضوية له، دون أن تكون هذه الوحدة قائمة بالضرورة علي الاستمرارية الدرامية للأحداث كما يحدث عادة في الرواية، وإنما قائمة علي التجاور والتواصل غير المباشر بين أجزائ،ه وبالتالي فالمجموعة بالنسبة لي ليست نصا واحدا متعدد الوجوه، وإنما كتاب واحد متعدد النصوص". حياة المهاجرين وعلاقة المهاجر بالآخر ربما تيمة تم تناولها في أعمال أدبية وأفلام سينمائية بأشكال مختلفة.. هل تري أنها لا تزال صالحة للتناول في ظل انفتاح العالم وسهولة التواصل مع الوطن الأصلي؟ أثناء عملي علي هذا الكتاب كان هناك دافعان متناقضان يحركانني، الدافع الأول هو العزوف تماما عن التطرق إلي وضعية المهاجر، أو ثنائية الشرق والغرب، لأن ذلك الموضوع أصبح مشبعا لدرجة كبيرة بالكثير من الأعمال التي تناولته، وقلبته علي أوجهه المختلفة، حتي أصبح الحديث فيه مملًا. الدافع الثاني محاولة خلق سياق فني أتمثل من خلاله التجارب والخبرات الحياتية التي أمر بها في مدينة برلين، التي أعيش فيها منذ أكثر من عشر سنوات. أعتقد أن النتيجة هي عمل مضطرب إلي حد ما، وربما يرجع سبب الاضطراب إلي التباس المواقع، فكتاب كهذا يمكن أن تكون موضوعاته أكثر قربا إلي قارئ برليني مُلم بخلفيات المدينة، لكن طريقة كتابته والأسئلة التي تحرك هذه الكتابة أكثر ارتباطا بقارئ قاهري. هذا الالتباس أو الاضطراب هو ما كان يثيرني أثناء الكتابة، لأنه يعبر جيدا عن تجربة الحياة في مكان آخر، فالمرء يحصل علي معطياته أو مدخلاته من سياق أو لغة، أما مخرجاته فتحدث في سياق آخر ولغة أخري. - من الصعب تمييز المواطن الأصلي من المهاجر.. او المكان القادم منه المهاجر. كل الشخوص في حالة اغتراب عن المكان.. في الحقيقة لم أكن مهتما بربط الشخصيات التي تظهر في النصوص بالأماكن التي خرجت منها، وإنما كنت مهتما أكثر بمعرفة ما المواقع المختلفة التي يمكن لها أن تشغلها علي خريطة البعد والقرب، أو الانتماء والاغتراب في المكان الجديد؟ أعتقد أني كنت مهتما أكثر بعمل ما يشبه المقطع العرضي في لحظة معينة من لحظات مدينة، ومحاولة التعرف علي المواقع المختلفة الممكنة في هذا المقطع. ثنائية الأجنبي وابن البلد ليس لها وجود عندي. الشخص الشاعر باغتراب وسط المحيط الذي يعيش فيه ليس بالضرورة أن يكون مهاجرًا من الممكن أن يكون ابنًا للمكان. كنت ألعب في نصوصي بتلك الفكرة. ليس هناك ملامح تقليدية لابن برلين الأصلي وممثل لطبيعة المكان. أعتقد أنّ هذا ما يخلق علاقة حقيقية بين الشخوص لأنهم في ظرف الاغتراب بمعناه الواسع. بشكل عام. هذا ما يخلق حواراً حقيقياً أكثر من إمكانية الحوار عبر جهات ومواقع، ليس الأمر (مسلم عربي) و(أوروبي غربي). ولن يكون هناك حوار حقيقي عبر مواقع مسبقة التحديد. ولكن عبر ما هو إنساني ومشترك بين الجميع. - علاقة الفرد بالجماعة فكرة أخري تكررت في نصوصك، ربما تكون من جيل التسعينيات الذي لم يؤمن بالأسئلة الكبري والأيدلوجيا، لكننا في لحظة عادت فيها تلك الأسئلة وربما البحث عن أجوبة أيضًا.. كيف تري ذلك؟ كثيرا ما ارتبطت كتابة جيل التسعينيات بالفردية، وأصبحت صفات مثل "الاهتمام بالقضايا الصغري بدلا من القضايا الكبري" و"رفض الأيديولوجيا" و"الاحتفاء بالجسد" مترادفات تُذكر وكأنها العلامة التجارية لهذه الكتابة. بالطبع يمكن لمس ملامح عامة لكتابة هذه الفترة، وبالطبع يمكن القول إنها دخلت في جدل مع الأيدلوجيا والجسد ... إلخ. لكن في النهاية فإن الكتابة، علي الأقل، الكتابة الجيدة، لا يمكن أن تبقي أسيرة قوالب محددة، فهي صيرورة تستمر وتطرق دروبا وتتغير. وبالتالي لا أفهم وضع كُتاب التسعينات في موضع الطرف النقيض للحظة الراهنة، أو في موضع الخاسر الذي أثبتت اللحظة الراهنة فشل خياراته، وكأن الأجيال تنتهي بمجرد صكها، وتظل سجينة لحظة نشوئها. من الممكن تأمل لحظة التسعينات وكتابتها كلحظة مغايرة تماما أو حتي علي نقيض اللحظة الحالية، لكن من الصعب بالنسبة لي فهم موضعة كُتاب التسعينات علي نقيض اللحظة الحالية. ثانيا إذا كان إنجاز التسعينيات الأثير هو تأملاتها حول الفردية، وموضعة الفرد داخل الجماعة، فإني أعتقد أنه لن يضر لحظتنا الحالية التي يهيمن عليها الفعل الجماعي علي الإطلاق مثل هذه التأملات. أنا لا أعتقد أن الفردية تعني رفض العمل الجماعي، الفردية ليست موقفاً، ولكنها موضع علي خريطة، موضع متحرك ويُعاد تعريفه دائما، ويخضع لمفاوضات وتوازنات دقيقة، ومن العبث اعتقاد أنه موقف جامد وأنه نقيض للجماعة. - لكنّ هناك انقلابًا إن جاز التعبير بين مجموعتك القصصية التي شاركت فيها 6 كتاب من جيلك عام 1995 ومجموعتك القصصية الثانية "جماعة الأدب الناقص" عام 2003 لا أنكر إنني كنت معتمداً فيما سبق علي التجربة الذاتية كمنبع رئيسي للكتابة، وقليلًا ما كان يستهويني (الاختلاق). ووصلت لدرجة من الملل، من هذه الكتابة، التي تتناول اللحظة المعاشة الحياتية الموضوعة بين قوسين، علي حد تعبير الشاعر الراحل أسامة الديناصوري. شعرت في لحظة أن هذا النوع من الكتابة قد وصل لطريق مسدود . فأردت تجريب أرض ثانية فيها درجة اختلاف كبيرة عما كتبته قبل ذلك. - هل يمكان أن تشكل الثورة تغيّرًا في إحساس الكاتب المهاجر خارج الوطن وزاوية رؤيته وبالتالي تشكل تغيرًا فيما أطلق عليه بعض النقاد "أدب المهجر"؟ أنا لا أدري كيف يمكن تعريف "أدب المهجر"، وبالتالي لا أدري كيف سيتغير في المستقبل. لكن علي وجه العموم أعتقد أن الثورة وتبعاتها ستكون قادرة بالتأكيد علي إحداث تأثير علي الكتابة بصرف النظر عن المكان الذي يعيش فيه الكاتب الآن. إذا كنت تقصدين هل ستجعل الثورة الكتاب الذين يعيشون في الخارج يفكرون في العودة إلي مصر أم لا، فذلك بالتأكيد ممكن. لكن عموما علينا الحذر من تبسيط الأمور.