رئيس «هيئة ضمان جودة التعليم»: ثقافة الجودة ليست موجودة ونحتاج آلية لتحديث المناهج    مجلس الدولة يلزم «التجارة الداخلية» بسداد قيمة أرض مخصصة للإصلاح الزراعي    «معيط»: القطاع الخاص يسهم في تنمية الاقتصادات الناشئة وزيادة الناتج المحلي    خلال زيارته فرنسا.. وزير النقل يبحث إنشاء مصنعين لإنتاج الأنظمة المختلفة للسكك الحديدية والانفاق    رئيس الرقابة المالية: البورصات تعزز قدرات الدول في خلق طبقات متوسطة أيسر حالاً    رئيس الوزراء يعود للقاهرة بعد مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    بعد أسبوعين على الفيضانات.. تحذيرات لدول الخليج من أمطار غزيرة الأيام المقبلة    إخلاء سبيل المتهمين فى قضية تسرب مادة الكلور بنادى الترسانة    وكيل تعليم دمياط يتفقد سير امتحانات المستوى الرفيع بمدرسة اللغات الرسمية    السكة الحديد تعلن جدول تشغيل قطارات مطروح الصيفية بدءا من أول يونيو    «السفيرة عزيزة» عن زفاف ملياردير أمريكي بالأهرامات: مصر جاذبة للاحتفالات    ردود أفعال واسعة بعد فوزه بالبوكر العربية.. باسم خندقجي: حين تكسر الكتابة قيود الأسر    خالد جلال يشهد عرض «السمسمية» على المسرح العائم    بدون بيض أو زبدة.. طريقة عمل بسكويت العجوة في الخلاط    الكشف على 1270 حالة في قافلة طبية لجامعة الزقازيق بمركز مشتول السوق    تردد قنوات الاطفال 2024.. "توم وجيري وكراميش وطيور الجنة وميكي"    كرة اليد، جدول مباريات منتخب مصر في أولمبياد باريس    سيناء السلام عبقرية الدبلوماسية المصرية.. ندوة تثقيفية بجامعة المنوفية    محلية النواب تواصل مناقشة تعديل قانون الجبانات، وانتقادات لوزارة العدل لهذا السبب    مايا مرسي: برنامج نورة قطع خطوات كبيرة في تغيير حياة الفتيات    برلماني: افتتاح السيسي مركز البيانات والحوسبة السحابية انطلاقة في التحول الرقمي    تحذير قبل قبض المرتب.. عمليات احتيال شائعة في أجهزة الصراف الآلي    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    رئيس جامعة أسيوط: استراتيجية 2024-2029 تركز على الابتكار وريادة الأعمال    برلماني: زيارة أمير الكويت للقاهرة غدا يعزز التعاون بين البلدين و يدعم أمن واستقرار المنطقة    مصرع 42 شخصا إثر انهيار سد في كينيا    الصين تشارك بتسعِة أجنحة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ال33    هنا الزاهد بصحبة هشام ماجد داخل الجيم.. وتعلق: "فاصل من التمارين العنيفة"    مكتبات الأدباء.. للإهداء أم للبيع ؟!    هل حبوب القمح يجب فيها الزكاة ومتى بلغ النصاب؟ الأزهر للفتوى يجيب    بيت الزكاة والصدقات يطلق 115 شاحنة ضمن القافلة السابعة لحملة أغيثوا غزة    مشجع محلاوي يدعم الفريق بالجيتار قبل مباراة لافيينا    رئيس الجودو: نظمنا بطولة أبهرت العالم وهؤلاء هم شركاء النجاح    خالد عبد الغفار يناقش مع نظيرته القطرية فرص الاستثمار في المجال الصحي والسياحة العلاجية    أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة.. سهلة وبسيطة    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    عامر حسين: الكأس سيقام بنظامه المعتاد.. ولم يتم قبول فكرة "القرعة الموجهة"    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    وزير الإسكان يتابع مشروعات الخدمات ورفع الكفاءة والتطوير بالمدن الجديدة    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    حالة وفاة و16 مصاباً. أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين بصحراوي المنيا    أول رد رسمي من الزمالك على احتفال مصطفى شلبي المثير للجدل (فيديو)    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل عبد الحكيم قاسم:
الصراع مع الصمت
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 01 - 2011

يضعنا كتاب "كتابات نوبة الحراسة.. رسائل عبد الحكيم قاسم" (1935- 1990م) في قلب فترة من أصعب الفترات التي مرت بها مصر في تاريخها المعاصر. تلك الفترة التي شهدت أفول عهد عبد الناصر أواخر الستينيات، وبزوغ فجر السبعينيات. والفارق بين العهدين هوبالضبط الفارق بين حلم القومية العربية، وبين العزلة السياسة التي ذاقتها مصر علي يد السادات. ولم تكن الخيبة التي أعقبت هزيمة العام السابع والستين هي وحدها الشر المستطير الذي فطر قلوب المصريين. بقدر ما كان فقدان بوصلة الأب الروحي حمولة ثقيلة استقرت في كتابة هذا الجيل، فتجلت علي أنحاء شتي. حتي وصلها جمال الغيطاني وصلاً بأقانيم القمع في تاريخ مصر المحروسة. وكأن كرور الأيام وتتابع الحوادث أشبه بطرفة العين التي يجوب خلالها الصوفي بلاد الله. وبثها بهاء طاهر في تخلٍ ظاهره الاستسلام، وباطنه الرفض. أما عبد الحكيم قاسم فقد تمسك بحبل التاريخ المصري الحافل والممتد - في مستوياته المتعددة- يسائله ويحاوره. وتدفع الرسائل - التي بين أيدينا - بصاحبها إلي صدارة المشهد الروائي. بنفس الطريقة التي تكشف بها عن بصيرة نقدية تفوز بالأبنية اللاواعية لهذا العصر. وتختار لنفسها - بحرية وأصالة - موقفاً متميزاً من الكتابة، والثقافة والتراث. مع رسائل صاحب رواية »أيام الإنسان السبعة« 1969، »محاولة للخروج« 1978 و»سطور من دفتر الأحوال« 1983 تتصارع الكتابة، مع الذات السياسة والصداقة. أو لعلها تتصارع مع الصمت.

يمكن القول - بدايةً - إن معاناة الكاتب مع الكتابة هي الخط الذي يمتد بطول الرسائل. يسبر عبد الحكيم قاسم - ببصيرة نافذة - أغوار اللحظة التي تجمع الكاتب بكتابته. ويصل - من عدة زوايا - أطراف هذه اللحظة بأبعادها الشخصية، السياسية والاجتماعية. وتبدأ هذه المعاناة، أول ما تبدأ، مع محاولة التغلب علي الصمت الذي يحول بين الأقلام الممدودة، والأوراق المبسوطة. فلا نواجه إلا بالصمت الذي هو قرين العقم تارةٍ، والعجز تارة أخري. وقد أثارت الرسائل المتبادلة بين عبد الحكيم، وبين زوج أخته الشاعر محمد صالح (1942- 2009م) شجون الحديث حول الصمت الذي يقهر الكاتب. والحكاية أن محمد صالح - الشاعر الصموت - قد أرسل إلي عبد الحكيم رسالة يغلب علي حواشيها الفراغ، وتحيط سحب البياض بسوادها القليل. ولم يكن من السهل علي عبد الحكيم - الراوي والحكاء- أن يقبل - علي حد تعبيره - أن تسافر ورقة فارغة، عبر البحار، لترن في صمت الغربة. ذلك أن الكتابة بالنسبة لقاسم، هي المناسبة التي تذوب بمقتضاها غربة الكاتب ووحدته. أو قل هي السحر الذي يفك - بقدرة قادر - طلاسم الذات وألغازها ورموزها »إنما أجد في الحكي لذاذة أونجاة. فإنني إن سكت أغرق، أبقي وحدي مع هذه التصورات الغريبة في أعماقي السحيقة، وما أنا بالقادر علي امتلاكها وسبرها حتي أفك طلاسمها«. ولذلك يصف عبد الحكيم تلك اللحظات التي تنفلت فيها
الكتابة من بين أصابعه باللحظات »العواقيم العواقر«. مثلما تكون لحظة شروق الكلمة لحظة خلق، كشف وفرح. بل إن قرار سفر عبد الحكيم إلي ألمانيا للدراسة قد تشكل تحت وطأة شعور قوي بمراوغة الكتابة وانفلاتها وعصيانها »كنت أريد تفجيراً ما في حياتي يخرجني من هذا الجمود«. وقد تُصادف اللحظات »العواقيم العواقر« ظرفاً تاريخياً تفرغ بمقتضاه طاقة المبدع الخلاقة، وتخنق قدرته علي الإبداع. كما فعل فقد عبد الناصر بمحمد الصادق روميش صاحب رواية (الليل الرحم). ذلك العمل الذي يحبه عبد الحكيم من كل قلبه. ويبذل في رسائله إلي أصدقائه - كتاباً ونقاداً - جهداً مخلصاً من أجل أن يبين جمالياته وأهميته وأصالته. ويحكي قاسم كيف أنه بمجرد انتهائه من قراءة رواية (الليل الرحم) انتابته رغبة جارفة في لقاء روميش والحديث معه في وقت متأخر من الليل. غير أن روميش الذي عاني مرارة فقد عبد الناصر، كان قد فقد - نهائياً - بوصلة التواصل مع العصر الجديد. ومن ثم توقف عن الكتابة. كذلك تتصل معاناة قاسم مع اللحظات »العواقيم العواقر« مع معاناة محمود الورداني. فقد شكا الأخير في إحدي رسائله لقاسم مراوغة القص وتمنعه وانفلاته »فقط أقول لك حاول أن تعرف لماذا حدث التوقف«.
»وإذا كانت الكتابة نجاة من وحشة الصمت الذي يستولي علي الكاتب كالأفعوان بلا فحيح علي حد تعبير صلاح عبد الصبور. فإنها معاناة، وجهاد متصل من أجل
تعميق وعينا بعالمنا. وبما أن الواقع يتحول باستمرار، فإن الكتابة وحدها هي القادرة علي إدراك سحر هذا التحول. طالما أن الكتابة تكشف عن سر هذا التحول، وهو يعمل بعيداً عن الأعين. ويحكي لنا عبد الحكيم - مثلما حكي لمحمود الورداني في رسالته - حكاية بسيطة عن ذلك التحول الذي يساوي بين الحلم والحقيقة بلا فارق »الحكاية أنني أحببت بنتاً وأنا تلميذ في الثانوي، وكان أخي يحب أختها، وتقابلنا نحن الأربعة خارج القرية وكان الليل مقمراً..وإذا كان الليل مقمراً فإن العالم يكون عالماً آخر.. تكون البيوت من مادة أخري حلمية.. وكذلك أوراق الأشجار وتراب الأرض وعيدان النباتات.. ويكون صوت العالم آخر..وحاصل كل ذلك ما يسمي جنون القمر... وعندما كنت في بلدنا هذا الصيف مررت بالمكان ظهراً..لا ضوء حلمي.. الشمس فاضحة والأشياء متربة مكسوفة.. والواقعة تقع علي بعد ثلاثين سنة إلي الوراء.. والبنت الآن سيدة غبية لها ست عيال وزوج بليد عصبي.. أيهما الحلم.. وأيهما الحقيقة؟«.
وينتقد عبد الحكيم قاسم ما يتردد عن احتراف الكتابة، عن كاتب محترف وآخر غير محترف! فلو قلنا إن الاحتراف يعني العيش من الكتابة، لما كانت الكتابة احترافاً. طالما أن الكاتب لا يستطيع أن يكسب قوته من الكتابة: »إنني أكتب منذ عشرين عاماً وأنشر، وجميع ما كسبته من كتابتي لا يطعم أولادي شهراً.. وأنا هنا - أي في ألمانيا - أعيش من تنظيف المراحيض فهل أنا منظف مراحيض محترف!« ومن ثم فالاحتراف الحقيقي - كما يراه قاسم - لا يعني أن تعيش من الكتابة، إنما أن تعيش للكتابة. والمعني واضح ومفهوم ينزه الكتابة عن كل غرض، وينأي بها عن أن تكون مجرد أداة. كذلك يرفع عبد الحكيم الوهم عن الخطأ الشائع الذي يري في البحث العلمي عملاً يتعارض مع موهبة الكتابة ويدمرها. ويطرح قاسم علي نفسه السؤال التالي: هل أنا إنسان أم صفة؟ وهوسؤال يطيح بضربة واحدة - كما نري - بأوهام اختزال العقل البشري إلي عقل علمي تارة، أوعقل انفعالي تارة أخري. أوالباحث الذي لا يمكن أن يكون كاتباً، والكاتب الذي لا يمكن أن يكون باحثاً »إنني إنسان أكون قصاصاً حينما أكتب قصة، وباحثاً ًحينما أكتب بحثاً«.
تتقاطع الرسائل - من ناحية أخري - مع واقع الثقافة المصرية بأحداثه، همومه ومشكلاته. وتسجل - من هناك - السيرة الذاتية، بمعناها الجمعي، لكاتب مصري يعاني - ككل أبناء جيله - مرارة الغربة ووحشتها. ومن ثم يتناول قاسم الظرف السياسي، في علاقته بالكتابة، بالتحليل في أكثر من سياق. فالكُتاب - في بلدنا - يدورن في مدارات السياسة كأنها قدر لا يمكن الإفلات منه. علي النحوالذي يمكن القول معه أن »قصة »العازف« لإبراهيم أصلان لا تُكتب إلا تحت نظام ناصري، وهي إذا كُتبت الآن فهي بلا معني«. ويتبادل محمد روميش بنوته لأبيه الحاج صادق، مع بنوته للحاج جمال عبد الناصر. وتغدو ثورة الابن علي الأب ثورة حب، لا ثورة إنكار وإلحاد.
وإذا كنا نعاني حالة من السخط في مجتمع مشوه - بفعل العلاقة المتوترة مع إسرائيل - فإننا نحتاج أن نتعلم
كيف نصوغ سخطنا. من ذلك سُخط الناقد محمود عبد الوهاب علي رواية إدوارد الخراط، الذي أخطأ التعبير عن نفسه فتحول إلي هجوم من العيار الثقيل. والحكاية أن الرواية نفسها عرفت كيف تستعدي قارئها. طالما أنها سُخط ضل سعيه في ظل توجه سياسي يسعي إلي قبول دولة دينية مثل إسرائيل. وكان الخيار المطروح هوأن تصبح مصر دولة قبطية أو فرعونية »لأن إسلامية معناه فوراً عودة القومية العربية والعداء لإسرائيل من جديد«. وقد ابتلع الخراط الطُعم، فاستبدل أوهام السياسة وأساطيرها بوعيه الحر ككاتب. ومن ثم كانت صيحته أنا قبطي تختزل وتُقصي مصريته في أفق ضيق ومحدود.
أما حوار عبد الحكيم قاسم مع بطرس الحلاق فهو نسيج وحده، ومثالاً دالاً علي علاقة الاحترام المتبادل التي جمعت بين مثقفين كبيرين مثل قاسم والحلاق. فرغم أن عبد الحكيم قد انتقد - في حدة عُرفت عنه - جهد بطرس الحلاق في التأريخ للرواية العربية، ومحاولته التأصيل لبدايات هذه الرواية، إلا أن بطرس - كما بدا من رد حكيم نفسه - قد تقبل انتقادات صديقه بصدر رحب. وقد واصل حكيم - هذه المرة أيضاً -عدم رضاه عن استخدام بعض المصطلحات المستوردة التي لا تتناسب - علي حد تعبيره - مع تراثنا الأدبي والثقافي. فلا الرومانسية الغربية هي بالضبط ما يطلق عليه نقادنا رومانسية، كذلك برجوازية، اقطاع وثورة. فلم تعرف الشعوب العربية الاقطاع بشكله الذي وجد عليه في الغرب، ولا ثارت علي الطريقة الغربية.
يرفض عبد الحكيم - في رسالته إلي محمود عبد الوهاب - قبول مقولات التقدم الغربي إلي النهاية. فالشرق أيضاً كانت له نظرته الخاصة للكون والإنسان، التي تتوافق مع طبيعته الروحية. والمهم أن الغرب يبني أفكاره عن تقدم الإنسان في خط صاعد، فالعالم في تطور دائم ودائب. بينما يري عبد الحكيم أن بعض الحضارات القديمة، مثل
حضارة المصريين القدماء والبابليون، كانت تعتقد في كمال الكون. كما كانت تري في الاختلاف وحدة ترد الكثير إلي واحد. فالكون منسجم متصل ببعضه البعض، وليس للإنسان إلا أن يحاول فهم تجليات هذا الكمال. ويتصل بهذا التصور عن وحدة الكون وانسجامه تفهم الدور الذي يلعبه كل كائن - مهما قل شأنه - داخل هذه المنظومة «ثم إن وضع الحيوان في أدني سلالم التطور خطأ في فهم علم الحياة. كل حياة لها نبلها الخاص». ومن ثم يتعرض عبد الحكيم بالنقد للثقافة الغربية التي أعمت قلوبنا قبل أبصارنا »وأنا أعود إلي الزمن بصرف النظر عن وجهيه أمس وغد.. وأري العلم سكة إلي المثل العليا لا إلي كسب الحرب الذرية«. وما يقوله عبد الحكيم بالضبط لا يعني أن الشرق ضد الغرب، أوأن الغرب ضد الشرق. إنما أن للشرق ثقافةٍ وتراثاً يجب أن يصدر عنهما، مثلما يصدر الغرب عن ثقافته الخاصة. وقد عكست أعمال قاسم آراءه الخاصة حول وحدة الكون وانسجامه. فصوت المرأة يعبر عن المرأة من حيث هي كذلك، وصوت الرجل يعبر عن نظرة الرجل الخاصة لما حوله. كذلك يتمتع الحيوان بنبل وكبرياء صادرة عن حيوانيته بالذات كما في رواية (تجلي السر) مثلاً.
وقد تتواتر هذه السيرة الذاتية - بمعناها الجمعي - في سياقات أخري، أوقل في رسائل أخري، بتجلياتها الفردية. فنعثر بين طياتها علي عبد الحكيم الإنسان، الزوج، الأب والصديق. والبداية من عبد الحكيم الزوج الذي اتخذ قرار السفر إلي ألمانيا تحت وطأة ظروف عائلية مضطربة »كانت الحياة في الأسرة قد أصبحت جحيماً، لم يكن بالوسع أن تستمر أمي مع زينب في بيت واحد، ولم يكن ممكناً أن تبقي في الإسكندرية مع منعم، والرجل يريد أن يتزوج، ولا يريد أن يكرر مأساة أمي وزينب، ولم يكن بوسعنا مالياً إفراد منزل خاص لأمي، ولا نطيق إقامتها مع رجل غريب زوج إحدي بناتها«. ذهب حكيم إلي ألمانيا فراراً من ضغوط عائلية، وقدر شخصي يتمثل في الوظيفة. فلم تكن قصة الكاتب الموظف الموهوب والمظلوم تستهويه بحال من الأحوال. وليتواري ماضي الوظيفة، بقوة السفر إلي أوربا، تحت بريق الحصول علي الدكتوراه. علي أن تحل ثنائية الكاتب - الدكتور محل ثنائية الكاتب - الموظف. ومن ثم كان خيار السفر فرصة للتمرد علي هذا القدر. ولا بأس - بعد ذلك - أن يتفرج الأولاد - إيزيس وأمير - علي الدنيا الواسعة، وأن تتم الزوجة تعليمها. كانت بحق »محاولة للخروج« - إذا استعرنا عنوان إحدي رواياته - من قمقم الوضع الاجتماعي، والسياسي والأدبي التعس في القاهرة.
أما حكاية الرحلة إلي »ألمانيا« فتفتح قوساً كبيراً علي العلاقة الشائكة بالغرب. وترفع - من ناحية أخري - غلالة السحر عن أسطورة التقدم الغربي. يتحدث عبد الحكيم بمرارة شديدة عن الظروف التي صاحبت سفره إلي ألمانيا. فقد كان الرجل يظن أن موهبته ككاتب قد أغرت أصحاب العقول هناك بدعوته للدراسة في بلدهم. ولنستمع إلي عبد الحكيم وهو يحكي لصديقه حسني عبد الفضيل عن سذاجة ظنونه »يكاد يخنقني الضحك الآن حينما أتذكر الوهم الذي ركبني في القاهرة، أنهم دعوني لبرلين لأنني كاتب مهم! الأمر يا سيدي أن شخصاً هناك يدعي ناجي نجيب قرأ روايتي وأسرع إلي تسلر يقول له هذا كتاب يهاجم الإسلام ويسمي المتدينين بهائم، وقال له تسلر لندعه إلي برلين«. وينضاف كلام عبد الحكيم عن نظرة أوربا إلي العرب والمسلمين علي محور الاستشراق، أوالشرق المُتخيل كما أشار إليه إدوارد سعيد. فلا »تسلر« دعا عبد الحكيم إلي ألمانيا لأنه كاتب مهم، ولا القومية الألمانية ستتنازل عن نظرتها للعرب بوصفهم همج. والمهم في كلام عبد الحكيم عن صورة العربي في أوربا - علي وجه التحديد - هوالدور المؤسس الذي تلعبه هذه الصورة في ذاكرة أوربا. علي النحوالذي يمكن القول معه إن وجود أوربا نفسه يستمد قوته من ازدراء ثقافات العالم الثالث »هذا الاعتقاد الراسخ الديني بأنهم هم الناس، والآخرون الهمج«.

وكان مرض أمل دنقل وزيارة عبد الحكيم له في القصر العيني مناسبة حركت ذكريات الأخير حول المرض والموت. يتذكر عبد الحكيم كيف أُجبر علي عدم مغادرة قريته بعد خروجه من سجن الواحات. لكنه قرر - رغم كل شيء - أن يزور صديقه محمد أبوهاشم، ذلك الذي كان قد توفي بعد معاناة مع المرض تساوي معاناة صديقه أمل دنقل. والصداقة عند عبد الحكيم تتوزع بين صداقة عقدتها الكتابة بين كاتب وكاتب، أو صداقة أقرتها ووطدت أركانها سنوات الطفولة والصبا. من ذلك مثلاً صداقته الوطيدة لمحمد روميش التي تعمقت وازدادت ترابطاً بعد قراءته لليل الرحم. وصداقته لبهاء طاهر التي بدأت بكراهيته لقصة الخطوبة، وانتهت عشقاً لكتابته.
وأخيراً، فلست بحاجة إلي القول إن الكتاب - بما يتضمنه من آراء، أفكار ووقائع - يمثل إضافة حقيقية لمعرفتنا عن ثقافتنا المصرية في حقبة لاتزال تثير الجدل. ناهيك عن أن الكتاب يفتح النقاش حول مصادر ذاكراتنا الثقافية، وسبل دعمها ونشرها. هذا بالإضافة إلي توثيق علاقتنا بمثل هذا اللون من ألوان الكتابة. والحق أن محرر الكتاب - محمد شعير - قد استطاع بجده واجتهاده أن يضيء لنا جانباً من تاريخنا الثقافي لم نعرفه بعد حق المعرفة، فضرب لنا مثلاًَ لن ننساه. فهو كتاب كبير، حرره كاتب كبير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.