بقلم : منى ظاهر "لعبة مفترق الطّرق"[1] للكاتب المغربيّ اسماعيل غزالي، كتاب في هندسة المتاهة، قائم على سحريّة المفارقة، من خلال عشر قصص مسبوكة بتقنيّات حداثيّة جادّة ومبتكرة، تطلق صيحتها الخاصّة في سماء التّجديد. إنّ المتاهة الّتي عرفناها في الأساطير كاليونانيّة والرّومانيّة، قبل إدغار ألن بو وبورخيس وغيرهما، هي بحمولة أكبر في هذه النّصوص القصصيّة الّتي قد تحيل على تلك النّماذج، لكنّها ليست امتدادًا لها. ولا تستقيم الرّؤية السّرديّة في هذا الكتاب بدون هذه المتاهة، ولا تتحقّق إبداعيّة القصّة إلاّ بالارتهان إلى لعبة هذه المتاهات واستثمار الأدوات في خلق دوّاماتها وغرائبّيتها، وبهذا يكون الكتاب قد نجح في خلق فَرادته. إنّ تركيب هذا النّسيج القصصيّ يجعلني أتخيّل عصًا سحريّة تلامس كيمياء الواقع وعناصره وتخلخلها، من حيث الموضوعات المطروحة، ومن حيث الحفر في الوجود وعمق دواخل الإنسان وصراعاته النّفسيّة، وفي طبقات لاوعيه السّحيقة. ولهذه الغاية يستعمل غزالي إزميله في حفر اللغة، ويصنع داخلها طرقه الغجريّة، ويشحذ عينه الماكرة لنحت الفراغ وتأثيثه بصريًّا عبر مشاهد سينمائيّة، ولا يكفّ ينثر من بهارات مطبخه الخاصّ صورًا ورموزًا وتقنيّّة وحبكة. هذا المطبخ زاخر بوعي جماليّ هائل يقف وراء ولادة النّصّ، وغنيّ برصيد معرفيّ يدعّم هذا الخلق المغامر. القبض على اللحظات المنفلتة والمعاني الغريبة من خلال إبراز الأشياء المهمّشة، الّتي تبدو غير صالحة لاستعمالنا، والتّماهي مع القلق الوجوديّ الّذي تنضح به الكلمات والموصوفات هي أحد جوانب الاشتغال السّرديّ في متن هذه القصص. ترتكز هذه القصص إلى فكرة مركزيّة تتلخّص في أنّ شخصيّات قصصه الرّئيسيّة تدخل دائمًا بإرادة المصير العليا في دروب متفرّقة، تظهر كسراديب متنافرة، ولا تكاد تتشعّب حتّى تجتمع من جديد في سيناريو مضبوط، عبر نسق مغاير، غير مدرك سابقًا، إذ مع القراءة الأولى يبدو الحكي عن الأشياء كما لو يتمّ تلقائيًّا وفوضويًّا. وسرعان ما يتأكّد أنّ لا شيء مقحم أو موجود في فضاء القصّة كيفما اتّفق، حيث أنّ المعطيات يلحمها منطق ذكيّ، مباغت، يطفو في مجرى التّحوّل المفارق الّذي تحدثه القصّة في نهاية حكايتها، وتلك هي لحظة المفارقة الّتي تراهن عليها قصص هذا الكتاب. يلعب الكاتب بحكمة في مصائر شخوص قصصه، ويزجّ بهذه الشّخصيّات في مكائد ودسائس. ويعرض أحداث حكاياتها وينفضها من جديد ليميط اللثام عن اللحظة الّتي تتقاطع فيها خطوط حيوات هذه الشّخوص. والملفت أنّ غزالي يحرص على عدم التّعريف عن هذه الشّخصيّات باسم علم، بل من خلال صفات شكليّة تميّزها أو توصيفات تحيل عليها. هذا وتعيش شخوص حكايات غزالي في واقعيْن منفصلين ومتّصلين معًا، يحملان ازدواجية المتخيّل- الموجود في تناغم، حيث عبثيّة القدر وألعاب التّحوّلات والطّوارئ. وتتأسّس بنية الأشياء على مجموعة من النّقائض والتّقابلات ليس على مستوى المفردات والمعاني، بل على مستوى المعالم والموضوعات والمقولات. وخير مثال على سحريّة المفارقة هذه، قصص: "سرنمة على الجسر"، "قيلولة الحصان الأبيض"، و "امرأة وحيدة على متن قارب". هذه الفكرة لهذه اللعبة للمصائر وللأقدار وللمتاهات في حبكة قصص غزالي، تلك الّتي تجعل القارىء يتوهّم أنّ حقيقة الشّخصيّات هي ما تبدو عليه، لكن يتّضح له لاحقًا أنّ حقيقتها مغايرة لما تظهر عليه أو تصرّح به، أو أنّ مصائرها الّتي تبدو على السّطح ليست هي المصائر ذاتها الّتي في العمق، عبر الإيهام بالواقع والجنوح إلى نوع من الفانتازيا، لا يروم خرق الواقع بالفهم السّائد الّذي يقول إنّ الخيال مفارق للواقع، إذ تبدو فانتازيا اسماعيل غزالي منتصرة للفكرة الفلسفيّة الّتي لا تفصل الخيال عن واقعه وتذوب الثّنائيّات، أو كما يقول أرنستو ساباتو: الخيال هو الواقع نفسه. سآتي هنا على تمثيل نموذجين من قصّتين تؤسّسان لمتاهات صغيرة في هذا الكتاب اللافت: في قصّة الكتاب الأولى "النّائمات على العشب"، نجد أربع شخصيّات نسائيّة وُجهتهنّ المدينة، تتعطّل بهنّ السّيّارة في الطّريق كما يشاء القدر، ويتركهنّ السّائق على ضفّة النّهر بانتظار إصلاح العطب.. تمر سيّارة جيب أخرى كما تشاء الأقدار وينادي سائقها عليهنّ ليصحبهنّ للمدينة. ويتّضح أنّ الأسباب الحقيقيّة لزيارة كلّ واحدة منهنّ للمدينة، هي ليست الأسباب الّتي حكتها كلّ امرأة وصرّحت بها للنّساء. وتنجلي حقيقة أخرى أنّ السّائق الثّاني هو أجنبي، وكان قد تلصّص على هؤلاء النّساء كما خمّنت واحدة منهنّ. وهو من وثّق أجسادهنّ في لوحة باسم "النّائمات على العشب" رسمها في غرفة الفندق الّتي يسكنها. وينتهي به المطاف إلى اختفاء أثره بشكل لا تكتشفه الشّرطة. ويكتشف أمر اللوحة صاحب الفندق ليعلّقها على حائط مقهاه. في هذه القصّة يستخدم غزالي تقنيّة مهمّة جدًّا برأيي، وهي جعل لوحة فنّيّة بمثابة خلفيّة لتقديم حكاية بتفاصيل وشخوص عديدة. فالمحكيّ هنا يستند إلى لوحة مرسومة هي لوحة "النّائمات على العشب" الّتي رسمتها مخيّلة غزالي، ومن هذه اللوحة حلّقت الصّور وانشبكت لتؤلّف هذه القصّة. وكأنّ اللوحة هي بؤرة انكسار ضوء الشّمس السّاقط بشكل مائل عند دخوله في قطرات المطر ومن ثمّ انعكاسه مرّة أخرى في السّطح الدّاخليّ من قطرة الماء، وينكسر الضّوء أيضًا عند خروجه منها. ويتشكّل من هذا الانكسار قوس قزح بألوانه المتعدّدة الّتي هي تفاصيل هذه الحكاية وأطيافها. ولو أمعنّا النّظر مثلاً في الشّخصيّات الأربع للنّساء سنجد أنّ كلّ واحدة منهنّ تشكّل طيفًا من أطياف ألوان قوس قزح بشكلها الخارجيّ وبالسّبب الّذي أعلنته للنّساء لوجهتها للمدينة وبطيف الحقيقة الفعليّة لزيارتها هذه، بمعنى أنّ حكاية النّساء هي قوس قزح بتمايز ألوانه وتداخل أطيافه، كتعبير عن مصائر النّساء وأسبابهنّ الواهية المعلنة والمبتكرة، وتلك الأسباب الّتي تكشّفت عن حقيقتها. وفي القصّة الأخيرة، أيقونة الكتاب، تلك الّتي تحمل عنوانه "لعبة مفترق الطّرق". نجد أنّ الشّخصيّة المركزيّة الرّاكب للدّرّاجة النّاريّة يقتاده القدر إلى الطّريق المتّجهة شمالاً في كلّ مرّة، رغم أنّ نيّته تبغي أن يسلك الطّريق المتّجهة إلى الأمام دائمًا. وبهذا يكون الرّاكب في ما يشبه لعبة مفترق الطّرق الّتي تحرّكها المتاهات بفعل يد القدر، إلى أن يجد هذا الرّجل نفسه في مستشفى لمجانين بعد أن دهسته شاحنة لنقل الأكباش. يحاول خمسة رجال صلع هناك يشاركونه غرفته، تصحيح اختياراته بل ويشرّعون لأنفسهم أن يلوموه على عدم اختياره الطّريق المتّجهة يمينًا في الخمس مرّات الّتي وقف فيها أمام مفترق ثلاث طرق، لأنّها الوجهة الّتي تلبّي احتياجاتهم المختلفة. وبعدها يدخل إليه أشخاص يفصل بين كلّ واحد منهم خمس دقائق، كلّ واحد يغفر له أمرًا فعله ويسائله عن شخص أو شيء: مصير الكلب، زجاجة السّمّ، الفتاة الشّقراء، البضاعة الّتي كانت على متن القارب. ثمّ تدخل مجموعة من الغجر،همّهم استعادة رمز قداستهم وديانتهم القيثارة، الّتي يتّهمونه بأنّه قد أخفاها، هي قيثارة الشّيطان. ولم يهمّهم الجرائم الأخرى الّتي ارتكبها بعد أن اتّضح أنّه فارٌّ من مستشفى المجانين هذا على درّاجة ناريّة، فحسب قولهم قد يكون وهب الكلب للذّئاب، وشرب السّمّ مع الفتاة الشّقراء هي ماتت وهو لم يمت، دخّن نصف البضاعة وباع نصفها المتبقّي. ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذه القصّة مكتوبة بدقّة فائقة، يعمد غزالي فيها إلى اتّباع تقنيّة فنّيّة معقّدة. وهي ما يشبه النّظر إلى مرايا السّيّارة الثّلاث: المرآة الأماميّة، اليمنى واليسرى. وهذه الجهات الثّلاث تحيل إلى مفترقات الطّرق الّتي تصادف مصير راكب الدّرّاجة النّاريّة. وكلّ طريق منها يشير إلى مسار وحياة، يتدخّل القدر دائمًا في تغيير المسار المرغوب فيه ويغيّر الوجهة. هذا القدر قد يكون إرادة الدّرّاجة أو الحكاية أو لا وعي راكب الدّرّاجة، أي أنّه قد يكون عامل داخليّ في لاوعي الإنسان أو قد يكون مسبّبًا خارجيًّا مادّيًّا أو ما فوق الطّبيعة. ويمكن ملاحظة أنّ الرّقم خمسة متكرّر في هذه الحكاية وأيضًا الرّقم ثلاثة. وهناك أيضًا الهندسة الثّلاثيّة لفضاء الحكي، وربما هذا ما يعنيه الكاتب والمترجم عدنان المبارك في كلمته المكثّفة والعميقة على الغلاف الخلفيّ للكتاب بهندسة المثلثات. هذه القصّة تعتمد في كتابتها البنية الدّائريّة، حيث أنّها تبتدىء بشاحنة الأكباش الّتي دهست الكلب وتعود إلى الشّاحنة الّتي دهست راكب الدّراجة، ليكون لفعل الدّهس هذا تَكشُّف بداية الحكاية ونهايتها أيضًا. كما تعتمد في الوقت نفسه البنية الحلزونيّة، إذ تتفرّع الأحداث وتتزاوج، وتفيض بشكل يتعذّر فيه الفهم في غالب مراحل الحكاية المركّبة حتّى تكشّفها في الأخير. وتترك أسئلة عالقة في نهايتها المفتوحة، ومنها على سبيل المثال: التّساؤل حول حقيقة هروب راكب الدّرّاجة من المستشفى، هل فعل هذا حقًّا؟ أم أنّ الأحداث الّتي شهدتها لحظاته كانت بفعل هذيانات جنونه أو هي محض حلم أو نسج من مخيّلته؟ وتبقى الإشارة إلى أنّ فرادة غزالي لا تكمن في نزوعه السّحريّ النّاهل من القصّ الكونيّ وحسب، بل في الرّوح الغنيّة بأطيافها المغربيّة والأمازيغيّة والعربيّة والإفريقية والمتوسطيّة الّتي يمهر بها نصّه القصصيّ المدهش. النّاصرة في الجليل [1] لعبة مفترق الطّرق- كتاب قصصيّ لاسماعيل غزالي صادر عن دار فضاءات في عمّان الأردن 2011. Mona Daher www.mona.ws