رئيس جامعة حلوان يناقش استعدادات "النادي" للإجازة الصيفية    أخبار مصر: السيسي: زيادة الدعم المقدم للعمال من صندوق إعانات الطوارئ إلى 1500 جنيه.. ورئيس الوزراء يستعرض عددًا من ملفات عمل وزارة المالية    وزير الرياضة يشهد توقيع بروتوكول تعاون مع جامعة جنوب الوادي    متحدثا عن التواضع في الخدمة.. مطران الجزيرة والفرات يترأس رتبة غسل الارجل    بإجمالي 135 مليون دولار، تفاصيل افتتاح مجمع هاير بالعاشر من رمضان (إنفوجراف)    حماس تطالب بالكشف عن مصير الأسرى الفلسطينيين والاحتلال يرفض    مسلم: الإعلام الإسرائيلى ارتكب كما كبيرا من الأكاذيب فى هذه الحرب    الرياضة تختتم الملتقى الدولي للإبداع والإبتكار في الذكاء الاصطناعي    تموين الإسكندرية يضبط ما يقارب من نصف طن فسيخ مجهول المصدر    إصابة موظف بعد سقوطه من الطابق الرابع بمبنى الإذاعة والتلفزيون    زينب العبد تكشف عن فتى أحلامها في مسلسل العتاولة (فيديو)    نيشان يرد على أنباء صدور قرار بالقبض عليه بسبب ياسمين عز    مصطفى كامل يحتفل بعقد قران ابنته بحضور أشرف زكي وحمادة هلال (صور)    وكيل صحة الشرقية يتابع العمل بمستشفى منيا القمح المركزي    ليفربول يكشف عن قميص الموسم الجديد 2024/2025    أخبار الأهلي: توقيع عقوبة كبيرة على لاعب الأهلي بفرمان من الخطيب    الخارجية الأمريكية تتهم حماس بتحويل مسار شاحنات المساعدات    الولايات المتحدة: حماس احتجزت شحنة مساعدات أردنية في غزة    مصرع سائق في اصطدام 3 سيارات بالطريق الصحراوي بالبحيرة    لمدة أسبوع.. دولة عربية تتعرض لظواهر جوية قاسية    مصرع أربعيني ونجله دهسًا أسفل عجلات السكة الحديدية في المنيا    «المهندسين» تنعى عبد الخالق عياد رئيس لجنة الطاقة والبيئة ب«الشيوخ»    فيديوجراف | البحر الميت يبتلع عشرات الإسرائيليين وجاري البحث عن المفقودين    الأرصاد العمانية تحذر من أمطار الغد    نجوم الغناء والتمثيل في عقد قران ابنة مصطفى كامل.. فيديو وصور    خالد الجندي: العمل شرط دخول الجنة والنجاة من النار    أمين الفتوى: الإنسان المؤمن عند الاختلاف يستر لا يفضح    رسالة ودعاية بملايين.. خالد أبو بكر يعلق على زيارة الرئيس لمصنع هاير    120 مشاركًا بالبرنامج التوعوي حول «السكتة الدماغية» بطب قناة السويس    الإصلاح والنهضة: مدينة "السيسي" جزء من خطة الدولة التنموية    محمد سلماوي: الحرافيش كان لها دلالة رمزية في حياة نجيب محفوظ.. أديب نوبل حرص على قربه من الناس    ياسمين عز تعلق على صورة حسام موافي بعد تقبيله يد أبوالعينين :«يا عيب الشوم» (فيديو)    «ماجنوم العقارية» تتعاقد مع «مينا لاستشارات التطوير»    ب 277.16 مليار جنيه.. «المركزي»: تسوية أكثر من 870 ألف عملية عبر مقاصة الشيكات خلال إبريل    مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة الباجورية بالمنوفية    محافظ مطروح يلتقي قيادات المعهد التكنولوجي لمتابعة عمليات التطوير    فنون الأزياء تجمع أطفال الشارقة القرائي في ورشة عمل استضافتها منصة موضة وأزياء    أدنوك الإماراتية: الطاقة الإنتاجية للشركة بلغت 4.85 مليون برميل يوميا    ندوة توعوية بمستشفى العجمي ضمن الحملة القومية لأمراض القلب    هجوم شرس من نجم ليفربول السابق على محمد صلاح    "بسبب الصرف الصحي".. غلق شارع 79 عند تقاطعه مع شارعي 9 و10 بالمعادى    محافظ جنوب سيناء ووزير الأوقاف يبحثان خطة إحلال وتجديد مسجد المنشية في الطور    رسائل تهنئة عيد القيامة المجيد 2024 للأحباب والأصدقاء    توقعات برج الميزان في مايو 2024: يجيد العمل تحت ضغط ويحصل على ترقية    برلماني سوري: بلادنا فقدت الكثير من مواردها وهي بحاجة لدعم المنظمات الدولية    تراجع مشاهد التدخين والمخدرات بدراما رمضان    أذكار بعد الصلاة.. 1500 حسنه في ميزان المسلم بعد كل فريضة    رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع ممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية تعمل في مصر    انتبه.. 5 أشخاص لا يجوز إعطاؤهم من زكاة المال| تعرف عليهم    فقدت ابنها بسبب لقاح أسترازينيكا.. أم ملكوم تروي تجربتها مع اللقاح    طلاب بجامعة مصر للمعلوماتية ينظمون فاعلية لاستعراض أفكار وتجارب النجاح الملهمة    رانجنيك يرفض عرض تدريب بايرن ميونخ    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    الأهلي يجهز ياسر إبراهيم لتعويض غياب ربيعة أمام الجونة    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المراة الدفينة
زمن الطغاة
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 10 - 2011


كيف يظهر الطغاة؟
ولماذا تحدث الثورات؟
وكيف تصل الشعوب الثائرة إلي هويتها؟
أسئلة تبدو بسيطة ..ولكنها ليست كذلك مع مبدع مثل الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس »1928« . هنا في كتابه الهام " المرآة الدفينة" يحاول أن يقرأ تاريخ الثورات في أمريكا اللاتينية..كيف اكتسبت تلك الثورات ملامح هويتها؟!
الحماس للتحرر كان يحرّض علي الثورات، وهنا نعود مرة أخري إلي الحالة الأرجنتينية حيث نجد خير مثال علي ما نقول، فقد قام خوان خوسيه كاستلّي، ذلك الرجل الهُمَام المتعصب اليعقوبي، من بيونس أيرس، بنشر أفكار التنوير الفرنسية في "أعالي البيرو" وأخذ يبث ما كان يقول به روسّو وفولتير، بين الهنود الكيتشو والأيماراس، وألغي، بالقوة، الضرائب التي فرضت علي الهنود وقام بتوزيع الأراضي ووعد بإقامة المدارس والمساواة؛ حدث كل هذا بشكل آلي كنتيجة لحالة تمرد دائمة. إذ كان كاستيلي يقول لجماهير الهنود "انهضوا، فقد انتهي كل شيء، نحن الآن متساوون". وفي شيلي، ثلاثون عامًا بعد ذلك، كان هناك كاتب أرجنتيني منفي، يبلغ من العمر أربعة وثلاثين عامًا، يدعي دومنجو فاوستينو سارمينتو؛ كان هذا الرجل يشعر بالحنين إلي زمن الثورة والجسارة التي بدأت بها الأرجنتين ثورتها، ونقلت ثورتها إلي كل مكان وكانت تشعر "أنها موكلة من أعلي بالقيام بعمل عظيم".
وها هي الأرجنتين تحصل علي الجائزة:
فعلي مدار أربعة عشر عامًا لقّنت إنجلترا درسًا وجالت في منتصف القارة وزودت عشرة جيوش بالسلاح وخاضت مائة معركة ميدانية وانتصرت في كل مكان وشاركت في كافة الأحداث وكسرت كافة الموروثات وعلّمت كافة النظريات وغامرت بكل شيء وخرجت سالمة والآن تعيش وتغني وتتحضر..
في آنٍ معًا كان سارمينتو يكتب وهو في شيلي هاربًا من الطاغية السفاح خوان مانويل دي روساس في بوينوس أيرس. فما الذي حدث للوعد بالمجد والحرية؟ "جاءت الجيوش مع الثورة ومعها المجد والانتصارات والنوائب. ومعها أيضًا هلّت التمردات والفتن".
هناك فتي شاب يُدعي سارمينتو، من سان خوان، شمال الأرجنتين، هو فتي شاب لامع، وعِصامِي، استطاع في شبابه أن يمحو أمية بعض البالغين؛ وكان هذا الكاتب النشط علي حق عندما أخذ يتساءل عن ضياع حلم الاستقلال بشكل مؤلم ابتداء من المكسيك وحتي الأرجنتين عندما كان القرن يشرف علي منتصفه، ألم يضع الليبراليون في حسبانهم إقامة جمهورية ديمقراطية مثالية تقوم، ثقافيًا وقانونيًا، علي شاكلة النماذج الأوروبية والأمريكية؟ أخذ كتاب "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو، ينتقل سريعًا من يد ليد"؛ هذا ما كتبه سارمينتو في كتابه الكلاسيكي "فاكوندو: الحضارة والبربرية" وقال أيضًا "إن روبسبير و"المجلس نموذجان... وتظن بوينوس أيرس أنها استمرار لأوروبا...".
ومعني هذا أن سارمينتو، دون أن يدري، قد رد علي تساؤله، إذ أن منظري الثورة الليبرالية ورجالات الدولة بها تخيلوا ديمقراطية إسبانو أمريكية مثالية وأعلنوها علي الملأ؛ وكان سيمون بوليفار بينهم. إلا أن هذه الديمقراطية المقترحة، خلال القوانين المعلنة من عَلٌ لم تضع في اعتبار التنويعات الكثيرة التي عليها الواقع الذي كان يجب تغييره حتي تتحول الديمقراطية إلي شيء أكثر من النية وتتحول الحرية إلي ما هو أبعد من إعلان نشره كاستلي علي مجموعات الهنود الأميين في أعالي البيرو، فهؤلاء لم يفهموا كلمة واحدة من الإسبانية.
رغم إلهامه الديمقراطي فإن مقاومة الهياكل القديمة، سواء الخاصة بالسكان الأصليين أو الاستعمارية كانت قوية ومضادة للتغيير، وتم التقليل من شأنها. هنا نجد أن الجمهوريات الجديدة، وقبلها كان التاج الإسباني، أخذت تبدو بعيدة عن المشاكل والهموم المحددة التي يعيشها العمال والفلاحون والذين كانوا ينظرون إليها من مواقعهم وهم في القاعدة؛ كما كانت هذه المشاكل تبدو بعيدة عن ذهن الإقطاعيين والقادة المحليين السياسيين الذين كانوا يريدون زيادة سلطانهم ومزاياهم ولا يرغبون في التفريط فيها وتسليمها للعمال. نجد إذن أن هذا الحماس الذي أعلنته الأرجنتين المستقلة بتضامنها مع ثورات أخري، كما أشار سارمينتو بانفعال، أصبح في نهاية المطاف خطوة غير محسوبة بشكل جيد؛ فالأجراس الأرجنتينية التي قُرِعَت لفرض ثورة شاملة في باراجواي تمخضت عن دكتاتورية كاملة علي يد الدكتور جاسبار رودريجيث دي فرنسا، والذي أغلق باب الدخول إلي "جمهوريته"؛ كما أن الحملة التي أطلقها كاستلّي في أعالي البيرو أفزعت الطبقات العليا المحلية التي أخذت من جديد تناصر الإسبان، وحاربت ضد الجيوش الثورية، وبعد فترة أعلنت الاستقلال لصالحها (أي لصالح هذه الطبقة) دون أية تنازلات للعمال.
وها نحن نري انضمام طبقة جديدة من المُلاّك مكونة من ضباط الجيش إلي الطبقات العليا التقليدية ودعمت من موقفها، وهذه الطبقة الجديدة قد حصلت علي الأرض لقاء الخدمات التي أدوها في الحملة الثورية لقد وقع بوليفار، عام 1817م، وقع علي مرسوم يعد بمصادرة الأراضي التي هي ملك الدولة في فنزويلا لصالح جنود الجمهورية؛ إلا أن الكونجرس أعلن من جانبه أن الجنود سوف يحصلون علي حقوقهم في صورة صكوك يمكن المطالبة بها في تاريخ لاحق علي الحرب غير محدد. وعندما حل الميعاد نجد أن هذه البونات أو الصكوك لم يطالب بها رجال المُشاة من الأميين، بل كان الضباط الأقوياء من آباء الانتصار؛ وبهذه الطريقة نجد أن خوسيه أنطونيو بايث، ذلك الزعيم الجمهوري في سهول فنزويلا، يحصل علي مساحات شاسعة من الأراضي في Apure؛ ورغم أنه لم يؤسس جمهورية انفصالية، فإنه أصبح القانون، ولا يبالي علي الإطلاق بما تفعله حكومة كاراكاس.
شجعت حروب الاستقلال الطبقات العليا التقليدية علي التمسك بالسلطة، وهيّجت طموحات الزعماء وأفلتت في كلتا الحالتين عقال دينامية رهيبة أدت بهم إلي مواجهة الحكومات الوطنية والليبرالية الحديثة الظهور؛ ابتداء من حكومة بيثنتي جيرّيرو في المكسيك وحتي حكومة برناردينو ريبادابيا في الأرجنتين؛ وقد حلت محل الحكومتين دكتاتوريات رجعية: أي سانتا أنا في المكسيك وروساس في الأرجنتين. أحدث الغياب المفاجئ للسلطة الاستعمارية، بعد ثلاثة قرون، فراغًا واضحًا. وقد تم ملء هذا الفراغ رسميًا من خلال الحكومات الليبرالية المركزية، التي وَضُح عدم قدرتها علي فرض سيطرتها محليًا. كما أن وجود هؤلاء الزعماء المحليين أصبح تحديًا للحكومات الوطنية الجديدة؛ لم تستطع هذه المثالية والسذاجة السياسية التي كان عليها الليبراليون، الذين كانوا يقيمون في العواصم أن تقف في وجه قوي الطرد المركزي.
كان الليبراليون المركزيون يريدون فرض نظام شرعي علي كافة أرجاء البلاد، وكانت هذه هي السياسة التي اتبعها برناردينو ريبادابيا في الأرجنتين الرجل الذي استطاع خلال العشرينيات من القرن التاسع عشر أن ينشر التعليم ويقلل من سلطة الكنيسة ويتمكن من نقل مكثف لملكية الأراضي من الملكية العامة إلي الملكية الخاصة؛ غير أن الأمر الأكثر إثارة للسخرية في هذا النموذج تمثل في أن أراضي الدولة حصل عليها عدد قليل من المزارعين الذين فرضوا سلطانهم علي مساحات ضخمة من الأراضي التي أطلق عليه العزبة؛ ففي عام 1827م، عندما وجد ريبادابيا نفسه مُجبرًا علي التنازل عن السلطة، كان قد جري نقل واحد وعشرين مليون أكرّا Acre )مساحة الوحدة 4046.86م2) وزعت علي خمسمائة فرد، واستقر نظام «العِزَب» هذا طوال فترة طويلة من الزمن.
سقط ريبادابيو، ولم يكن سقوطه بسبب قوانين الملكية الساذجة وغير المحسوبة بل لأنه رفض أن يتزحزح قيد أنمُلَة عن سياسته المركزية أو "الوحدوية" التي كانت تشجع علي هيمنة بيونس أيرس علي الاستقلال الذاتي للأقاليم. لكن السلطان الحقيقي بما في ذلك السلطان الذي يتحدي الحكومة الوطنية هو الذي يوجد في الأقاليم؛ وهنا يبرز أمامنا اثنان من الزعماء المحليين الأرجنتينيين: إسْتَانِسْلاو لوبث، في سانتافي، وفاكوندو كيروجا في لاريوخا؛ نجد أن كيروجا هو بطل الدراسة الشهيرة التي أعدها سارمينتو عن السياسة والتاريخ والعادات الأرجنتينية، "فاكوندو" والعنوان الجانبي "الحضارة والبربرية". كان كيروجا، ذلك الزعيم المحلي، نموذجًا، من الناحية الجسدية، للبربرية بعينها؛ فها هي اللحية السوداء تنتشر بكافة أجزاء وجهه حتي الخدين، كما أن شعره المجعد الطويل يكاد يغطي جبهته وكأنه "حية رأس الآلهة ميدوزسا"؛ وطبقًا لسارمينتو كان فاكوندو قادرًا علي قتل إنسان بركلاته، وقد حدث ذات مرة أن شج رأس ابنه بفأس وذلك لأن الطفل لم يكف عن البكاء؛ وتمادي في أفعاله لدرجة أنه أضرم النار في المنزل الذي كان يعيش فيه والديه لأنهما رفضا إقراضه مبلغ من المال؛ كما نشر فاكوندو رايات سوداء تحمل هذا الشعار: "الدين أو الموت"، لكنه لم "يركع" للرب، أو يعترف أو يحضر قُدَّاسًا. كان سارمينتو الليبرالي الجيد يريد أن يعلّم ويُمَدِّن ويُحدِّث العالم الذي يعيش فيه وهو عالم ذو توجهات غير متحضرة. ومع هذا فإن سياسة الحضارة كان يجب أن تنتظر حتي ينتهي زمن البربر.
بعد أن قام ريبادابيا سواء كان عامدًا أو غير واع بما يفعل بنقل سلطات اقتصادية عملاقة إلي مجموعة محدودة من المُلاّك، كان علي هؤلاء أن يتناولوا موضوعات محددة، فعلي سبيل المثال: من سيقوم بحماية مصالحهم بطريقة ملائمة؟ هل هم الزعماء المحليون أو الحكومة الوطنية؟. غير أن هناك اعتبارًا آخر أخذ يطل برأسه، فحتي تستمر الأمور وحتي تمتد الأملاك إلي السهول المترامية الأطراف، نجد أن نظام الملكية داخل الأرجنتين يستلزم أمرًا أصبح فيما بعد مبدأً رئيسيًا من مبادئ ثورة الاستقلال: حرية التجارة وحرية استيراد السلع المصنعة في أوروبا وفي الولايات المتحدة، وتسهيل عملية التبادل من خلال تصدير القمح والصوف والجلود واللحوم الأرجنتينية.
أخذت هذه الدوامة من المطالب تتأرجح بشكل خطير في إطار ذلك الفراغ الذي خلفته المَلَكية الأسبانية، الأمر الذي يفسر ظهور الطاغية الأسبانو أمريكي النموذجي مثل خوان مانويل دي روساس. أدرك هذا الشخص الماكيافيلي، الذي يحظي بسمات الأسد والثعلب معًا هذه الثنائية القاتلة في الأرجنتين، ففي هذا البلد نجد أن "المركزيين" يطلق عليهم "الموحدون"، إذ كانوا من أنصار التواؤم الذي يشمل العاصمة بيونس أيرس والمنطقة الساحلية المحيطة بالعاصمة. كانت سلطة بيونس أيرس تقوم علي عمليات التصدير والاستيراد والزراعة والتلميح (المنتجات المملحة)؛ علي هذه الأسس الثلاثة قامت ما أطلق عليها "حضارة الأبقار" في الأرجنتين. من جانب آخر نجد أن الفيدراليين مستقلون ذاتيًا وإقليميين وكانوا من أنصار المشاركة المرنة بين المحافظات؛ وهنا فإننا إذا ما نظرنا إلي أمرها من الناحية المادية نجد أنها كانت قائمة علي النشاط التعديني وعمادها قطاعات عريضة من السكان المتنقلين الذي لا موظف لهم؛ كان عالمهم هو عالم مسالك الطرق التي يسير فيها الثور يجر العربة، فقد كانت الرحلة تستغرق ثلاثة أشهر من الحدود الشمالية للبلاد حتي بيونس أيرس. وكانت المحافظة النائية هي مركز السلطة عند الزعماء المحليين.
وضع روساس، الرجل الشديد الثراء في بيونس أيرس، استراتيجية خادعة بمقتضاها تقدم ضمن صفوف الزعماء الإقليميين كواحد منهم للدفاع عن المصالح الخاصة بالمحافظات، وكان ذلك ضمن عملية توطيد أركان السلطة المركزية؛ فمن الناحية السياسية أعلن ولاءه للفيدرالية وأقسم بالكفاح حتي الموت ضد الموحدين؛ غير أنه استطاع، بفضل الخلط الذي أدخله علي السياسة الأرجنتينية، أن يستقطب الزعماء المحليين أولاً، ثم هزيمتهم. وعندما مات كيروجا ولوبث أصبح روساس هو سيد الموقف في الأرجنتين، وكان ذلك باسم الفيدرالية التي كان يكن لها الاحترام الخطابي فقط. قام في حقيقة الأمر بمحاربة الموحدين بطريقة شديدة القسوة مستخدمًا قواته الفيدرالية ذات القبعات الملونة وزهور القرنفل من اللون نفسه وكانت الغاية أن يفرض ما قال إنه يحاربه: أي السلطة المركزية. وجد الإقطاعيون وكبار مُرّبِّي الماشية، في روساس ضالتهم المنشودة؛ فقد ضمن هذا الطاغية سيطرة بيونس أيرس والمزارع، أو العِزَب، وصناعة التمليح وكذلك التزايد المستمر في الاستيلاء علي الأرض من خلال عمليات البيع والشراء والتبرعات؛ هنا أيضًا نجد أن الحكومة والمحيطين بها قد ضمنت لنفسها عائدًا مستمرًا من خلال السيطرة علي جمارك بيونس أيرس؛ وذهب الأمر إلي أبعد من هذا، فقد ازداد عدد هؤلاء الأفراد المتحالفين مع روساس بفضل مصادرة أموال الأعداء السياسيين للنظام، كما أن طبقة الإقطاعيين كانت له شكورة عندما استطاع توسيع رقعة الأراضي الرعوية بفضل حروبه المستمرة ضد الهنود.
سلم روساس السلطة للقوات المركزية، بينما كان يتغني بأنه من أنصار الفيدرالية. هذا كله إنما يؤكد المرونة السياسية الشديدة التي كان عليها الدكتاتور الأرجنتيني؛ وعندما نتأمل ملاحظات المراقبين الأجانب له نجد أنهم يصفوه بأنه أشقر عسلي العيون قوي البنية. في عام 1835م نشرت المجلة الفرنسية Revue des Deux mondes تقول: "لا أحد يقدر علي ترويض مُهْرة أو يكسر شكيمة حصان بري أو يصطاد فهدًا، أفضل مما يفعله روساس". وهذا هو الواقع، فروساس لم يخف أبدًا طبيعته
الديماجوجية:
"كان ريبادابيا لا يهتم بما هو جسدي، فرجال الطبقة السفلي، أي رجال الأعمال الموسمية، هم من يعملون ويكدون... وهنا بدا لي منذ تلك اللحظة إحداث تأثير كبير علي هذه الفئة العاملة إما للسيطرة عليها أو توجيهها، ووضعت أمام عيني الوصول إلي ذلك بكل السبل، ولهذا كان من الضروري العمل الدؤوب والتضحيات الكثيرة بالوقت والمال وأن أتحول إلي رجل مثلهم من رعاة البقر وأن أتحدث معهم وأقوم بكل ما يقومون به؛ أن أحميهم وأجعل من نفسي الوصي عليهم...".
يتسم هذا الصنف من المنطق بالظُرْف؛ وعكس ذلك ما نجده من الكتابات المغالية لأتباعه الذين أطروا قدراته العقلية ومعارفه الواسعة وحنكته السياسية وجرأته في الحملات الحربية؛ ويقول كاتب هذا الإطراء والمديح بأنه رجل دولة لا مثيل له، فهو محارب مِقْدَام وجرئ وماهر. وخلاصة القول نجد أن روساس بدا في عيني هذا المادح "النموذج المثالي للسياسي والبطل والمحارب والمواطن العظيم".
هذا الصنف من التكريم الممجوج الذي ظهر في صحيفة "لاجازيت ميركانتيل" التي يسيطر عليها روساس، أضفت عليه التعليقات الأجنبية الكثير من الاعتدال، إذ اعترف رحّالة فرنسي أن روساس كان قد سيطر علي الفوضي "التي كانت تنهب الأرض"، غير أن هذا الانتصار جري وصفه علي النحو التالي:
"من المؤسف أن روساس ذهب في تصرفاته إلي الطرف المضاد... فقد جعل نفسه فوق المؤسسات القائمة، وأجبر باقي السكان جميعًا علي إطراء صورته، وأمر بإحراق البخور أمام صورته في الكنائس، وركب عربته التي جرّتها مجموعات من النساء...".
وفي الوقت نفسه كان يقوم فيه بدور صديق الشعب، رغم أنه في واقع الأمر كان يحمي مصالح الأقليات من الإقطاعيين؛ فقد بدا روساس علي هذا النحو من خلال العبارة اللاذعة التي قالها سارمينتو:
"لقد أدخل نظام مزارع تربية الماشية في إدارة الجمهورية الأكثر ميلاً للحرب والأكثر حماسًا للحرية والتي قدمت التضحيات الغالية للوصول إليها".
فعل ما هو أسوأ من ذلك، فها هو الكونت أليخاندرو والويسكي، الدبلوماسي الفرنسي، ابن نابليون بونابارت وابن الأرستقراطية البولندية ماريا وايلويسكا يشير بوضوح إلي "أن روساس لم يكن بقادر علي البقاء في السلطة إلا بالقوة"، "فهو إمبراطوري ومحب للانتقام" كما ارتكب الكثير من الأحداث الدموية التي تتوجه "بأكاليل الرعب"؛ لم يكن يسمح بالمعارضة وانتهي به الأمر إلي ما قال والويسكي من "إقامة نظام قمعي قانوني يطارد به أعداءه".
قام روساس بتكون "العُصْبة" التي ربما كانت أول كتيبة للموت في أمريكا اللاتينية، وكانت الغاية إسكات الأعداء؛ وهنا يقص علينا سارمينتو كيف أن الرئيس المحلي لهذه "العُصْبة"، بمدينة قرطبة، ويدعي بارْثينا، قد جاء إلي حفل راقص وألقي برؤوس مقطوعة لثلاثة من الشبان علي حلبة الرقص، حيث كان أفراد عائلاتهم من الحضور فأصابهم الفزع الشديد؛ وفي هذا السياق نجد سارمينتو يشير إلي أنه خلال الفترة من 1835م وحتي 1840م فإن الغالبية العظمي من سكان بيونس أيرس قد مرت بالسجن (بروساس)". لماذا؟ وماذا فعلت؟ إنها لم تفعل شيئًا علي الإطلاق "أنتم حمقي! ألا ترون أن المدينة يتم تربيتها؟..".
هي الفوضي أو الطغيان؛ لقد ساعدت هذه الحركة القمعية التذبذبية في حياتنا السياسية علي تقديم تبرير لروساس لاستخدام السلطة بالطريقة التي استخدمها. فقد وحد البلد، حتي أن سارمينتو أقرّ بهذا، وانتزع السلطة من الزعماء المحليين وعندما فعل ذلك فقد حال دون تفكك الجمهورية الأرجنتينية، وسرعان ما أدرك أنه من بين الحقائق التي كان يمكن أن تُقال عن الأرجنتين نجد أن الحقيقة الرئيسية فيها تتمثل في أنه كان علي بيونس أيرس أن تقوم بدور أساسي، إذ كانت الجسر الوحيد القائم بين الأمة وباقي العالم، وكانت كذلك بين المركز التجاري الرئيسي للأمة والمنتجات الداخلية للجمهورية.
استطاع روساس أن يدير مسرحها السياسي بمهارة، فهو من الناحية الاسمية فيدرالي، ومن الناحية الفعلية مركزي، وأفاد من التناطح بين القوتين للتقليل من مقاومتهما وتركيز السلطة في يده. ظل روساس علي قمة السلطة ثلاثة وعشرين عامًا، من 1829 حتي 1852م؛ ولا زال الأرجنتينيون يتناقشون بحرارة حول شخصيته. ألم يتمكن من تحقيق الوحدة ويقضي علي الفوضي ويحقق رواجًا تجاريًا علي المستوي الدولي، ويدعم الوطنية ومقاومة التدخل الأجنبي والدفاع عن التنمية الداخلية القائمة علي القوي الإنتاجية؟ هذه هي حجة المدافعين عن روساس؛ ولكن: هل يمكن للا شرعية والقسوة والإرهاب الذي يرتدي قناع النظام أن تكون كلها ثمنًا للحرية؟
ومع نهاية القرن التاسع عشر نجد أن كلا التيارين المهاجرين، التيار الداخلي والتيار الخارجي، أي رُعاة البقر والأوروبيون قد تلاقيا وتداخلا علي الشواطئ الضيقة في بيونس أيرس.
النجوم هي دليل
راعي البقر في البراري
قادته النجوم حتي المدينة، حيث ينزل من علي صهوة جواده ليتوه في حواري وأزِّقة الأحياء، كان الوافدون من الداخل لا يخضعون لقانون وليس لهم أرض أو رُفقة، وهم رعاة البقر القُدامي الذين هجرهم غيرهم، يسيرون، علي غير هدي، علي بلاط بيونس أيرس؛ وهناك التقوا بالوافدين من أوروبا في البارات وفي تجمعات الساقطات في المدينة. هي مدينة الرجال الذين يعيشون وحدهم، رجال بدون نساء؛ تعرف الجميع علي بعضهم من خلال التانجو، وهي موسيقي للوافدين في مدينة العُزلة ومدينة تعيش مرحلة انتقالية.
تقص علينا موسيقي التانجو حكايات الإحباطات والآمال ونقاط الضعف واللاأمان؛ وقد أطلق خورخي لويس بورخيس علي هذه الموسيقي "الدردشة الكبري لبيونس أيرس"؛ لكنها، فوق كل اعتبار، حدث جنسي من الطراز الأول؛ وهناك مقولة إنجليزية تشير إلي ضرورة وجود اثنين لرقصة التانجو Two to tango: أي رجل وإمرأة متعانقين. في رقصة التانجو يقوم الزوجان بالسير في ظل قَدرَ فردي ومشترك في آن، لكنهما يدركان استحالة السيطرة عليه، ومن هنا كان التعريف الدقيق للتانجو الذي قدمه المؤلف الموسيقي سانتوس ديسيبولو: "انه فكر حزين قابل للتحول إلي رقص". وإذا ما نظرنا إلي جذور التانجو لوجدناها غامضة تمامًا مثل وجوده في الوقت الحالي، لكن الأفارقة أو أبناء البحر الأبيض المتوسط يقدمون لنا صورة من الاتصال اللغوي بين اللفظة lang، في لغة السود التي تعني يلمس، يقترب، وبين الجذر اللاتيني وهو الفعل Tangere الذي يعني أيضًا يلمس ويقترب ويمثل. كل هذا، هو في واقع الأمر، له أصداؤه القشتالية وهو الفعل: Taner أي يعزف الجيتار علي سبيل التحديد.
وأيًا كانت أصول التانجو، فقد سافر إلي الخارج مع نهاية القرن، وانتقل من بؤر الدعارة في بيونس أيرس إلي صالونات باريس، فهل كان التانجو أحد أنواع "الحلو" القابلة للتصدير من بلادنا مثل الشيكولاتة والبنّ والسكر والتبغ؟. لقد تحول، علي أية حال، في الحسّ الأوروبي إلي أول رقصة يتعانق فيها الزوجان علي الملأ. وكان رد فعل البابا بيُو العاشر هو أنه منع "هذا الرقص الوحشي"، كما منعه الملك لويس ملك بافاريا علي ضباطه، وفي إنجلترا نجد دوقة نورفولك Norfollk تعلن أنه رقص مناقض للطبيعة الحسنة والعادات الإنجليزية المحمودة، إلا أن الإنجليز، رجالاً ونساءًا، عام 1914، كانوا يفدون كل ليلة بأعداد كبيرة إلي "عشاء التانجو" في فندق سافوي بلندن.
رغم نجاح التانجو علي المستوي الدولي عاد إلي مصادره الأولي، إلي بوينوس أيرس، وإلي وظيفته الأولي في استحضار ما عليه مدننا من غموض وأسرار وفقر مدقع وصعوبة العيش ككائنات بشرية في الرقع العمرانية الحضرية في مدننا. لكن المدن والريف أخذت تشهد ظهور ثقافة من اللقاءات والاختلاط والتشابك، وأخذ ذلك يتجلي في اللغة والموسيقي وحركة الجسد والإيماءات والأحلام والذكريات والرغبات. ورويدًا رويدًا أدركت أمريكا الأسبانية أن الأمر لا يتعلق بأن نختار ببساطة بين الحداثة والموروث، بل يجب أن يكون كلا الطرفين حيًا وفي حالة حضور إبداعي؛ وشيئًا فشيئًا أدركنا أن البحث عن هوية ثقافية لا ينضب له معين سواء في الانفتاح علي الآخر أو تأمل الذات، في الاختلاط أو العُزلة، في الحضارة أو البربرية، بل كان هذا البحث يتجه صوب توازن عبقري ومحكوم بين ما كنا قادرين علي أن نقدمه للعالم وما نحن قادرين أن نأخذه عن العالم. مر الحوار الثقافي الخاص بالاستقلال بكل هذه المُعضلات، وأصابنا الخوف من أن نكون نحن الذين أجبرنا أنفسنا علي أن نكون شيئًا آخر، فرنسيًا أو أمريكيًا أو إنجليزيًا. هذه المُعضلة كانت ببساطة مرآة الصعوبة التي كنا نواجهها في أن نوجد لأنفسنا مكانًا في هذا العالم، والتعرف عليه وأن يتعرف علينا؛ لقد كافحنا إحساسنا بالزمن وكيف نعيش في سياق خاص بنا وألا نحوله إلي خلط خطير بين الماضي كعلامة علي التخلف وبين المستقبل كعلامة علي التقدم.
شعر قادة الحركة الزراعية وحركة الطبقة الوسطي أن آمالهم قد طال انتظار تنفيذها تحت الحكم الفردي لبورفيريو دياث، رئيس المكسيك، والذي يكاد يكون قد حكم البلاد بشكل مستمر منذ 1876م حتي 1910م، وصل دياث، الرجل الذي كان يومًا ما من الأيام أحد رجال المقاومة البارزين الذين يعملون تحت لواء بنيتو خواريث، ويناهض التدخل الفرنسي، إلي سدة الحكم تحت رايات الليبرالية اللاتينية الأمريكية، غير أن شعار "النظام والتقدم" لم يكن يضم، طبقًا لمفاهيم بورفيريو دياث مفهوم الديمقراطية أو العدل الاجتماعي. إذن كان يعني عنده، ببساطة، تنمية اقتصادية سريعة تزيد من المزايا التي تتمتع بها الصفوة وتقر وسائل غير ديمقراطية للوصول إلي الغايات الاقتصادية المرسومة. في بداية الأمر، غازل دياث الطبقة المتوسطة التي تشكلت خلال القرن التاسع عشر، قرن الاستقلال، فقد ظهرت علي الساحة مجموعات من رجال الأعمال ورجال الجهاز الإداري وأصحاب المزارع، وأخذ ظهور هؤلاء يتواكب مع ما قام به دياث من تشجيع الاستثمارات الأجنبية في كل من قطاع البترول والسكك الحديدية واستيطان الأراضي؛ فقام النظام الحاكم بزيادة خطوط السكك الحديدية المكسيكية من 1661 كم عام 1881م إلي 14573 كم عام 1900. أحدثت هذه السياسات تغيرًا جذريًا في حياة آلاف من الفلاحين والحرفيين التقليديين والعمال الزراعيين وعمال المصانع، وفي الوقت ذاته نجد أن النظام الزراعي الذي جري تنشيطه من خلال "قانون الإصلاح الليبرالي" قد حرم جموع الفلاحين من آخر ما تبقي لديهم من الأراضي التي ورثوها، والتي كانت تحميها حتي ذلك الحين قوانين كانت قد صدرت قديمًا عن التاج الأسباني.
ها هو توحيد الأراضي أو الملكيات الكبيرة يمتص الأراضي والمياه والغابات، وكلما تزايد عدد الفلاحين الذين فقدوا أرضهم نجدهم وقد تحولوا بالفعل إلي عبيد للإقطاعيين. كان أحد هذه الإقطاعيات ملك أسرة تراثاس في إقليم Chihuahua أكبر مساحة من بلجيكا وهولندا مجتمعتين وكان المرور بها يستغرق يومًا وليلة بالقطار؛ أمر مشابه نجده بالنسبة للملكيات الأجنبية، ففي عام 1910م بلغت الأملاك الأمريكية في المكسيك مائة مليون أكر (مساحة هذه الوحدة 4086,86م2)، بما في ذلك جزء مهم من أراضي الغابات ذات القيمة العالية، وكذا بعض مناطق التعدين والأراضي الزراعية، وكلها تمثل حوالي 22٪ من مساحة المكسيك. كما بلغت أملاك ويليام راندولف هيرست ، أحد كبار أغنياء الصحافة، ثمانية ملايين أكر.
لم يكن القطاع الزراعي في المكسيك إلا ظاهرة كاملة لنظام العمالة بالدِّين الذي حل محل الأشكال المتعاقبة منذ العصر الاستعماري لاستغلال العمال الزراعيين: فالإقطاعية أولاً ثم يأتي التوزيع علي الفور؛ فهناك الدين لقاء الخيمة المخططة، والدين المستحق من جيل إلي جيل، ففي عام 1910م كان هناك 98٪ من الأراضي القابلة للزراعة في المكسيك في يد المَزَارع بينما نجد 90٪ من الفلاحين المكسيكيين لا يملكون أراضي زراعية، ومع هذا كانت جموع الفلاحين تمثل 80٪ من السكان وكانت نسبة الأمية بينهم تبلغ 90٪؛ غير أنه عندما تحول الآلاف من الفلاحين من حرفيين تقليديين إلي عمال زراعيين وعمال في المصانع، وجد الرئيس دياث نفسه مُجبرًا علي تكوين قوات أمن ضخمة وذلك لتخويف النقابات العمالية وتفريق مظاهراتها وإضراباتها وضمان أن تستمر البلاد في تقديم عمالة رخيصة، وإلا فلن تنفع المساندة المحلية التي يقدمها دياث ولن تفيد المصالح الأجنبية المتزايدة من الاقتصاد المكسيكي الذي يعيش توسعًا سريعًا، أو أن تُقدم علي الاستثمار فيه.
أضحي بذلك أن التذمر والثورة قادمان لا محالة علي مستوي هاتين المجموعتين وهما العمال الذين يعملون في المصانع والعمال الزراعيين القدامي؛ وكان ردّ دياث علي هذا ردًا فظيعًا: "اقتلوهم حيث ثقفتموهم". شهدت إدارة دياث إضرابين عماليين متواليين بفارق زمني لا يكاد يصل إلي ستة أشهر، أحداثا هزة قوية للنظام، ففي يونيو 1906 تحدي عمال مناجم النحاس، في كنانيا ، للدكتاتورية المكسيكية ولحلفائها الأجانب، وهنا لجأ دياث إلي Ranger في ولاية أيرزونا للقضاء علي تمرد عمال المناجم بالقوة وكانت الحجة "حماية أرواح الأمريكان وممتلكاتهم". وفي شهر ديسمبر من العام نفسه نجد جماعة "دائرة العمال الأحرار" في مصنع النسيج في بلدة "ريوبلانكو" في بيراكروث Veracruz تثور علي الخيمة المخططة وظروف الإقامة غير الإنسانية واستخدام جوازات السفر الداخلية وبطاقات الهوية والرقابة علي المطبوعات. غير أن دياث، هذه المرة، لم يلجأ إلي قوات القمع الأجنبية بل أرسل الجيش الفيدرالي ليطلق نيرانه علي العمال، ويقوم بتكويم جثثهم في عربات السكك الحديدية التي حملتهم إلي بيراكروث وهناك ألقوا بالجثث في البحر.
ازداد تباعد الناس أكثر فأكثر عن نظام دياث بما في ذلك مجموعات الطبقة الوسطي التي تمتعت في البداية بدعمه، وأخذت هذه الطبقة في التقلص شيئًا فشيئًا كلما تقلصت دخولهم وزادت المكاسب للشركات الأجنبية، التي أبدت اهتمامًا كبيرًا بالتصدير من المكسيك لكنها لم تُعنّ كثيرًا بتوسيع رقعة السوق المحلي المكسيكي.
أدي هذا النظام المفروض علي مجتمع زراعي في الأساس إلي خلق طبقة من الإقطاعيين تتسم بقوة عاتية، وإلي خلق برجوازية ضعيفة الأمر الذي أوقف تطور الحركة العمالية ودهس طبقة الفلاحين، وبعد ذلك نشهد فشل النظام في استيعاب المجموعات الاجتماعية الجديدة التي خلقها النظام نفسه، مما أدي إلي تباعد عميق عن حكومة دياث. هناك إذن مجموعة من العناصر التي أسهمت في توحيد صفوف العمال والفلاحين والطبقة المتوسطة وطبقة الصفوة في المحافظات واتخاذها قرار السير في طريق الثورة، وهي القمع وعدم توفر الفرص وتأثير الأزمات العالمية والمطالب القديمة المتعلقة بالأرض، وتلك الأخري المتعلقة بالسلطة والشعور القومي. ومن المعروف أنه يحدث كثيرًا أن يتجاوز المجتمع الدولة، بينما لم تكن الدولة تدرك ذلك. والأعمق من كل هذا هو أننا شهدنا المكسيك وباقي أمريكا اللاتينية قد بدأوا يعترضون علي القيم التي من خلالها يمكن قياس الحداثة في مجتمع زراعي، فهل يجب أن تسهم الحداثة أكثر في النمو الاقتصادي والحريات السياسية، أو الاستمرارية الثقافية؟ هل يعني دعم عنصر أو اثنين من هذه العناصر التضحية بالعناصر الباقية؟ أو هل كان يمكننا أن نبلغ حد التوازن بين الازدهار والديمقراطية والثقافة؟
عاصفة علي المكسيك
إذا ما تأملنا النشرات السينمائية البدائية في أوائل القرن العشرين وجدنا أن بورفيريو دياث وفريقه يبدوان أنهما ينسبان إلي ألمانيا القيصر أكثر من نسبتهما إلي العالم الأمريكي، فكان مجلس الحكومة (كان أغلب الوزراء تتراوح أعمارهم بين سن السبعين وما يزيد علي الثمانين عامًا) يُطلِق علي نفسه "العلميون"، أو بمعني آخر من يسيرون علي هدي فلسفة عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كانط التي تؤيده فيها كافة الأنظمة في أمريكا اللاتينية، والتي كانت تقبل بجدلية تقول بأن الإنسان يمر بثلاثة مراحل للتطور، ابتداء من المرحلة اللاهوتية وانتقالاً إلي الصوفية ثم المرحلة الوضعية، وفي هذه المرحلة الأخيرة نجد مواجهة للواقع بعد تعريته من المفاهيم الخارجة عن إطار الطبيعة أو المثالية؛ ومع هذا فإن الواقع الذي يواجهه "العلميون" كان يعاني من الشيزوفرنيا، فالنصف الأول كان الواقع الذي يريدون رؤيته وهو واقع أفاد من التقدم والتحديث، أما النصف الثاني فهو واقع جد مختلف وهو الظلم في القطاع الزراعي الذي يعاني منه أغلب أبناء الشعب.
تلقي بوفيريو دياث في شهر سبتمبر لعام 1910 تكريمًا وتهنئة من مختلف أنحاء العالم في الذكري المئوية الأولي للاستقلال، فقد هب الكثير من رجالات الدول والكُتّاب العالميين لتهنئة الحاكم القوي الذي جعل السلام يحل بالمكسيك ومعه التقدم والاستقرار، وبذلك نري أن دياث قد اكتسبت صورته الدولية المزيد من الشهرة علي المستوي الدولي حيث صرح لأحد الصحفيين الأمريكان بأن "المكسيك أضحت في نهاية المطاف دولة مهيأة لتطبيق الديمقراطية". وقرر الشعب المكسيكي أن يوجه له كلمته أيضًا.
هناك محام غير معروف إقطاعي يدعي فرانثيسكو ماديرو، يبلغ من العمر تسعة وثلاثين عامًا؛ تلقف هذا المحامي الوعد الذي جاء علي لسان دياث بتطبيق الديمقراطية وألف كتابًا موجزًا بعنوان: "الخلافة في كرسي الرئاسة" 1910 -، فقد نادي هذا المحامي، في كتابه المذكور، بالانتخابات الحرة ووضع حد لإعادة الانتخاب المتكررة للسيد بورفيريو دياث. وإذا ما تأملنا الكتاب وقد نشر وسط أمة تصل نسبة سكانها من الأميين إلي 90٪ من التعداد العام فإننا نجد أن هذا الكتاب الصغير لهذا الرجل غير المعروف قد تحول ليكون بمثابة الشرارة الضرورية لاضرام النار في تلك الغابة القديمة والجافة لبورفيريو، فقد قرأه كل من استطاع وكرروا رسالته.
من الجنوب جاء رجل شاب كان يرأس وفدًا من الفلاحين الذين يمثلون الولاية التي ولد فيها وهي موريلوس، ليوضح للرئيس المتاعب التي يعيشها الشعب. غير أنه لم يكد يصل إلي موريلوس حتي ذهبوا به إلي الجيش ليؤدي الخدمة العسكرية الإجبارية. وفي عام 1909 نجد القري التي كانت تكافح من أجل الحصول علي حقوقها قد اختارت الرجل نفسه وهو إيميليانو ثاباتا، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عامًا مثله مثل قائده. تحول ثاباتا إلي مُرَوِّض ماهر للخيول وعربجي؛ كانت نظراته قوية ومباشرة لكنها حالمة تأسر كل من كانوا يعرفوه. من الشمال هناك رجل آخر من أبناء الشعب وهو أحد العمال الزراعيين القدامي، متمرد وأحيانًا ما عمل لصًا للمواشي، يدعي دوروتيو أرانجو؛ اتخذ لنفسه اسمًا حركيًا هو / بانشو بيا. استطاع بيّا أن يكون جيشًا من رعاة البقر والعمال الزراعيين والحرفيين للكفاح ضد الدكتاتورية، والتقي في خِضّم هذا الكفاح "برسول الديمقراطية"، المتواضع فرانثيسكو ماديرو، ووعد المكسيك بالوصول إلي الديمقراطية الكاملة ليس إلا.
عندما سقطت المدينة الحدودية "ثيوداد خواريث" في مقاطعة Chihuahua، علي "النهر العظيم" علي الحدود مع الولايات المتحدة في يد القوات المتمردة عام 1911، أدرك بورفيريو دياث أن زمانه قد ولّي ومضي. وعندما رحل صوب المنفي والموت في باريس لاحظ أن ماديرو كان قد أخرج من القفص نَمِرًا، لكن ما بقي هو ما إذا كان بالإمكان السيطرة عليه. وصل ماديرو إلي الرئاسة وهو يعتلي موجة من الحماس الشعبي، فها هي الجماهير تهذي وتحييه في كل محطة يمر بها في رحلته إلي العاصمة. وعندما دخل مدينة المكسيك ظن الناس أنهم يشهدون صعود وظهور "المخلّص الجديد"؛ تعرضت المدينة أيضًا لهزة أرضية في ذلك اليوم مما أسهم في جعل الأحداث أكثر عجبًا؛ لكن ماديرو كان يريد أن يقدم للمكسيك شيئًا أكثر تواضعًا، ومع هذا يكاد يكون إعجازًا، إذا ما نظرنا إليه في إطار الموروث التسلطي الذي تعيشه البلاد منذ زمن حضارة الأثتيك وزمن نواب الملوك الأسبان: إنها ديمقراطية وظيفية، أي صحافة حرة ومجلس نواب مستقل وشديد الانتقاد للسلطة التنفيذية وحرية المواطن في الانضمام إلي التشكيلات الحزبية. قدم ماديرو كل هذا إلي المكسيك، لكنه لم يعن كثيرًا بالأسباب التي تكمن وراء حالة عدم الرضا، فقد ظلت البيروقراطية القديمة في مكانها ولم يلمس أحد الأبعاديات الكبيرة ولم يتمكن الفلاحون من استعادة أراضيهم، وظل
جيش الدكتاتورية علي ما هو عليه متأهبًا لقمع هؤلاء الذين أرادوا تغيير الأوضاع، وأخذت مجموعات من الفلاحين تغزو الأراضي والقري وحدثت عمليات تخريب محدودة في الاشتباكات بين البوليس والتنظيمات العمالية (النقابات). المحصلة هي أن ثاباتًا أدان ماديرو واعتبره خائنًا، وقرر الاستمرار في كفاحه؛ ومع عدم الاستقرار في المكسيك أخذ الضيق يزداد في الولايات المتحدة فقد حمل الجنرالات المناوؤن السلاح لإعادة الأوضاع إلي ما كانت عليه، وانكمش النشاط الاقتصادي، وفي نهاية المطاف، في فبراير من عام 1913، وعلي مدي عشرة أيام، أي العشرة التي أطلق عليها "العَشْرة المأساوية"، تحولت شوارع مدينة المكسيك إلي ساحة معركة. كان النمر يسير طليقًا.
كان ماديرو شديد البطء في الإصلاحات التي أدخلها ليرضي أصدقاءه وكان شديد الضعف مع أعدائه، وتعرض لمؤامرة من الجيش والإقطاع والسفير الأمريكي، هري لان ويلسون؛ وأثناء اللحظات الحرجة التي عاشها هذا التمرد في مدينة المكسيك نجد قائدًا عسكريًا آخر عينه ماديرو، وهو الجنرال بيكتوريانو أويرتا، يخونه ويسانده في هذا السفير الأمريكي ويلسون الذي نصّب نفسه حكمًا لما أطلق عليه "المكسيكيون غير الناضجين" و "السلالة اللاتينية الانفعالية". كما كان هناك ما هو أبعد من عدم كفاءة الرئيس ماديرو ألا وهو أن إدارة الرئيس Taft كانت تخشي الزعماء الشعبيين وهما بِيّا وثاباتا، اللذين ظلا علي موقفهما في المناداة بإعادة توزيع الأراضي وممارسة الحكم الذاتي في المجتمعات الزراعية.
بدم بارد، جري اغتيال ماديرو الضعيف علي يد أويرتا، وطبقًا لرواية صحفي أمريكي فإن ماديرو قد وضع حراسة علي نفسه عبارة عن رجل أصم وأعمي وذلك حتي يتفوه بعبارة: "الوضع مستتب".
أدي هذا الاغتيال الفظيع لماديرو إلي توحيد صفوف البلاد، فقد أثبت أويرتا أنه طاغية ودموي ولا يرحم وشديد الارتباط بشرب الكونياك؛ واجه أمة سُلِبَ منها كل شيء، اتحدت فيها كافة الأطياف المتمردة تحت لواء بينو ستيانو كارّانثا ذلك السناتور القديم في عهد بورفيريو دياث وحاكم الولاية الشمالية Coahuila. كان كارّانثا يمثل الطبقات المتوسطة والعالية في المحافظة، وهي طبقات تتجاوز طلباتها أكثر من الديمقراطية السياسية، إذ كانت تريد دولة مركزية قوية ومفتوحة تحتضن طموحات رجال الأعمال والمهنيين وصغار المُلاك في الريف الذين كانوا مستبعدين من المزايا التي منحتها دولة المكسيك أثناء فترة المُلك الطويلة التي حكم فيها بورفيريو دياث.
كانت هناك ثلاث قوي حربية اتحدت ضد أويرتا، فمن الجنوب نجد إيميليانو ثاباتا الذي قاوم سياسة الأرض المحروقة التي كان يتبعها أويرتا ورد عليه بإحراق المزارع. أما في الولايات الشمالية فإن بانشو بيّا كوّن جيشًا قويًا، وهو "فرقة الشمال" وأحاط نفسه "بالذهبيين" وكسب المعركة تلو الأخري في مواجهة الجيش الفيدرالي واستولي علي المزارع وحطّم الإقطاعيين والمُقرضين. وهدد كارّانثا، الرجل الذي نودي به كأول رئيس للثورة؛ وعندما استولي بيّا علي ثاكاتيكاس، في قلب منطقة المناجم في المكسيك، استند كارّانثا علي أكبر القادة الميدانيين مهارة في الثورة وهو ألبارو أوبريجون مزارع من سونورا الرجل الذي كانت فرقه تضم المحاربين الشجعان من الأجانب (الجانكي) وتسير من أجل الانتقام للتجاوزات التي وقعت ضدهم والتي أمر بها بورفيريو دياث. هُزم أويرتا عام 1914م واستعدت الجيوش الثورية لدخول مدينة المكسيك، وبعد بلوغ النصر ارتدت سهام الثورة إلي صدرها، فقد كانت ثورة المكسيك في حقيقة الأمر ثورتين أشرت إليهما في بداية هذا الفصل، وهما حركة العمال الزراعيين في القري، التي يتزعمها كل من بيّا وثاباتا حيث ثبت ذلك في المخيلة الشعبية. إنها ثورة قائمة محليًا حول الأرض والمياه والغابات، وقد ساعد هذا المشروع علي نمط من الديمقراطية اللامركزية والجماعية والقادرة علي أن تحكم نفسها بنفسها، معتمدة علي موروثات محلية مشتركة علي مدي طويل. وجدت هذه الثورة نفسها استمرارًا للقيم الزراعية القديمة وكانت في كثير من الجوانب ثورة محافظة.
أما الثورة الثانية، الأكثر خيالية في الأيقونات العقلية، فهي الحركة الوطنية المركزية والتحديثية بزعامة كارّانثا الذي وجد دعمًا له في السلطة من خلال اثنين من الرجال النشطاء من رجالات الدولة هما: أوبريجون، ثم، بعد ذلك، خليفته بلوتاركو إلياس كاييس، وهما رجلان سيطرا علي الحياة السياسية في المكسيك خلال الفترة من 1920م حتي1935
كان الصدام بين التيارين الثوريين من الممكن أن يكون أكثر دموية من الثورة علي النظام القديم، وربما كانت كل ثورة حدثًا ملحميًا تتوحد فيه صفوف الشعب ويقف في وجه الطغيان الآيل للسقوط؛ لكنه سرعان ما يتحول إلي حدث مأساوي عندما تأكل الثورة نفسها: أي يقف الأخ في وجه أخيه. فقد أُخرِجَ كارّانثا في غضون زمن قصير من مدينة المكسيك علي يد الثورة الثانية التي يتزعمها ثاباتا وبيّا، إذ دخل القائدان الشعبيان سويًا العاصمة؛ كان بيّا متجليًا، وجلس علي كرسي الرئاسة، وإلي جواره ثاباتا عكر المزاج ولم يخلع قبعته وهو ينظر بلا مبالاة إلي المشهد الحضري من حوله؛ نعرف أن جذور هذين الرجلين لم تكن هنا، بل هناك في عمق أعماق الريف. وهنا قال ثاباتا لبِيّا: "هذه المدينة مليئة بالمقاعد في الشوارع" "وأنا عندها أسير أتعثر فيها".
عادا إلي عالمهما الريفي وأخذا يوزعان الأراضي وأقاما المدارس وطرحا نمطًا بديلاً للتنمية. وعلي مدار عام كامل (1914-1915م) استطاع ثاباتا ومعه بلدة موريلوس أن يطبقوا الحكم الذاتي دون تدخل من الحكومة المركزية وأقاموا واحدًا من المجتمعات القابلة للتحقق والتي لم تشهدها أمريكا اللاتينية من قبل؛ فقد تم توزيع الأراضي طبقًا لرغبة القري: أي الملكية العامة أو الخاصة، وعاشت الزراعة تحسنًا ملحوظًا وزاد الإنتاج بشكل كبير. ومن المعروف أن ثاباتا ورفاقه كانوا من الفلاحين والعمال ونحو ذلك؛ أما مصدر سلطته فقد كانت المجالس المحلية التي كانت تستند إلي العمل بالنصوص القانونية المحلية التي كانوا هم أنفسهم المعنيين بتحويلها إلي واقع مُعَاش؛ كانت تلك هي القاعدة لما يمكن أن نطلق عليه سياسة الثقة. أرخّ جون ويماك J.W. لحركة ثاباتا وأشار في هذا التأريخ النهائي إلي "أن الأمر الذي له دلالته في هذه الحركة هو أن ثاباتا لم يشكل أبدًا جهاز بوليس حكومي، فقد تكفلت مجالس القري بتطبيق القانون بشكل مرن"؛ ومُنِعَ الزعماء المحليين الحربيين من التدخل في شئون القري، وعندما كان علي ثاباتا أن يكون محكِّمًا في أحد الأزمات المحلية فإن أقصي ما يفعله هو مساندة القرارات التي اتخذها سكان القرية بمحض إرادتهم.
حوّل فلاحو بلدة موريلوس تحت التوجه الذي سار فيه ثاباتا الحلم البسيط والعميق الذي طالما كافحوا من أجله إلي واقع، فبدلاً من أن يركنوا إلي الخنوع واضعوا ثقافة زراعية بوسعها أن تفلت من هذا المصير المشئوم، وأن يكون لها تنظيم مدني واقتصادي وإنساني ووظيفي يقوم علي الأسس المحلية ولقد برهن هؤلاء علي أن المكسيكيين يمكن أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم بشكل ديمقراطي. ومع هذا فإن تلك القيم الخاصة بتوجهات ثاباتا هي نفسها التي أدانتهما بالموت، فقد كان توجه بلدة موريلوس يسير في اتجاه معاكس للنمط الوطني، فالمنظور الخاص بالدولة الوطنية المكسيكية كان يعني زوال الخصوصيات المحلية وذلك لصالح التوجه الوطني، وهنا يجب التضحية ببلدة موريلوس الصغيرة علي مذبح المكسيك الكبري، أي القوة الدينامية المسئولة والتي لا تضع في اعتبارها أية حواجز والمركزية التي أخذت تتشكل حول كارّانثا وطموحات مناصريه وهما أبريجون وكاييّس.
نجد إذن أن ثورة وطنية تدخل في مواجهة مع ثورة محلية؛ وكانت هذه الأخيرة تقوم علي التقاليد الموروثة والمقبولة من الجميع؛ أما الأولي فقد كان أمامها مشوار في إعداد خطة وطنية للتقدم وفرضها علي البلاد؛ كان اتجاه ثاباتا قادرًا علي حل المشاكل التي تطرأ؛ كانت قوانين العرف واضحة ومحددة ولا رجعة فيها، وكانت الثقافة المحلية متجانسة كما أن الحالة العميقة والحميمة التي يعرفها الناس عن بعضهم البعض تحبّذ أشكالاً مباشرة، أما الثورة القومية، فعلي العكس من ذلك، فقد شعرت أن واجبها هو تركيز طاقات البلاد حتي يتم تغيير المجتمع غير المتجانس، وذلك بخلق بنية تحتية حديثة في بلد كان يفتقر إلي شبكة الاتصالات والطاقة الكهربائية والتنسيق الإداري. أضف إلي ذلك أن ثورة بلدة موريلوس يمكن أن يُنظر إليها إلي أنها غير مسئولة علي المستوي الدولي، وعكس هذا تواجهه الثورة الوطنية، أي مواجهة الضغط المستمر القادم من الولايات المتحدة والتهديد المباشر بالتدخل المباشر مرة أخري. انتابت البلبلة حكومة ودور ويلسون في واشنطن عندما شهدت علي حدودها الجنوبية ثورة، فاحتلت بيراكروث عام 1913م، وفي عام 1917 أمرت الجنرال جون (بلاك جاك) برشنج الانتقال إلي إقليم Chihuahua وذلك لإنزال العقارب بسانشو بيّا الذي قام بغارة داخل الأراضي الأمريكية، في ولاية المكسيك الجديدة. فشلت كلتا الحركتان إذ أن احتلال بيراكروث لم يزد الدكتاتور أويرتا إلا قوة، إذ كان يدافع عن القومية المكسيكية، كما أن ذلك الجنرال لم يتمكن أبدًا من القبض علي بانشو بيا نظرًا لمهارته في التفلّت من القوات الأمريكية. غير أن الرئيس الأمريكي ويلسون كان عليه أن يقاوم الضغوط القوية التي تعرض لها من جماعات الضغط الأمريكي التي تأثرت بالثورة والتي كانت تحبذ غزو المكسيك وليس هذا فقط بل ذهبت إلي حد إمكانية ضمها. عندما انتهت الحرب العالمية الأولي نجد أن الولايات المتحدة المنتصرة في أوروبا كان لديها جيش مكون من مليون رجل، وكانت ذات دينامية متحمسة وفي حاجة لدخول المكسيك وحل مشاكلها لصالح الولايات المتحدة. إننا أمام مكسيك منقسمة علي نفسها مثل لبنان في زماننا وبالتالي كان من الممكن أن تنتقل من كونها أمة إلي جرح مفتوح لا يندمل، إذ يجب أن تنتهي الثورة، ويجب القضاء علي قادة الجماعات المسلحة وأن يكون هناك التزام قانوني وسياسي داخل البلاد وخارجها.
موت ثاباتا:
كانت المعركة النهائية بين الثورتين قاب قوسين أو أدني، ففي معركة ثيلايا Celaya، عام 1915 تمكن ألبارو أوبريجون، أحد قادة كارّانثا، من هزيمة بانشوبيّا بشكل حاسم؛ كان هذا المحارب يستخدم دائمًا قوات الفرسان ويعتمد عليها في بلوغ الانتصارات، ويعرف أوبريجون ذلك جيدًا، ولهذا وضع مدفعيته علي أطراف ميدان المعركة وتحدي بيّا أن يهاجمه بخيله. اختبأ الجنود الأمريكان في منافذ ضيقة، وعند مرور ثاباتا بخيله فوق رؤوسهم، رفعوا بنادقهم وطعنوا بها بطون الخيل. انتهت المعركة وسط أمطار من الأحشاء والدم والدخان؛ فقد الجنرال أوبريجون ذراعه اليمني في المعركة، وتدور التعليقات بأن عدد الجثث كان من الكثرة بمكان لدرجة أن الجنرال لم يستطع العثور علي ذراعه المبتورة، وعندئذٍ ألقي في أرض المعركة بعملة ذهبية وعندئذٍ كما كان يتوقع ظهر ذراعه طائرًا ليلتقط قطعة العملة، وهنا يجب أن نَفِي الجنرال أوبريجون حقه في أنه هو الذي ابتكر هذه الحكاية وقصّها علي الآخرين.
كان هو أيضًا الذي قال المقولة الشهيرة وهي أنه لا يمكن لأي جنرال مكسيكي أن يقاوم مبلغًا يبلغ خمسين ألف بيزو، ولا شك أن كارّانثا كان يعرف ذلك جيدًا وهو يعدّ العدة لنصب فخ للتحدي الوحيد المهم للوحدة الثورية وهو ثاباتا الرجل الذي يستعصي علي الترويض؛ فقد ظل هذا الأخير الوحيد الذي اختاره شعبه يكافح تحت لواء "الأرض والحرية"؛ فقد قيل له حيّ علي السلاح، وحكم حياته وقرّر الآن
مصيره. في العاشر من أبريل لعام 1919سسس، امتطي ثاباتا صهوة جواده واتجه نحو مزرعة شِينَامِيكَا للقاء العقيد خيسوس جواخارادو، أحد الضباط الذين فرّوا من حكومة كارّانثا؛ وعندما دخل ثاباتا من باب المزرعة في الثانية بعد الظهر حيّاه حرس المكان التحية العسكرية، وعندئذٍٍ سمع دق الطبول وأطلقت قوات الحراسة دفعتين من النيران علي ثاباتا، وسقط المحارب إلي الأبد، وعمره أربعين عامًا لو كان قد عاش حتي شهر أغسطس من العام نفسه.
اتضح بعد هذا أن ذلك العقيد لم يكن من الفارّين بل كان جزءًا من مؤامرة حكومية لاغتيال ثاباتا؛ كافح هذا المحارب الصَّلب والمثير للقلق والذي لم يطُو له علم أو يُغمض له جفن، حتي النهاية وذلك بالتطبيق الدقيق لمطلب الأرض والحرية، أما العقيد جواخارادو فقد تمت ترقيته إلي جنرال وتلقي مكافأة قدرها اثنين وخمسين ألف بيزو، أي تلك الدفعة المادية القوية التي لا تُقاوم والتي أشار إليها ألبارو أوبريجون.
أُلْقي بجثة ثاباتا علي ظهر بغلة وذهبوا بها إلي Cuautla ثم ألقي بها علي البلاط. أضاءوا المكان حول وجهه والتقطوا صورًا له. كان الأمر عبارة عن تدمير أسطورة ثاباتا. لقد مات ثاباتا، لكن لم يقبل أي من سكان هذا الوادي هذه الرواية. لا يمكن لثاباتا أن يموت، إذ كان شديد الذكاء وبالتالي يصعب أن يقع في الفخ.
هنا، يمكن أن نري جواده الأبيض وهو ينتظره دومًا في أعالي الجبل، فكل سكان وادي موريلوس ابتداءً من قدامي الثوار وانتهاءً بتلاميذ المدارس يؤمنون بأن ثاباتا لا زال حيًا، وربما هم علي حق، إذ بينما تكافح الشعوب لتحكم نفسها بنفسها بناءً علي قيمها الثقافية وقناعاتها فإن الثاباتية سوف تظل حية.
ثورة ثقافية:
في عام 1920 اغتيل كارّانثا بطريقة غامضة وهو يهرب من أزمة جديدة داخلية في صفوف الثورة. وقام ألبارو أوبريجون، النجم الصاعد في العالم الجديد الثوري، بتطبيق الدستور الذي صاغته جميع القوي المتمردة عام 1917م وحاول عناق القوات التي تسير علي نهج ثاباتا من خلال الإصلاح الزراعي، وقدم لبانشوبيّا نوعًا من العزاء عبارة عن مزرعة شمال المكسيك (حيث سقط هذا القائد المحارب قتيلاً أيضًا عام 1923). قاوم أوبريجون الضغوط الأمريكية وذلك ليقترح توسعة العمل بالقوانين الأكثر راديكالية حول توزيع الأرض واستغلال المناجم؛ غير أن الأمر الأهم الذي حدث في عهد أوبريجون هو بداية البرنامج الوطني للتربية تحت إشراف رجل يتسم بالصرامة وهو أمين عام التربية خوسيه باسكو نثيلوس.
خرج أوائل المدرسين من مدينة المكسيك واتجهوا صوب المزارع القديمة، وجري اغتيال الكثير منهم علي الفور، أما الآخرون فقد عادوا إلي العاصمة وقد قُطِعَت آذانهم أو جُدِعَت أنوفهم علي يد الحارسات البيضاوات في المزارع، كما نجد آخرين وقد استطاعوا الدفاع عن مدارسهم الريفية وأن يقوموا لأول مرة بتعليم الشبان وكبار السن القراءة والكتابة.
من جانبه أيضًا قام باسكو نثيلوس، تحت قيادة أوبريجون، بتسليم المباني العامة لفناني الرسم علي الحوائط وأعلن ميلاد ثورة فنية ليس فقط في المكسيك بل في كافة أرجاء أمريكا اللاتينية؛ كما أن أداء باسكو نثيلوس في إطار الثورة المكسيكية قد ساعد الكثير من أبناء أمريكا اللاتينية علي التساؤل فيما إذا كنا قد بلغنا في نهاية المطاف نوعًا من التكامل المتسق ونوعًا من التوافق مع الموروث التراثي العظيم الذي نحن عليه دون استبعاد أي من مكوناته الثقافية أو الأخلاقية، فالثورة الثقافية في المكسيك كانت تبدو وكأنها تشمل أبسط الأنشطة، مثل تعليم الطفل الريفي القراءة والكتابة وحتي أرفع مستويات الإبداع الفني.
ومع هذا فإن المشاكل الاقتصادية والسياسية المتراكمة في المكسيك وأمريكا اللاتينية فرضت نفسها علي الواقع الثقافي، وأزاحته إلي الظل خلال الثلاثة أرباع الأولي من القرن العشرين، لكن في نهاية القرن نجد أن الواقع الثقافي هو الذي يفرض نفسه علي السياسة والاقتصاد في بلادنا. أما التاريخ الثاني لأمريكا الأسبانية، وهو التاريخ الذي أحيانًا ما يتم دفنه، فقد تفجّر من خلال الكفاح الثوري المكسيكي وهدم حوائط العُزلة بين المكسيكيين وتحول، بشكل خاص، إلي ثورة ثقافية. نحن إذن أمام بلد كان مُنعزِلاً عن نفسه منذ فجر التاريخ بالحواجز الجغرافية المتمثلة في الجبال والصحراء والوهاد، والذي يضم مجموعات بشرية منعزلة عن بعضها؛ هذا البلد أخذ في نهاية المطاف يتلاحم من خلال المسيرات الرهيبة لرجال ونساء سانشوبيا من الشمال ويتجهون إلي عناق الرجال والنساء التابعين لإميليانو ثاباتا في الجنوب. ومن خلال هذا العناق الثوري عرف المكسيكيون في نهاية المطاف كيف كان المكسيكيون الآخرون يتحدثون ويُغنّون ويأكلون ويشربون ويحلمون ويحبون ويبكون ويكافحون.
إذا ما كان ذلك قد حدث في المكسيك، فلماذا لا يحدث أيضًا في فنزويلا أو هندوراس أو الأرجنتين أو كولومبيا، وليس بالضرورة أن يحدث عن طريق العنف الثوري بل ربما من خلال التقارب الواعي رغم أنه شغوف بالحاجة الماسة، في أمريكا اللاتينية، لتحديد التجربة الثقافية وربطها بالمشروعات السياسية والاقتصادية؟. ولأول مرة في إسبانو أمريكا نجد كيف كانت المكسيك فظة أحيانًا وبلا مواربة، وأحيانًا ما نراها حنونة شفوقة بشكل يزيد عن الحد؛ إننا كنا نتشارك في الشعور العميق بالكبرياء الشخصي واحتقار الموت. وتبين الصور الخاصة بالثورة المكسيكية التي التقطها الأخوان كاساسولا هذا التعبير المفاجئ عن الذات، ومن أمثلة ذلك عندما دخلت قوات إيميليانو ثاباتا مدينة المكسيك عام 1914 واحتلت ميادين الأرستقراطية المناصرة للرئيس بورفيريو التي هربت من الساحة، وشهدت القوات نفسها بشحمها ولحمها في المرايا الكبري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.