لم يكن عجباً في مكونات المشهد التاريخي أن تكون الأفكار والرؤي هي دعامة الثورات وقوامها بل هي روحها وجوهرها، لكن حقا ما يفوق العجب أن تحرك الثورات أفكار من خارج محيطها السياسي والثقافي والأيديولوجي مخترقة لصميم خصوصياتها لكنها داعمة لوجودها وتأكيد هويتها!! فكيف يمكن استلهام وميض الثورة من خارج الأطر والمنظومات التي هي أكثر استشعارا بحتميات التمرد وضرورات الثورة في إحياء تاريخ الشعوب التي أصابتها آفات الجمود والركود والاستسلام والخنوع واستمراء البلي والحياة تحت وطأة ممارسات القمع وأنياب الديكتاتورية علي اختلاف مناحيها وتوجهاتها؟؟ وليست الثورة المصرية التي صارت نموذجاً مبهرا للثورات السلمية المعاصرة إلا مسارا منطقيا مضادا لاستمرارية تردي الواقع والعودة بالتاريخ للوراء طويلا وإهدار وضعية الإنسان المصري. ولكن هل كانت بعض الكتابات الغربية ممثلة بالفعل للغطاء الأيديولوجي لتلك الثورة؟ من ثم هل كانت ذات تأثير مباشر أو غير مباشر في إحداث تلك الثورة إثر أصدائها القوية المنددة بالنظام البائد؟ ولعله من الثابت وجود مثالين علي درجة عليا من الأهمية إذ كان لهما إطلالة قوية علي الساحة المصرية وامتدادات فاعلة في سراديب العقل المصري والعربي علي السواء، الأول هو الأمريكي »جين شارب« ذلك الشهير بنظرياته وأفكاره حول الديمقراطية وتحليلاته المستفيضة في كيفية الإطاحة بالأنضمة الديكتاتورية وسبل وطرائق إشعال الثورات السلمية وقناعات مطلقة بأن الأفكار لها نفوذ القوة والسلطة. ولقد استلهمت قطاعات عريضة من جبهات المعارضة في العالم أفكاره تلك، لا سيما المبثوثة في كتابه »من الديكتاتورية إلي الديمقراطية« وذلك علي صعيد دول عديدة كبورما وزيمبابوي والبوسنة واستونيا وتونس ومصر، ويدخل ضمن تفعيل رؤاه ومنظوراته ما قام به المركز الدولي من أجل النضال السلمي من إقامة مؤتمرات ومنتديات وورش عمل قاد آلياتها باحتراف ومهارة تلميذه »بيتر أكيرمان« واستعرضت قرابة مائتي طريقة للنضال السلمي منها مجموعة من الأساليب والتكنيكات المتراوحة بين الاحتجاج ضد الجوع والفقر والبطالة والكبت السياسي وعمل الإضرابات السلمية والكشف عن المندسين والمأجورين والعملاء السريين، ورغم الآثار الإيجابية سياسيا واستراتيجيا لثورة يناير المصرية إلا أن »شارب« ظل يردد ويؤكد أن الشعب المصري هو الذي حرر نفسه بنفسه ولست أنا. نعم إن الشعوب دائماً ما تكون في حاجة ملحة لمن يبلور الأفكار ويعمل علي تعبئة الجماهير وإبراز التطلعات الاجتماعية ويصوغ أولويات اللحظة ويشحذ الهمم ويحول دون الارتداد السياسي والانتكاس الحضاري ويدفع نحو بلوغ ذروة النهج الديمقراطي حتي تصبح الحرية هي الميثاق والمبدأ والقيمة والمعني الأسمي. أما المثال الآخر فهو لذلك المؤرخ والمنظر السياسي البريطاني »جون برادلي« صاحب كتاب »دولة الفراعنة علي شفا ثورة« والذي مثل زلزالا فكريا وسياسياً في أرجاء العالم العربي، إذ اتسم برؤية استراتيجية نافذة رصدت في موضوعية صارمة كافة التحولات والتغيرات داخل المجتمع المصري وكيف أن السياسات البالية يمكن أن تقود النظام إلي مأزق النهاية في ظل ثورة عارمة يصعب ويحال التحكم في مقدراتها التي سوف تكتب سطورا ناصعة لتاريخ جديد يعصم مصر من عوارض فترة قاتمة كان يمكن لو استمرت أن تبدد آمال المستقبل وتنسفها. وتتجه رؤية »برادلي« إلي أن عوامل التحلل والانهيار قد طالت جسد المجتمع المصري وأنهكته لا بفعل السياسات الأمريكية الفاشلة في الشرق الأوسط فحسب بل بالاستجابة المباشرة للنظام المصري معها بفعلاته الشنعاء نحو تصاعد موجات العنف والوحشية وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتكريس المظالم في توزيع الثروة وتأكيد الأولوية في تزوير الانتخابات والتلويح بتوريث السلطة واستشراء أنماط الفساد بالشكل الذي يجعل الإصلاح ضرباً من الخيال!! وتلك هي التأزمات التي دائماً ما تقترب بالأنظمة من عصف الثورات، لكن علي من نعول في انطلاقة الثورة؟ ينفي »برادلي« أن يحمل لواءها جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها في رؤيته تمثل كيانا مراوغاً مخادعا يتحين المناسبة للقفز علي السلطة دون أن يصنع هو لذاته تلك المناسبة، كما ينفي كذلك امكانية المعارضة في تحريك خيوط الثورة باعتبارها معارضة مهيضة مستقطبة يصعب انفلاتها من قبضة الشبح السياسي. إلي غير ذلك من الحقائق والثوابت التي سجلها »برادلي« علي النظام المصري متنبأ بسقوطه منذ سنوات فأحدث لديه رعباً وهلعاً دفعه كلاهما لطرد برادلي من مصر ومنع كتابه من التداول، لكن ذلك لم يحل مطلقاً دون اندلاع الثورة بل ربما عمل علي تسريع وتيرتها، وتلك هي أبسط صور جهالات الأنظمة الفاشية. ولعل طرح هذين النموذجين إنما يتجلي معه استعراض للعديد من التساؤلات مثل: لماذا لم تلقب الشعوب بينما لقب معظم الطغاة والديكتاتوريين »جين شارب« بأنه أخطر رجل في العالم؟ وما مكمن الخطورة الذي تستشعره الأنظمة إلا إعادة الوعي المسلوب؟ وإذا كانت أفكار »شارب« قد ألهمت ولعقود طوال شعوبا وشعوباً فكيف لم يمتد إلهامها إلي الشعوب العربية إلا مؤخرا بينما هي الشعوب الأكثر حاجة إلي التغيير وسحق الأنظمة المستبدة؟ لماذا تأثر المشاركون في ثورات مصر وتونس بمفهوماته حول الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ولم يتأثروا بأي مرجعية عربية سياسيا واستراتيجيا؟ وهل أسهمت ترجمات أفكاره إلي العربية في تحقيق امتدادات فعلية للثورات في العالم العربي كاليمن والبحرين وسوريا والأردن؟ ،هل يمكن أن تحدث المفارقة ويلهم العرب شعوب الغرب بالثورة إزاء مشاكل الحرية والبطالة والفساد في أوروبا وأمريكا، كما يشير »جون برادلي«؟ ،هل يمثل دعم مبارك في السلطة وحتي اللحظات الأخيرة استدلالا قوياً نحو فاعلية السياسات الخرقاء المؤيدة للأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط؟ وما جدوي ذلك وقد انتشرت عدوي الثورة واجتاحت جنبات العالم العربي؟ لكن سؤال الأسئلة هو: لماذا لم يظهر في الساحة العربية ذلك العمل السياسي الملحمي والذي يمثل كتاب الثورة فكرا وممارسة وتحتشد حوله الجماهير مستلهمة أفكاره وأطروحاته ليصبح فعل الثورة عملاً عربياً خالصاً؟!