الأسبوع الماضي دعا أحد أئمة مساجد المنصورة علي العلمانيين والمثقفين الكفرة الذين يريدون نزع الدين من الدولة! كما خصص أحد أئمة مساجد السيدة عائشة خطبته لتكفير كمبورة إحدي الشخصيات التي صاغتها مخيلة الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب وحوّلتها ريشة الفنان مصطفي حسين إلي شخصية من لحم ودم! ليس هذا فحسب، فهناك واقعة ثالثة تخص الدكتور محمد مختار المهدي عضو مجمع البحوث الإسلامية ورئيس الجمعية الشرعية.. المهدي وصف من يرفضون وصول الإسلاميين للحكم ب"الكافرين"، وقال بالنص: "من يهاجمون وصول الإسلاميين للحكم يريدون سرقة البلد ويسعون إلي الزنا وارتكاب الفحشاء".وهناك واقعة أخيرة كنتُ شاهداً عليها، إذ طلب أحد المصلين الكلمة، بعد صلاة العشاء، وفيها حذر من الخطاب الإعلامي السائد، الذي يختلط فيه الغث بالثمين، وذكر أنه سمع أحد المثقفين، واسمه يوسف القعيد، وهو من العلمانيين، يتحدث عن الزواج المدني، وأن ما قاله فيه "إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة" وهو "ما يخرجه من الملة"، وقال إنّ الأمر ذاته وقع من د. عمرو خالد في برنامجه علي الفضائية المصرية، عندما تطرق أحد ضيوفه للزواج المدني، ولم يتدخل عمرو لنصحه، واكتفي بالصمت، مما يعني تواطأه مع ما قيل. هكذا اعتلي المنابر من يميلون إلي التشدد واستخدام لغة التكفير! .. والخطاب المتشدد أصبح أكثر كثافة من أي وقت مضي، في زمن أحوج ما نكون فيه إلي خطاب تنويري يميل إلي سماحة ووسطية الإسلام. أصبح "التكفير" أو "الخروج عن الملة"، شيئا من العادي أن تسمعه ممن يتحدث إلي المصلين، وهو كلام فيه خلط بين مضمون الخطاب وميول وثقافة من يوجهه، فنحن علي حد تعبير د. سعيد توفيق، إزاء خطاب لا علاقة له بالخطاب الأصلي، لأنه ببساطة لا يهدف إلي تأويله.. أي فهمه وتفسيره، وإنما يهدف إلي تأطيره.. أي وضعه داخل الإطار الخاص بالمتحدث. سردت هذه الوقائع للدكتور عبد المعطي بيومي، وسألته: لغة التكفير هل تتسق مع سماحة الإسلام؟ أجاب: الرسول صلي الله عليه وسلم نهي عن تكفير المسلم لأخيه المسلم، وقال من كفر مسلما فقد كفر، وقد درج الإئمة في تراثنا الإسلامي علي أنه لو أن تسعة وتسعين بالمائة من كلام المسلم يتحمل الكفر، وأن الإيمان علي وجه واحد، لحملناه علي هذا الوجه. سألت د. عبد المعطي لماذا يوحد من يتهمون الناس بالكفر بين الشخص ورأيه، أليس من الأفضل أن نناقش ما يطرح بعيدا عن اتهام الشخص بالكفر أو الخروج عن الملة؟ أجاب: المفروض أن يكون هناك حوار حول الموضوع، بمعني أن نذكر مثلا هل الزواج المدني يعد زواجا شرعيا أم لا، ولماذا نلجأ لمثل هذا الزواج، ونبحثه من كافة النواحي، لا نبحثه من حيث الكفر والإيمان، لأنه من يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وتزوج مدنيا، فهو في معصية، نحاوره ونرده إلي الصواب الشرعي، ولا نكفره، يجب أن يكون الحوار هو السائد في جميع القضايا وليس التكفير، بأي وجه من الوجوه. الدكتور سعيد توفيق يجيب عن تساؤلنا حول لماذا نشعر بكثافة الخطاب التكفيري الآن، منطلقا من تحليله لفكرة الخطاب، ومستعرضا ملامح التيار السلفي، والخلط بين السياسة والدين، يقول د. سعيد: الخطاب ببساطة هو أسلوب في طرح النص أو الكلام، بهدف تبليغ رسالة للمتلقي. وعلي هذا، فإن النص القرآني- علي سبيل المثال- هو خطاب ديني مشحون برؤية معينة للعالم والحياة يريد تبليغها للمتلقي، ولكن النص القرآني يظل بمثابة خطاب ديني أول يخضع للتأويل من خلال نص آخر أو نص بشري ثانٍِيايحاول فهمه وتفسيره. ولكن المشكلة في واقعنا الثقافي تنشأ من أن هذا النص الثاني (في أغلب أشكاله) يبدو مجافيًا للنص الأصلي ومغتربًا عنه، حتي إنه ليبدو كما لو كان خطابًا دينيًا ثانيًا لا علاقة له بالخطاب الأصلي؛ ببساطة لأنه لا يهدف إلي تأويله، أي فهمه وتفسيره، وإنما يهدف إلي تأطيره، أي وضعه داخل الإطار الخاص بالمفسر. وبوجه عام يمكن القول إن الخطاب الديني السائد منذ عقود في واقعنا الثقافي خطاب سلطوي: سواء كان خاضعًا وموظفًا في خدمة السلطة، أو كان يريد اعتلاء السلطة باسم الدين. وليس الدين بهذا ولا بذاك؛ لأن الدين له سلطته الكائنة في قوته الروحية المتمثلة في كونه دافعًا للحياة، ولإعمار الأرض، ومن ثم للإبداع علي سائر مستوياته: فالدين طاقة روحية تتمثل في الإيمان بقيم الحق والخير والإبداع والجمال، بينما الخطاب الديني السائد في واقعنا خطاب معاد للفلسفة (ممثلة في الفكر والتأويل)، ومعاد للفن (لأن الفن في نظره رجس من عمل الشيطان)، بل معاد للعلم نفسه (لأنه ينزع عنه استقلاليته ويعتبره متضمنًا في الدين). و يضيف د. سعيد: كلما جنح الخطاب الديني نحو التطرف، مال إلي الترغيب والترهيب ونسي ما بينهما، أعني نسي لب الدين نفسه باعتباره خطابًا موجهًا إلي عقولنا وإرادتنا الحرة، ولا يريد منا سوي شخص يؤمن طواعيةً وعن قناعة بالقيم الروحية التي يطالبنا بها الدين والتي ينبغي أن تنعكس في سلوكنا. ومن صور الترغيب الوعد بالجنة وبحور العين اللاتي يمكن أن ينعم بهن المؤمن في الآخرة. ومن صور الترهيب- في مقابل ذلك- الوعيد بعذاب النار وبعذاب القبر. سألته: ما تقييمك للتيار السائد الآن؟ أجاب: عبر ظلام سنوات طويلة حالكة السواد من القهر والعبودية، تغلغل وتسلل تيار ديني عصابي متجهم عبوس كئيب لا يمكن أن يوصف بأنه مجرد خطاب ديني متطرف، وإنما هو تيار تكفيري يكفر النظام القائم والناس أجمعين وجميع مناحي الحياة الإنسانية، ليضع نفسه كسلطة أو كسيف مسلط علي الرقاب. والواقع أن هذا التيار يختلف عن التيار سالف الذكر الذي يقوم علي الترغيب والترهيب الديني، وإن انبثق منه: تيار الترغيب والترهيب الذي وظفته السلطة دائمًا ودعمته لإلهاء الناس عن النظر في حياتهم وأوضاعهم الاجتماعية، ولينصرفوا إلي التفكير في آخرتهم، بدلاً من التفكير في دنياهم: إنه تيار هروبي من الحياة يفرغ الدين من محتواه. أما التيار التكفيري، فقد نشأ من خلال قمع السلطة لمن حاولوا مقاومتها أو منافستها باسم الدين، فظلوا مختبئين لفترات طويلة، يعلنون عن حضور خافت من حين لآخر. ولكن ما إن توارت السلطة القمعية بعد الثورة وتجلت حالة الانفلات الأمني، حتي خرج هؤلاء من جحورهم التي تشبه كهف أفلاطون، حيث مكثوا فيها طويلاً لا يرون سوي هلاوسهم وضلالاتهم. ولا سبيل للخروج من تلك الحالة المأساوية إلا بتأسيس دولة مدنية قوية، سلطانها القانون الذي يجرم ويُنزل أقصي العقاب بكل من تسول له نفسه أن يروع البشر باسم الدين أو باسم "البلطجة" أو باسم أي شيء آخر. وفي الوقت ذاته، فإن هذه الدولة المدنية ينبغي أن تضع ضمن أولوياتها إصلاحا جذريا في التعليم الذي خَرِب، فخَرِبت معه العقول. وعن تاريخ السلفية، ومتي يظهر التيار المتشدد في الحقب التاريخية المختلفة، اختار محمد السيد عيد أن يتحدث في هذا الجانب: هذا الخطاب الديني المتمسك بالسلف، يرتبط بالتحديد بالإمام أحمد بن حنبل في العصر العباسي، ثم بالإمام ابن تيمية في العصر المملوكي، ومن تابعه من تلاميذه، ثم ظهر في العصر الحديث علي يد الوهابيين في الجزيرة العربية، فظهوره واختفاؤه ليس له قاعدة واحدة، ففي العصر العباسي مثلا كان مواجهة للسلطة الحاكمة التي تريد أن تفرض رأيها علي الجميع في أن تكون أحادية الفكر، أما في العصر المملوكي فكانت الظروف المحيطة لعودته علي يد ابن تيمية ظروفاً تتعلق بغياب العقل، والانحراف في التصوف البعيد عن الدين، الذي يغرق في الدروشة والخوارق والرقص والدجل، ولولا أن ابن تيمية في بداية حياته كان عنيفا لكان واحدا من أعظم الفقهاء في تاريخ الإسلام، وبالفعل هو واحد من أهم الفقهاء إذا تغاضينا عن الجزء المتشدد في حياته. في العصر الحديث كانت الدعوة الوهابية في الجزيرة العربية، ثورة علي الفكر المتخلف المبتعد عن الدين، وكان الدعوة للعودة مرة أخري للقواعد الإسلامية الصافية، لكن المشكلة كانت في العنف، ولولا دخولها في العنف ثم جنوحها وابتعادها عن التطور وروح العصر، لكانت- أيضا- من الدعوات المهمة للتجديد في هذا العصر، أما ما هو حادث الآن، فهو بعيد عن روح التقدم وروح العصر، وإذا كان البعض يقارب بين ابن عبد الوهاب ومحمد علي باشا، وينتصر للأخير باعتباره صاحب الخطوة المهمة في التحديث، ومحاولة اللحاق بركب المدنية الحديثة، فمن المؤكد أننا إذا قارنا بين الدعوة السلفية الحالية والفرق الداعية إلي التقدم واللحاق بركب الحضارة الحديثة، فلابد أن ننتصر لدعاة المدنية الحديثة، لأن الممارسات التي نراها من السلفيين الآن، لا يمكن أن تكون بدايات لشيء يبشر بالخير: قطع أذن المواطن المسيحي في قنا، تحطيم تمثال جمال عبد الناصر في أسيوط، ضرب ضريح الشيخ زويد في سيناء بالآر بي جي، كل هذا لا يمكن أن تكون مؤشرات اتجاه ديني يريد التقدم. أما الفنان د. مصطفي الرزاز فقد عقد مقارنة بين السلف الصالح والطالح، قائلا: السلف الصالح كان يتميز بالتواضع والزهد واتساع الأفق والأريحية، وفوق كل ذلك بالسماحة، لم يكونوا متسارعين هجوميين أو تكفريين، ولذا فإن السلفي التكفيري الهجومي التهديدي اليوم هو من أتباع السلف الطالح المتطرف، الذي ذبح بعض أهم السلف الصالح في المسجد وأثناء الصلاة، فليكبح هؤلاء خطابهم المسرف ويتواضعوا ليروا نور الدين الصحيح، وليتجلوا عن شكليات لا علاقة لها بالدين الحنيف وليّ العبارات وحبسها في خانة الكفر والإلحاد، فهذه الكلمات ليست في يمين أحد ليقذفها في وجه من لا يستسيغ خطابه، متربصا به، فيقع في تعريف الأحمق ويخرج عن دائرة الرأي السمح والرؤية المسالمة التي تميز الإسلام، أين وسطية الإسلام الحنيف، لقد أساء هؤلاء للسلفيين الحقيقيين، الذين تخلوا عن خلق الرواد من السلف الصالح، وأصبحوا يكفرون من يشاؤون.