قبل أسبوعين كتبتُ في هذا المكان عن بعض الانطباعات السريعة إثر زيارة خاطفة لبيروت تأجلت لما يزيد علي أربعة عقود، وهنا أحاول استكمالها .وبيروت كما أشرت من قبل بالنسبة لجيلي مثلا تعني الكثير، ولها في أعناق أجيال متعددة دين لا يبلوه الزمن، ليس فقط بسبب فيروز واستضافة المقاومة الفلسطينية ومحمود درويش، بل أيضا بسبب أنها استمرت لعدة عقود نافذتنا، أو حتي رئتنا التي نتنفس بها ونتعرف علي ثقافة الدنيا وليس الثقافة العربية فقط. واحترت بشدة عندما وجدت انطباعي الأول عن المدينة سلبيا، فهي مدينة هرمة مثل القاهرة، وغير نظيفة ومزدحمة مثل القاهرة أيضا، وحتي شارع الحمرا الذي طالما سمعتُ به شارع مزدحم ويعج بالفوضي ولا ملامح له، وشوارع وسط المدينة شأنها شأن شوارع القاهرة بلا ملامح. ومع ذلك هناك كيمياء غامضة تحدث للواحد، وبيروت تجذبك ربما رغما عنك، ويحدث بينك وبينها ذلك الشئ الغامض الذي يشبه الحب الأول بكل سحره ودفئه ولوعته وغموضه.حيّرني هذا بشدة, كنت أستيقظ كل يوم مبتهجا وأنزل إلي الشارع كأنني في طريقي لموعد غرامي. بعد لأي توصلت لحل غموض تلك المشاعر ..السر يكمن في الناس .في النساء والرجال الذين يستطيعون أن يضموك إليهم بلا أدني تردد، الذين يأسروك تقريبا بفيض مشاعرهم التلقائية، لا أقصد من التقيت بهم من الكتاب والفنانين فقط، بل كل من تراهم أو تتعامل معهم:سائقو التاكسي، عمال وموظفو الفندق، الجرسونات ، الناس في الشارع..كل هؤلاء وغيرهم يملكون شيئا ما غامضا وعصيا علي التفسير، يملكون محبة للآخرين وترحيبا تلقائيا فعلي سبيل المثال تطوعت الكاتبة والناشرة رشا الأمير التي جاءت إلي الفندق بسيارتها وبصحبة يسرا المقدم، لتقلنا إنعام كجه جي وأنا لنطمئن علي صحة صديقتنا علوية صبح، وعلي الرغم من أنها المرة الأولي التي أراها فيها، إلا أن الواحد يشعر معها كأن صداقتنا تمتد لعدة سنوات .هناك دفء ما، كيمياء يملكها كثير من البيروتيين مثل الشاعر يوسف بزي الذي التقيت به للمرة الأولي أيضا، وحدث معه الشئ نفسه. أظن أيضا أن الناس في بيروت يملكون جدية واهتماما بما يشتغلون به، وأظن أيضا أنهم يحبون الحياة علي الرغم من أن بلدهم ليست في أفضل أحوالها علي مستويات متعددة .يملكون أن يبتسموا بسهولة ابتسامات حقيقية، ناهيك عن خفة الدم والسخرية الأصيلة غير الفجة، وهذا الشئ الغامض الذي يزيل الحواجز بين البشر. هناك مدن تأسرك منذ اللحظة الأولي، تختطفك برضاك، تضمك ولا تستطيع، أو حتي ترغب، في الفكاك، بيروت هي هكذا لا تملك إلا أن تقع صريع هواها . للحديث بقية إذا امتد الأجل..