كلما عجزت عن تذكرها عاودت النوم عسي أن أراها من جديد. تتجسد أمامي في الحلم بجسدها النحيل وابتسامتها الرقيقة ونظراتها الساهمة الرصينة. تمشي بجواري صامتة في طريق يحفه النخيل وتمتد بموازاته ترعة عريضة ينمو علي ضفتيها شجر طويل أوراقه حمراء وصفراء وخضراء تنعق علي أغصانها غربان لاحصر لها..لكن النحيلة لاتكف عن التطلع في شغف الي وجهي بنظرات ملؤها الدهشة والاعجاب دون أن تنطق ولو بكلمة واحدة أستطيع من خلالها أن أستحضر الاسم الذي تحمله أو المكان الذي من المؤكد أنه جمع بيننا يوما أو أياما وربما لزمن أطول. شيء مزعج جدا أن يصدأ الماضي في الذاكرة وكأنه لم يكن يوما ينبض بالحياة والحركة والحيوية والأحداث والمواقف. تزعجني بشدة فكرة تلاشي الأزمنة والأمكنة والناس والأشياء بلا استثناء. اني علي ثقة من أن هذه السيدة أو الفتاة نحيلة القوام راجحة العقل- كما أكاد أجزم ولو دون سند من منطق- قد ساهمت بشكل أو بآخر في صناعة بعد واحد علي الأقل من أبعاد حياتي المتعددة. لو نطقت في الحلم وحدثتني عن أي شيء يربط بيننا لتذكرتها علي الفور. لو أعطتني ولو اشارة هامسة بمكان العمل أو السكن أو الترويح الذي جمع بيننا يوما لتذكرت من تكون. كلما مضي الزمن بأعوامي تضاءلت طاقتي وقدراتي علي تحمل تبعات التعلق بالحياة وازدادت حيرتي في أمر تبعات التفكير بالموت بعد طول اجترار ممل للذكريات التي مضت ولن تعود ، وأصبح من الصعب أن أؤكد انها مازالت علي قيد الحياة، أو انها فارقت هذا العالم المزدحم بالآمال والأحلام والأهوال. الذي يحدث لي يؤكد أنه سيأتي علي يوم أكون فيه وحيدا غريبا مغتربا في هذا العالم الرهيب، لاوجود فيه لأهل أو أقارب أو أصدقاء أو زملاء دراسة وعمل أو رفاق طفولة وصبا. الكل يأتي ويمر ويذهب ثم يختفي او ينسي، واغلب الظن أن حالي هو كذلك تماما بالنسبة لهم ، ولولا انني انسان محكوم بقدراتي العقلية والروحية المحدودة، لكان من الممكن أن أتفهم طبيعة هذه المسألة الملغزة. صحوت يائسا من القدرة علي تذكرها.أمعنت التفكير في دوائر حياتي المتداخلة، مسترجعا الوجوه التي تعايشت معها وتعايشت معي علي مدي العمر،محاولا العثور عليها وأنا بكامل قواي الذهنية. شحذت الذاكرة واستنفرتها بدءا من الطفولة مرورا بالصبا والشباب والكهولة التي أقف علي أبوابها، لعلي ألحظ تعديلا في تلك الملامح المبهمة يقربها من ذاكرتي، لكنها ظلت كما هي لم تتغير بزيادة أو نقصان. الشيء الوحيد الذي استجد منبعثا من ذاكرة الماضي هو اعتقادي بأنها تنتمي الي الطبقة المتوسطة التي أنتمي اليها، وان كانت دون مستواي الاجتماعي الي حد ما. أما مستواها المعرفي فقد كان يفوق قدراتي جميعا.ربما كانت هي تلك الفتاة التي لاتفكر في الغيب ولا تعتقد الا في كل ماهو مادي ملموس محسوس ، وتستطيع أن تجادل وتحاور وتناور لاثبات ماتقوله بمنطق الفاهمة العارفة الواثقة. اذا كانت هي فكيف غابت عني ملامحها ، وان لم تكن هي فمن تكون تلك المخلوقة العبثية الغامضة التي تتحدث عن تاريخ البشرية وثورات الشعوب كما لو كانت تتسلي بقزقزة اللب السوري. اني أتعجب كيف يختزل العقل الباطن كل هذه الألغاز ويفرزها تارة في الحلم وتارة في الواقع، وحين يختلطان تتكاثر علامات الاستفهام حول هذا الكون الملغز وخالقه الجبار، وحول الحلم والحقيقة والواقع والخيال. كيف انتابتني تلك الأحاسيس لست أدري. ربما أكون قد عاشرتها بلا روح في ليلة عابرة تحت تأثير شراب وغيوم ذاكرة، حين يكون السلطان للجسد والحكم للغريزة..لكن ليس من المعقول أن تكون هناك علاقة حب حقيقي قد نشأت بيننا يوما ما ، فالحب منبعه الروح وذاكرة الروح لا تصدأ. لكن الشك يعاودني في أن يكون فراش واحد قد جمع بيننا ، رغم ميلي الي الاعتقاد بأنها قد حاولت بفطرتها الأنثوية الخالصة استدراجي اليه. كانت أكثر واقعية وكنت أكثر رومانسية كشأن المرأة والرجل دائما علي عكس ما يعتقد الكثيرون. أصابني التردد واستبد بي الخجل من نفسي ومنها ومن طبيعة الممارسة التي ألمحت لي بها بذكاء شديد. قيود الدين وسلاسل العرف وضوابط المجتمع ومحاذير الناس تكاتفت جميعا ضد قدرتي علي الاستجابة رغم تأجج الرغبة.نعم لقد اشتهيتها، لكن كيف يحدث ذلك كله ثم لا أستطيع ان اتذكر حتي اسمها ولا تكتمل في خيالي صورة وجهها الحقيقية واضحة. اشتعل جنون البحث في ذهني وعاودت النوم برقبة مائلة علي الوسادة حين جاءني طائف بحوار قديم غريب حول بعض الأصدقاء ، لست واثقا تماما ان كان قد دار بيني وبين زميلة العمل السابقة "صفاء" التي لم أرها منذ اكثر من عشرين عاما، أم بيني وبين كائن هلامي آخر لا أعرفه. سعدون السكري هاجر وفتحية شاكر انتحرت وبليغ حمدي مات وعادل الجيار تحول الي امرأة وما شأني بهذا كله؟ معك حق ، فكيف تبالي بضحاياك وقد خلت أحشاؤك من قلب ورحت أجري في صحراء شاسعة لابداية لها ولا نهاية. استبد بي الخوف حتي سقط شعر رأسي ووجدت نفسي أقفز من الفراش وأسارع الي الحمام فأقف تحت رشاش مياه يناير دون استخدام السخان سعيا إلي العودة الي حياة طبيعية بأفراحها وأحزانها ولكن دون خوف أو غموض. مم تخاف يا أخانا ومم تحذر وأنت غارق في لامبالاتك الصفرية بالكون والناس والأشياء، بينما تردد كدرويش مجذوب: الله اكبر الله اكبر وأعز وأجل مم أخاف وأحذر؟.. اني أسأل الله معجزة تفسر لي العلاقة بين الأسماء الأربعة التي جاءت في الحوار المبهم، وبين عجزي عن تذكر تلك المخلوقة الرقيقة ذات العينين الساهمتين التي أصبحت صورتها الغائمة المعالم تداهمني في الصحو والمنام، وتبدو نظراتها كما لو كانت تستنجد بي من أذي سوف يلحق بها لو لم أمد لها يد المساعدة والانقاذ. سهرت طويلا أفكر في جدوي انسياقي اللامعقول وراء حلم لامعني له وجدل مع مجهول أو مجهولة حول من مات ومن هاجر ومن تحول الي الجنس الآخر. في صحوة مباغتة غسلت عقلي من تلك الخزعبلات بإرادة قوية وقمت من فوري الي دولاب الملابس فانتقيت حلة رمادية وكرافات فضية وتعطرت جيدا. بذلت جهدا فائقا للعثور علي رقم تليفون صفاء. زمالتها القديمة كانت تشوبها رغبة من جانبي تقابلها بلامبالاة صريحة من جانبها تصل بالتلميح الي درجة الرفض القاطع. سألتني ما الذي ذكرني بها فلم أستطع الاجابة لأنني لا أعرف كيف انبعثت فجأة من ركام ذكريات توهج الروح واشتعال الحيوية. ربما كانت هي صاحبة الحوار الغريب الذي لاشك قد مضي عليه أكثر من عشرين عاما. كانت تنظر الي بدهشة شديدة حين قالت لي: هكذا أنت دائما، تجري وراء من تبيعك وتغفل عمن تسعي اليك ومن انت بينهما؟ أنا التي أغفلتك فمن الأخري بربك؟ ماجده الكومي يا الهي!!! انها هي بالفعل.لقد تذكرتها الآن. أي مصادفة قدرية تلك التي جعلتني أضغط علي أزرة الهاتف لأطلب صفاء رغم طول فترة البعاد واختلاف أسباب الفراق، لكي تحل لي معضلتي العبثية التي كنت في غني عنها لولا اصراري وعنادي لأجل أمر كان من الممكن تجاهله تماما. رغم دهشتي لاتصالك الا أنه أسعدني كيف؟! بحثت عن رقم هاتفك في كل مكان حتي وجدته ، لكني ترددت في الاتصال خشية رد فعل سلبي متوقع من جانبك ولم كنت تريدين الاتصال بي؟ طمعا في خدمة من موقع عملك لتوظيف ابني العاطل رغم تفوقه وندرة تخصصه لك ماتريدين ، ولكن اخبريني بالله عليك أين أراضي ماجدة؟ كنت تبتعد عنها بإصرار كلما اقتربت منك حتي بدا لي أنها تتسول حبك وقد باعت الدنيا كلها من أجلك ، فلماذا تسأل اليوم عن أخبارها؟ الحق أنني لست أعرف السبب تماما..قولي انه ربما كان الفضول انتفضت واقفة في غضب وقد نسيت مطلبها.. تهملها أعواما ثم يدفعك الفضول وحده لمعرفة أحوالها؟! لم أكن أتصور أن هذا القدر من العبث بكمه وكيفه يمكن ان يسير حياتنا، فماجدة ذبعد عمر- تأتي الي في المنام بصورة غامضة تستدعي صفاء التي كدت انساها لأسألها في الحاح غير مبرر عن زميلة غابت عن ذاكرتي ملامحها رغم انها كانت تعشقني. لم تقولي لي شيئا عنها ماجدة شيعت جنازتها بالأمس