حين طالعت ديوان الشاعر اللبناني عقل العويط "إنجيل شخصي" لم أستطع العبور من العنوان إلي المتن؛ بأن أقلب الصفحة مستقبلا الكتابة، كما يفعل المرء عادة، إذ سرعان ما عدت إلي العنوان/ البيان/ "إنجيل شخصي"؛ بما يحمله هذا المبتدأ الموصوف بخبره، من مجاز يحيل إلي رحابة مسيحية دالة علي الحرية والتعدد، إذ أحالني هذا العنوان علي الفور إلي صورة شاعر متخفف ذهنيا من ثقل مركزية الثيوقراطية الرجعية التي نشهد تناميها الجحيمي في العقود العربية الأخيرة، بل وفي العالم. هذا التقدم إلي الوراء الذي تمارسه الأديان السماوية الثلاثة منذ نهاية الحرب الباردة. تقدم رجعي قوامه إعادة إنتاج الأديان كلها شكليّا، بعد التخلص من جوهرها الإنساني؛ ومن أجمل ما فيها، في طريقها إلي القرن الحادي والعشرين. هذا التنامي الثيوقراطي الرجعي الذي حمّل الأديان ما ليس منها أبدا، وما لا يقر به جوهرها.. يختزل رحابة الأديان، ويخصي فحولتها الكامنة في عدم خشيتها من الاختلاف، وقبول الآخر والانتعاش بإعمال العقل، ومحبة الجمال، لا تحريمه أو تجريمة.. وقبول الخطأ، بل غفرانه. لم أستطع تجاوز كل هذه المعاني التي أثارها في ذهني عنوان "إنجيل شخصي" لديوان الشاعر عقل العويط. وبهذا المعني أيضا لم أستطع منع نفسي إطلاقا من تصور ما الذي كان يمكن أن يحدث لي أو لأي شاعر آخر، إذا هو وضع لديوانه الشعري عنوانا مجازيا بالطبع "قرآن شخصي"؟! أقل ما في الأمر أن يقع الديوان وصاحبه ضحية سوء الفهم والمصادرة. هل لما سقته الآن من علاقة بهذا "الكتاب" الشعري الذي بين يدينا الآن؟ نعم. فالعنوان هو المفتاح، هو "العتبة" التي نلج منها إلي النص. والعتبة هنا تحيلنا- حسب التمهيد السابق-إلي صورة شاعر، قرر أن يحمل أدواته وينطلق إلي حقله الشعري ليحرث ويزرع ويقتلع، ويبستن، وينثر، غير خائف من دينه.. غير خائف من الوقوع ضحية التباس جهل غبي. العنوان إذن يعلي من شأن تلك العلاقة المدهشة التي تحيل إلي حداثة مسيحية، مرفوعة عاليا، علي الغلاف. ولا يعني ما تقدم أننا أمام نص مسيحي بالمعني الديني، فالكتابة لهذا السبب الحر نفسه أبعد ما تكون عن ذلك، بل هي كتابة مشحونة بالأسئلة، ولا تملك أجوبة لكثير مما تحمله من رؤي، ولا تعترف باليقين.. "اليقين" هنا، في "إنجيل شخصي" في أحسن أحواله مفردة لغوية غامضة الدلالة، غائمة بلا يقين.. "يقين للنفي لا يقين للإيجاب". إذن التحرر الكامن في العنوان لا يعني سوي وعد من الشاعر بكتابة حرة، وطاقة تعبيرية تصل إلي حد "الهذيان". هو نفسه الشاعر لن يتركنا كثيرا حتي يفسر لنا مراده، مقصده، مكمن "إنجيله" الشخصي، "هذا هو إنجيل القصائد- وثمة جهنم ولا سماء. وهذا هو شعوري لأحظي بما ليس له انتهاء". بِنية النص الشعري وفي "إنجيل شخصي"، نحن أمام بنية كلية مدوّرة، لكنها لا تصنع حلقة مكتملة، أي هي دائرة ناقصة كحدوة حصان، قطباها غير متصلين. فهي كالشعر نفسه لا تنشد الكمال، بل تعود إلي حيث نقطة البدء؛ فيكون كلُّ بدء انتهاءً وكلُّ انتهاء بدءًا جديدًا. أي يمكن القول إننا إزاء رحم رمزي غير مكتمل. هذا الرحم الرمزي غير المكتمل يوازي عدم الخصوبة، يوازي العقم والخراب الذي أصاب العالم وجحيمه داخل الديوان. حتي أن الشاعر أيضا يؤكد علي البنية نفسها في طريقة ثبت تواريخ صدور أعماله في آخر الديوان، حين يرتبها نزولا من الأحدث إلي الأقدم. ونحن عادة ما نضعها من الأقدم إلي الأحدث، والمستقبلي منها يكون أسفل القائمة، هو يضعه أعلاها؛ ثمة إيماءة حتي النهاية إلي هذه البنية المختلفة، أي أن الماضي هناك في مكانه البعيد، والزمن في حالة صعود. وهذا "الكتاب" الشعري مكون من أربع حركات، أو أبواب شعرية؛ سمها ما شئت، (I- الخاتمة "مانيفست لآخر الكون". II- صياد الغيم. III- الديوان الناقص. IV- بداية "من مانيفست لأول الكون".). ربما يتضح الآن ما قصدت به أن البداية هي النهاية بالعودة إليها عكسيا في الحدوة/ الدائرة/ الرحم المنقوص.. لتصبح بداية الكتاب "خاتمة"، ونهايته "بداية". "شرط الابتداء أن يقوّض الممالك فوق المعني، وشرطه أن يكسر المبتدأ لإعلان الانتهاء". وتحتوي الحركتان الرئيسيتان في المنتصف (II- صياد الغيم. وIII- الديوان الناقص) كل قصائد الديوان، هما متن الشعر فيه. وخاتمته/ البداية، وبدايته/ الخاتمة، هما الإطار المفاهيمي لعالم النص، ورؤاه الشعرية وفيهما تكثيف لصورة جحيمية العالم. هما بيان وِجْهةِ الشعر ومداها؛ أو يمكن القول إن "مانيفست" الخاتمة/ البدء، و"مانيفست" البدء/ الخاتمة، هما "بيانان"، إطاران إيديولوجيان، دورهما الإيجابي في رأيي أنهما حملا عن المتن الشعري، عبء الذهنية، وحمولة النص الفلسفية. هما إذن "مانيفستان" حارسان للشعرية الصافية الكامنة في الحركتين الكبريين اللتين بينهما، وهما حركتا الشعر الحاويتان لكل فعله وسكونه في هذا "الكتاب". تحليل النص وثيماته الحركة الرئيسية الأولي، بعنوان "صيّاد الغيم": تحتوي علي خمسة وأربعين نصا. والحركة الرئيسية الثانية، بعنوان "الديوان الناقص" تحتوي علي ستة وعشرين نصا. عناوين القصائد كلها مكونة من مفردة واحدة. وفي ذلك نوع من الإختزال اللغوي يضمر شعورا داخليا باللاجدوي، أو السأم. ربما يشذ عن هذا خمسة أو ستة عناوين علي الأكثر، في الديوان كله، مكونة من كلمتين رديفتين، سواء بالإضافة مثل "امتناع التسميات" أو بالعطف مثل "الكمان والعازف"، أو من جملة مثل "تحت قمر عيشك الثاني". ولم لا؟ فالكلمات "تستبد بكليمها"، و"الكليم" من المفردات الدالة التي تنتاب بعض قصائد "صياد الغيم"، وإن بتبديات مختلفة، ليس من بينها الإحالة النبوية. "الكليم" وفق هذا السياق مفردة ذات دلالة أقرب إلي "المريد" الصوفي، منها إلي الموسويّة }نسبة إلي "موسي" النبي{؛ فالشاعر مثلا، بعد أن يوثق العُري بينه وبينها، يقول مخاطبا "شجرة الكلمة" التي هي جسد أيضا- هي الشجرة المرأة "كي أصير كليمك أحظي بحواس الحافات وغريزة الحفيف/ كي أفهم المخاطبات ينبغي لكِ أن تصابي بسكرة الله وينبغي لي أن أصاب بكِ كي تحفظيني". كما أن الشاعر يراجع روحيا ومعرفيا، في شذرات من قصائد عديدة، معني "الكلمة"، ويسائل "الكلمات" صاحبة الظنون، ويمنحها عنوانا لقصيدة.. و"يتكلم" في قصائد أخري مع القارئ، أو إلي مستمع افتراضي، يكون جمعا أحيانا، وفردا أحيانا أخري "خذوا.. هاكم.. تغافلون.. أرتديكِ وأخلعكِ.." إلخ. وفي حالات أخري يشير إلي نفسه بضمير المخاطب "أنت"، أو بضمير الغائب "هو" أحيانا أخري.. وكل هذه تخريجات جمالية تعمل علي تخفيف غنائية القصائد، إنها الأقنعة التي تتواري خلفها الذات. نحن في قصائد "إنجيل شخصي" لا نسمع ترديدا غنائيا كثيرا لصوت الشاعر، أو صوت الذات الشاعرة. فهو صاحب خشبة مسرح، يستدعي للصعود إليها من يريده من الشخصيات لتلعب أدوارها في بنية النص، بعد تجريدها من دلالتها الواقعية المعهودة، وفلسفة وجودها المستقر. وهنا تتواءم اللغة مع ذلك؛ حين تتخذ منحًي تركيبيا يؤكد تجريد الصوت/ الشخصية، عبر صيغة "التنكير"؛ ليكون الصوت حر الدلالة، مخلصا لما يريد الشاعر منه القيام به بعيدا عن حمولته الأيديولوجية. ومن هذه الشخصيات لديه صوت "راء" يري، وصوت "مسيح" ثمّ مسيح بدون "أل". وحين تتبدي الذات صريحة تصبح هي مسرح الصراع الدائم داخليا، أو خارجيا مع العدم، "تضربه بيد الشعر"، وتقيم معه حوارًا. فالوهم متمكن من الذات، فهو "أسراب من ذئاب تجوع" وتقيم فيها، فيما العدم لا ينام، ولا يخاف "وأنت لا تخاف أيها العدم، وأنت لا خوف يأكلك ولا ندم" ("ثأر" ص ص 29، 31)، ثمة ذات واقعة في "سوء فهم" ولا تريد أن تضع له حدا، تصنع "أشكالا وزوارق لغيوم الكلمات". وفي قصائد أخري نجد أنفسنا بإزاء ذات خارجة مشحوذة من خلف الظلال، ذات ببصيرة أكثر وضوحا ويقينا حتي في طرح السؤال. ومن أكثر القصائد دلالة علي هذا، قصيدة "تحت قمر عيشكَ الثاني" التي يصدّرها الشاعر بإهداء إلي الجرّاح العربي سمير قسيس. وهي قصيدة في العتاب أو الإخوانيات، من مقطعين طويلين، وفي مطلعها "لو سألتك وأنا لا أسأل هل تستحق وجوه القتلة وأسماؤهم أن يُراق لك دمٌ علي طريق أن ينزل ملاك من شغف السماء ليحملك علي جناحين وأن يرن صوتك في هواء ولا أراك؟". كم علامة ترقيم تحتاجها الفقرة المقتبَسة هنا؛ لتوجيه الدلالة وتنظيم النفَس؟ وإن كان التدفق الروحي الجياش البادي في هذا النص يغفر لها ذلك، إلا أن "الكتابة" عند عقل العويط لا تعترف عادة إلا بعلامة الإستفهام، ونقطة نهاية الكلام التام، من بين كل علامات الترقيم. هل لذلك معني؟ نعم، خصوصا حين يكون الشاعر علي دراية باللغة. ومن الثيمات التي تعمل بصفة كلية داخل الديوان، ثيمة التوالد الذاتي المقترنة بكثير من مفردات الطبيعة. وهي ثيمة داروينية لا تحيل إلي "عنقاء" علي أية حال، ولا تستدعي الأسطرة المعهودة لصورة العنقاء. كما أن مفردات الطبيعة حاضرة بكثافة في أغلب القصائد، مثل الأشجار، الثمار، الخضرة، الغيم، القمر، النبع، الظلال، الشمس، النهار، الغبار.. بالتوازي مع مفردات العدم، الجحيم، الموت، الفناء.. إلخ وبتنوع وكثرة. وهي مفردات تحيل في إستخدامها الشعري إلي انجذاب ديونسيوسي في صراع ومواجهة مع الحصافة الأبوللونية الحكيمة.