كتاب (الوصايا في عشق النساء) بجزئيه الأول والثاني، من إصدارات مكتبة الأسرة، يحمل ملامح عامة في أعمال صاحبه الشاعر أحمد الشهاوي ، ونذكر هنا ملمحين فقط لتفاعلهما مع كلامنا عن العنوان: الأول: أنك دائماً أمام لغة مقطرة، تشعر عناية كاتبها بها، وإنه لحريص على كل كلمة حرص الجواهرجي على الدر واليواقيت، وفي ذلك إشارة إلى شعور كبير (لا يحسد عليه) بقيمة ما يكتب. الثاني: هو اعتقاد بالحكمة والفهم النافذ المتبصر، وهو ما يتجلى في عنوانه (الوصايا في عشق النساء). قال في كتابه (أحوال العاشق) بإقدام (تهوُّر) عُطيلي: “صرتُ خبيراً بشئوني”. لكِ الله يا ديدمونة. وتوحي كلمة الوصايا بنصائح وإرشادات أب أو أخ أكبر أو مُعَلم، فتكون رسائل من الخبير الذي يعرف كافة جميع كل الأشياء، هذا العنوان يقول: “لقد خبرنا واستوعبنا وهاكم الخلاصة”، وهو يفترض في القراء أنهم ينتظرون نصائحه، بمنطق فلسفي عميق هو (انصحني يا معلم). للأنا ثلاث حالات؛ الوالد والطفل والراشد. الأنا الوالد هي تلك التي تظهر من طبيب مثلاً أمام مريض يصف له علاجاً، (خصوصاً اللبوس، ويقال التحاميل) وذلك الطبيب نفسه سيطلب (بالأنا الطفل) من رجل أو عيل عند ناصية الشارع أن يدله على عنوان يجهله وينصت إليه كطفل يتعلم أيضاً، أما الأنا الراشد فتكون من ند لند. الأنا الطفل سيطلب نصائح أحمد الشهاوي (وصاياه، تحاميله) في عشق النساء، (قل لي يا معلم). الأنا الوالد إذن هي تلك التي يتحدث بها أستاذ إلى تلميذ، وكبير إلى صغير، وشيخ إلى مريد، وعنوان مثل (الوصايا في عشق النساء) إلينا، هذا العنوان يفترض أن كل الناس، وكل واحد من الناس أنا طفل وكفى. هذا عنوان يخاطب الثلث فقط من حالات الأنا. والثلثان الباقيان عيب خلقي، ورم قام هذا العنوان باستئصاله. وكلمة الوصايا _مُعَرَّفة بالألف واللام_ تحيل إلى الوصايا العشر، والتي تضم مبادئ توارثها كثير من الناس بإعجاب وإجلال، وإن بدت مع ذلك كأنها ما وضعت إلا لتنتهك. الوصايا العشر قواعد واجبة النفاذ لدى المعتقدين فيها، من التجديف (يعني مش كويس) أن يكون هناك جدل ونِدِّية في التعامل معها. وهناك حديث شريف “أوصيكم بالنساء خيراً...”، وطبيعي من نبي مرسل أن يوصي أتباعه. ورفض بوذا أن يكون مرسلاً من أحد أو متحدثاً باسم إله، إلا أن أتباعه أبوا إلا أن يكون لدعوته نصوص ككل الديانات، فكتبوا أقواله بعد موته بوقت طويل، وقلَّ إن لم ينعدم وجود دين بلا كتاب أو كتب مقدسة تحوي النصح والإرشاد والمواعظ (الوصايا)، حتى الدين الجديد، دين الفيسبوك، ظهرت فيه كتب مقدسة تعرف الفيسبوكيين، وتفهمهم، لتخرجهم من الظلمات إلى النور. ولأن خطاب الدين يقتضي أنا والد؛ تجد نصوصاً دينية في الصفحات الأولي من كتاب (الوصايا...)، العلاقة واضحة في عقل المرسل الأكثر دراية إلى المستقبل المنتظر للأوامر والنواهي والفروض والطقوس، فهذا العنوان يعتقد أن لديه ما يوصي به _كالخطاب الديني_ مما يعود بالنفع لصلاح الأحوال ويجب اتباعه، بهدف الإخراج من الظلمات للنور. وللشاعر عناوين أخرى تسير على النهج نفسه من قبيل (أحاديث الشهاوي) في أسفار أول وثان وثالث (أسفار جمع سِفْر، وسَفَر، والسِّفر يحيل للكتاب المقدس كأشهر الأسفار، والسَّفر يحيل للمجلس الأعلى للثقافة كأشهر المسفرين). وعنوان مثل (أحوال العاشق) بألف ولام التعريف جدير بالضم لتلك الفئة (الإيمانية) من العناوين، لما ينطوي عليه من إشارة إلى الاقتناع باقتناص الغاية أي منتهى ما في حال كل عاشق، فقد أحاط علماً بما لم يحط به أحد، كالإله الذي أوحى الأسفار إلى أنبيائه. لا يمكننا إنكار الطبيعة البشرية، حتى في أعم حالتها، كدخول بيت الراحة، واستعمال شطاف بدرجة ضغط متوازنة، ومناديل تواليت (ناعمة وقوية وكلها حنية)، ومثل ذلك هناك ميل بشري عام لبسط النفوذ على الأشياء بالتملك، وعلى الآخرين بتوجيههم ونصحهم بما يتعين عليهم فعله. وما يكاد أحد (البني آدمين) يصل إلى اقتناع ما حتى يشعر بوجوب أن يتبعه الآخرون، فيبدأ في بث وصاياه بكافة الطرق المنطوقة والمكتوبة والملوخية، كما لا يكاد أحد يشعر بضرورة الدخول للمرحاض، حتى يدخل دورة المياه. وعبْر تاريخه العظيم الغريب، لم يستطع الإنسان التخلص من عادات كثيرة، كإدمان تعاطي المياه، والاضطرار للجلوس في وضع شاذ بالكنيف، والتوسل لبسط نفوذه ومد وجوده خارج حدود جسده، وإقامة الحضارة، بوسائل عديدة منها القوة والكلام والكتابة والسحر، والفن، وما يسمى الحداثة، قائداً وهادياً، وداعياً لاتباع نصحه (ووصاياه)، وليس قليلاً مستغلاً؛ لنفعه ومسرته. ومثل (مبدأ اللذة) لدى فرويد تجد مبدأ حض أو دافع السيطرة في وجهة نظر أدلر ومنهجه المعروف بعلم النفس الفردي (individual psychology_ حِتة انجليزي عشان كل واحد وعلامه لامؤاخذة). ويقول أوسكار وايلد على لسان أحد شخوصه الروائية: “ما أشبه الخضوع لأفكار الغير بالعبودية، وما أشبه إخضاع الغير لأفكارنا بالاستعباد، إن التأثير في الغير يكسب الإنسان إحساساً بالقوة لا نظير له...”. اسم الله عليك يا يا ابني (وأنا أول ما شفت أوسكار قلت له: انت كويس يا أوسكار، بس ابعد عني لاتشبهني)، وإن لم تخني الذاكرة، فهذا الكلام (الحلو) ورد برواية أوسكار صورة دوريان جراي. وقد تكون الوصايا من ميت، وهي حينئذ واجبة التنفيذ في معظم الثقافات، إنها أوامر أخيرة، قد تتخذ شكل الرجاء، ممن يستغل فاجعة موته (أو القوة الشرسة لما سوف يورث)؛ ليمد تأثيره بعد زواله فيمن يهزهم تجسيده هو نفسه لمصيرهم المحتوم، وقد يصل الأمر لحد شروط معينة للتوريث. يمكن النظر للتراث كوصايا ميت عزيز. وفي عنوان (الوصايا في عشق النساء) إشارة تراثية، وتزخر كتب التراث بالوصايا، ابن خلدون يوصي معلمي الغلمان، يوصي الجاحظ الكُتاب، وأُم (أُمامة بنت الحارث) توصي ابنتها من أجل عريسها المحظوظ (يمكن اعتبار وصايا الشهاوي امتداداً لهذه الأم الطيبة، واللافت عدم وجود أب يوصي ابنه في هذا الصدد، خاصة ليلة الدخلة؛ قرص فياجرا يغني عن كتاب وصايا). وأوصى الصِّديق أبو بكر قائده أسامةَ بن زيد في غزوته إلى تخوم الروم، وأوصى بعضُ الفقهاء بعضَ الولاة والخلفاء، وما كان ذلك إلا لأنه الأكثر عِلماً، هو هنا في موقف الأعلى، بينما الوالي أو الخليفة يتعلم منه. عنوان (الوصايا في عشق النساء) عقلاً يحيل إلى عناوين مثل عنوان كتاب ابن خلدون ذي المقدمة الشهيرة (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، ومثل ذلك الوافي، والكامل، والناجز، ونهاية الأرب، وإغاثة الملهوف، والبداية والنهاية، وكشف الغُمَّة، وإماطة اللثام، والفتوحات المكية، وامتداداً لذلك تجد الآن (فيما اشتهر بوصفه كتب الأرصفة) الصارم البتار في ذكر الجنة والنار، وفصل الخطاب في مسألة الحجاب، وتجد عناوين بعض الأعمدة الصحفية مثل حقائق، وخطوط فاصلة، وفي الصميم، وآخر كلام ...إلخ. عنونة عمل أدبي تختلف عن عنونة أي كتاب آخر، سياسي مثلاً، أو كتاب (سبوبة) في مكتبة الأسرة به تجميع لعدد من المقالات الصحفية، عنونة عمل أدبي تختلف أيضاً عن عنونة أو تسمية مقال أو عمود صحفي (سبوبة برضه، وساعات سُبَّة)، تلك الأعمال جميعاً تختلف في توجهها عن أي مُصَنَّف أدبي مكتوب، أو مصنف فني آخر كفيلم سينما، أو مسلسل تليفزيون، أحياناً، وفي السينما على وجه خاص، يفرض العامل الاقتصادي نفسه (الفلوس يا ابني)، وأمر كهذا أوضح من أن يحتاج أمثلة، وإن يكن العامل الترويجي (قُلْ الإعلامي أو الدعائي) لا يغيب دائماً عن أذهان الأدباء ممن يبحثون عن عناوين ملفتة، أو مستفزة، (خلينا نقول متهافتة). تكشف عناوين الأعمال عن عقل كل من مرسل ومستقبل الرسالة الفنية أو الإعلامية، تكشف عن روح العصر، انظر لموجة العناوين الفظة، قليلة الأدب لكثير من الكتب التي يقال لها ساخرة، ومثلها كثير من الروايات، سواء من ناحية البناء، أو من ناحية المعنى، (مثلاً واحد يقوللك، طظ فيكم، واحد يكتب لك نقط بعديها كلمة حمرا، ومالكش حل غير تكتب مكان النقط آسفاً كلمة “ط .... ” ومن غير خشى ولا حيا؛ عشان الميل الإنساني في الإدراك لتكملة المعنى الناقص، كتكملة الصورة الناقصة، واللي عايز مزيد من البحث ف النقطة دي يرجع لمبادئ مدرسة أندرلخت الفلسفية، ودي غير مدرسة التوفيقية الثانوية بنات). دراسة واحدة لعناوين موسم سينمائي واحد (أو كاتب واحد) تكفي كي تقول الكثير، ويشي عنوان كل عمل أدبي بالعقل الذي صاغه، هناك عنوان يوضع ليشرح النص، وآخر ليعلق عليه، وآخر ليفسرَه النصُّ أو يثبته، وغير ذلك مما لا يتسع المقام للإفاضة فيه وإن استحق وقفة ما، (اللي يعوزني أقول في اللي بيكتبه، أو حد تاعبه يحبني أظبطهوله، يدفع بالفوسكو_ عملة الفيسبوك). وتختلف عنونة عمل أدبي عن تسمية طفل، فالعمل يكتمل قبل إطلاقه في الناس، بينما يجوز أن يسمى الأبوان طفلهما (لطيف) ويكبر ليكون رئيسك في العمل، وقد يُسَمَّى (صادق) ويكبر ليكون وزيراً، مع ذلك قد لا تبلغ تسمية العمل الأدبي ما تبلغه المصادفة في تسمية إنسان، فاسم ك(صدام حسين) مثلاً يقيم بمعانيه مع شخصية وتاريخ صاحبه جدلاً ثرياً. وقد يُسَمَّى الطفل باسم غير ذي معنى معروف، مع ذلك لا تخلو أسماء من هذا القبيل من دلالة ما، كالهوية الدينية أو الإثنية، (أنا شخصياً أول ما أسمع اسم جرجس أعرف إنه مسيحي على طول، وأول ما اسمع حد كوهين اعرف إنه يهودي، عادي يعني، كلنا كده). وهناك نقاد (منهم الدكتور محمد عبد المطلب، ولا أعرف إن كان منهم الدكتور جابر عصفور أم لا) يتحدثون دائماً عن العنوان كعتبة للنص، أو نافذة تأويل، ويبدأون دراساتهم بالعنوان، وربما استهلك العنوان معظم الدراسة، مع الرجوع إليه كلما سنحت الفرصة. السؤال الآن (ومن هنا ورايح) هل العنوان يافطة، بوابة، جزء من النص، أم متسلط عليه هو والقارئ؟!، من أين ينبثق العنوان؟!، من يضع عنوان العمل الأدبي؟!، هل هو الكاتب بما هو فنان، أم هو الكاتب بما هو شخص؟، ما القدر الذي يساهم به كل من العناصر داخل النص أو المحيطة به في اختيار اسم (المولود)؟. (الإجابات النموذجية/الملوخية في نوت قادم. انتظرونا). عنوان (الوصايا في عشق النساء) يُسَمِّي العمل فقط، لا يقيم جدلاً مع النص أو المتلقي، إنه مغلق، أحادي الاتجاه، وغير أنه أنا والد موجه إلى أنا المتلقي الطفل، فلم يبلغ ما قد تبلغه مصادفة تسمية مولود لم يتشكل بعد، يشير هذا القول إلى أن العمل الأدبي ابن (نتاج) لكاتبه الذي سيبتسم ببرنامج تلفزيوني محتاراً في تفضيل أحد أعماله (فكلهم أبنائي). تُعبِّر طريقة (الوصايا....) في العنونة عن فكر إبداعي يقدم اقتناعات المبدع مالك الحقيقة (الأستاذ، العبقرينو) إلى المتلقي (التلميذ، الغلبانينو)، متجاوزاً حيرة ما قبل التوصل إلى تلك الاقتناعات، قافزاً فوق التوتر والبحث إلى الركون والركود، بما في ذلك ما يخص القيم الفنية/الإبداعية. عنونة عمل أدبي ليست مجرد تسمية، إنها اشتباك للكاتب مع النص، ثُم للنص مع المتلقي، وهذا يتطلب أن يتحقق في النص تكافؤ ومن ثم تفاعل (كيميائي، نووي) مع القارئ، فلا يكون ذلك النص ابنا لكاتبه بل ربما العكس، ولا يكون فاعلاً مطلقاً (وساعات قليل الأدب) في قارئه بما يحمل من وصايا وإرشادات مثلاً عن الطريقة المُثلى للصداقة أو الوطنية، أو في (عشق النساء) كما يشير عنوان الشهاوي، وإنما هو متورط متواضع في حيرة نبيلة تتعدى النصح إلى ما هو أعمق وأكثر نبلاً وتأثيراً وتقديراً للقارئ. وعلى ذلك؛ ربما تناقض اثنان في الرؤية انطلاقاً من نص أدبي واحد، وهذا غير ممكن مع نص ديني كالوصايا العشر، ولا مع عقل عنوان لا ملة له مثل (الوصايا في عشق النساء)، فبصرف النظر عن الموضوع، هذا عنوان لا يقبل التأويل، إنه يقفل في وجهك سبيل الاجتهاد، عقل هذا العنوان هو وجه آخر من عقل سلفي متشدد نفى نصر حامد أبو زيد، ومنع (أولاد حارتنا) من التداول، وجعل الأسواق تخلو من بطيخة واحدة من أبو بذر عريض بتاع زمان. مواضيع ذات صلة 1. محمد طعيمة يكتب: سرطنة سياسية 2. محمد منير يكتب :البديل كما علمتني التجربة 3. “هيئة الأمر بالمعروف في السعودية”تأمر بتغطية عيون النساء المثيرة للفتنة 4. حصاد نصف قرن.. العالم تحت قيادة النساء 5. رضوى داود : “علامات موت”