ذات مرة نصحني أحد القراء أن أنحرف بمركبتي بعيداً عن طريق السياسة. قال إنه يحترم كتابتي الأدبية وإن الرأي السياسي الذي أكتبه يهدد هذا الاحترام، أو شيئاً من هذا القبيل. كان الإيحاء أنني من الشخصيات التي ضلت الطريق، وبما أن الأمل في تصويب وجهتي ضعيف فالأفضل أن أصمت وأركز فيما أعرفه. أتذكر لأن هذا الكلام أزعجني كما تزعجني كل ردود الفعل السلبية. لكنني أتذكر بالأكثر لأنني سألت نفسي يومها: هل يمكن أن يكون الأدب مقطوع الصلة بالسياسة؟ وبدا لي أن هناك جواباً من اثنين: إما أن كتابتي الأدبية فعلاً خالية تماماً من أي موقف سياسي، أو أن القارئ الذي يحترمها لا يقرأ فيها سياسة كالتي يقرؤها في مقال الرأي. فيما بعد، لفت نظري أن أحد الكتاب يبرر حصوله علي جائزة من جهة تتعارض توجهاتها مع مبادئه المعلنة بأن السياسة شيء والثقافة شيء آخرة وكان هذا يحدث بعد أربع سنين كاملة من الفرجة علي المثقفين وهم يقحمون أنفسهم علي رقصة التحول التاريخي ليستعرضوا أو يستفيدوا فيبدو أنهم يقودون مركبات الأمة علي طريق التضحية والضمير، بينما هم في الحقيقة لا واضحون في أخلاقهم ولا معنيون بغير أوضاعهم الشخصية. والأهم قدرتهم - حتي والقيامة تقوم- علي ألا يغامروا برأي يهدد احترام أحد لكتابتهم الأدبية. يخطر لي الآن أن الرأي الصريح أقل تسيّساً في الحقيقة من النص الأدبي. يخطر لي أن تبني الشعار أو إعلان الموقف أمر لحظي وغير ذي ثقل بالمقارنة مع طريقة التعامل مع اللغة وتعيين القيمة داخل النص - واللذين يمكن اختبارهما بالقياس علي الرجعية والتقدمية، مثلاً - وأن الحقيقة التي يبحث عنها وعي كاتب ما تظل حقيقة سياسية وإن لم يتعامل البحث مع موضوعات ذات صلة بالشأن العام. يخطر لي أيضاً أن السؤال السياسي بالنسبة للكاتب ليس سؤالاً عمن يرشح في الانتخابات ولا ما يقول عن وزير الثقافة أو رئيس الجمهورية ولا مدي اندماجه في تمثيل إما تراجيديا المعارض الملتزم بمظلومية ضحايا النظام أو ملحمة الموالي الحريص علي هوية الدولة إن لم يكن كوميديا خدمة المجتمع عبر أجهزته الشرعية، بقدر ما هو سؤال عن معني المداخلة النقدية التي تنطوي عليها كتابته وعن استعداده للاستغناء عن المكاسب من أجل الاستقلال عن السلطة سواء كانت رسمية ومؤسسية أو مترتبة علي الولاء لجماعة يُفترض أن ينتمي إليهاة ليس لأن الاستغناء قيمة في حد ذاته ولا لأن الكاتب مصلح اجتماعي، فقط لأن الكتابة أهم. أما الرأي الصريح في سياق حوار واسع كان المنتظر أن يولّده التحول التاريخي فلا أعرف ما الذي حال دون الاشتباك معه بما هو أفيد من السباب والتذاكي أو العته الصرف - إن لم يكن بإسكات من يتكلم للأبد عن طريق نقر كلمة Block علي مواقع التواصل - خاصة وأنه تبين أن الكلام مقتصر علي دائرة ضيقة من أصحاب الاهتمامات المتشابهة غير المؤثرين إجمالاً، والمفترض أنهم متحمسون للنقاش - علي عكس نظرائهم الأشهر والأشطر في توظيف الأحداث لخدمة أوضاعهم الاجتماعية - لأنهم معنيون فعلاً بما يحدث حولهم. مع الوقت سمعت نصيحة القارئ فعلاً ليس تحسباً للتأثير بالسلب علي من يحترم كتابتي (والتي كان الاهتمام بها يزول وسط هوس التناحر التجاري كذلك) ولكن لأنني أحسست بلا جدوي التفاعل مع مواقف ثابتة ثبات العفن المتحجر حتي - وبالأخص - لدي جيل الثورة من الشباب المنتَظَر أن يغيرهم الواقع ويغيروه، والمفترض بالتالي أن يكونوا مستعدين للأخذ والرد أو محاولة فهم ما يقال بنية صافية. كانت شخصيات أدبية في المهجر تأكل عيشاً علي قفا الكوارث الحادثة في أوطانها متذرعة بالمثاليات، وكانت شخصيات أدبية هنا تستعجل هذه الكوارث نفسها وتمتعض من أي إجراء قد يعوق حدوثها خوفاً علي بقرة مقدسة جديدة اسمها الديمقراطية، أو ربما توقاً إلي المهجر. كانت تقدم نفسها بوصفها الطرف المتضرر من منظومة لم تخدم أحداً في الواقع قدر ما خدمتها هي علي مر السنين. لكن شخصيات أخري كانت في الوقت نفسه تجتر الموروث الشمولي المتجذرة فيه كل هذه المصائب في معرض مناهضة المصائب نفسها. وكنت أنا أمام النصوص التي أدخر لها أعصابي لأمارس فيها كما أمارس نظرتي للعالم كل قناعاتي السياسية، آكل عيشي المتواضع تماماً كما كنت آكله من قبلة وأحاول أن أظل كاتباً دون أن أكون شخصية.