طبيعة الأدب التي يستلهم فيها المؤلف شخصياته من شخصيات حقيقية، تجعلنا جميعا "عرضة" لأن يكتب عنّا أحد الكتاب، لكن الفكرة هي: ماذا سيكتبون؟، وهل سيقولون لنا قبل أن يقوموا بنشر ما كتبوه؟، وما رد فعلنا إذا ما وجدنا أنفسنا، أو بعضا من حياتنا، أو ملامحنا، موجودة في أحد الكتب الأدبية؟ الروائي مكاوي سعيد يحكي لنا في كتابه "مقتنيات وسط البلد"، عن موقف تعرض له، بسبب كتابته عن شخصية أحد أصدقائه، في حلقة من ضمن حلقات الكتاب أسماها "مخ ع الزيرو"، وصف فيها صديقه بأنه يسير مبتسما متألقا بفتوة وبلطجة فاتحا ذراعيه كأن أسفل كل إبط خراجا، ويمشي علي الأرض بخيلاء، مفترضا أنه لا أحد علي وجه الأرض غيره.. وكأن كل كوارث الدنيا التي تحط علي رأسه رسائل بهجة، كما وصفه بأنه تسبب في مصيبة واحدة علي الأقل لكل واحد من أصدقائه ومعارفه. يقول مكاوي: "قبل أن أنشر هذه الحلقة بجريدة (البديل) قرأتها علي بطلها (هريدي)، وكنت قد استبدلت اسمه الحقيقي وأسميت بطل الحلقة (محمد بسطاوي)...بعد أن انتهيت من القراءة قال لي بدهشة: "هي الحلقة دي عن مين"؟ قلت له: "عنك يا هريدي هي مش عجباك..."! فاجأني بقوله: "مدام عني يبقي تكتب اسمي عليها"، وفعلا هذه من الحلقات المعدودة التي اسم البطل فيها هو اسمه الحقيقي، وبعد نشرها قابله بعض محدودي الموهبة في الأتيلييه، و"سخنوه" بأن يرفع قضية، لكنه - كما أخبرني بعد ذلك- رد عليهم بكل بساطة بأنني الوحيد الذي فهمته صح، ومخ ع الزيرو تعني مخ ملفوف في سوليفان، لم يستهلك مش زي مخكم يا غجر اللي فقد الصلاحية! "هريدي" أغوي مكاوي سعيد بالكتابة عنه، لما يتميز به من جنون وحب للحياة، فكتب دون أن يخشي من رد فعله، أو رد فعل أي ممن كتب عنهم، مستخدما أسماءهم الحقيقية، لأنه وقبل أن ينشر ما يكتب، يدفع للناس بما كتبه عنهم، ليقرأونه أولا. وإذا كان مكاوي سعيد قد استأذن "هريدي" قبل قيامه بنشر ما كتبه عنه، فإن الروائي جمال زكي مقار لم يفعل ذلك حينما اضطرته ظروف الكتابة إلي الاستعانة باسمين من أسماء أصدقائه، يحكي مقار قائلا: "أنا فيا حاجة غريبة جدا، اعتبر أن ما أعرفه عن الناس نوع من الأمانة، وأن نشرها والاستفادة منها لا يليق، وبالتالي عمري ما حاولت أستلهم تجربة حياة أحد من الأشخاص الذين أعرفهم معرفة مباشرة، سواء أكانوا هم من ائتمنوني علي أسرارهم، أو كنت قد سمعتها من الخارج، لكن الحقيقة أنني ارتكبت مرة وبالصدفة، هذا الخطأ، فقد يحدث أثناء الكتابة أن أطلق اسما علي أحد الشخصيات مشابها لاسم أحد أصدقائي، وقد حدث ذلك مع صديقين وشعرت أنهما لم يرضيا عن ذلك أو يرتاحا له، وقررت أن تكون تلك آخر مرة، رغم أن الشخصيتين التي استعرت اسم صديقي عليهما لم يكن فيهما أي نوع من السخرية، حتي أنني لم استأذن صديقي قبل نشر الرواية، لأنني وجدت أنني لم أكتب ما يهينهما شخصيا. ولم يستأذن الروائي حمدي أو جليل هو الآخر أي من الشخصيات الحقيقية التي استهلم منها بعض شخصيات رواياته، حتي وإن تدخل بعض الخيال في كتابتها، وهو ما أوقعه في مشاكل دفعت بعضًا ممن كتب عنهم إلي رمي كتابه أوتقطيعه، يقول أبو جليل: "ربما كان الاندفاع أو الفجاجة، هما ما دفعاني للكتابة من حولي، بطريقة جعلتهم يكتشفون أنني كتبت عنهم، ولهذا انزعجوا، خاصة من مجموعة "أسراب النمل". أبو جليل اعترف أنه طوال عمره يكتب عمن حوله، أقاربه، أصدقائه، زملائه، وأنه دائما ما كان يترقب ردود أفعالهم، وكان في الوقت نفسه يغتاظ إذا ما تضايق أحد مما كتبه عنه، لكنه ومع نضجه في الكتابة الأدبية، تعلم كيف يفعل ذلك بدون أن يثير الناس، بل بالشكل الذي يجعلهم يسعدون بما يكتب كما فعل مع الشاعر الراحل أسامة الدناصوري في رواية أسماها "الأيام العظيمة البلهاء". والكتابة عن شخصيات حقيقية لدي الروائي إبراهيم أصلان نوعان، نوع يقوم فيه فقط بالاتكاء علي ملمح أو آخر في الشخصيات الموجودة حوله في الحقيقة، مثل طريقة الكلام أو الحركة أو غيرها واستكمالها بالخيال، مما يجعل الشخصية الأدبية تحيا من خلال ردود فعلها داخل النص، وبهذا يبعد عن نقل حقيقة الشخصيات كما هي في الحقيقة إلي الورق فتتحول إلي جثث، ولكن الخيال لم يشفع لأصلان، لأن بعض أقاربه اكتشفوا وجودهم في بعض أعماله، وإن لم يؤد هذا الاكتشاف إلي مشاكل. أما النوع الآخر، ففيه يعتمد أصلان علي وقائع حقيقية وشخصيات بملامحها الحقيقية وأسمائها الحقيقية، كتلك الشخصيات التي وردت في كتابيه "خلوة الغلبان"، و"شيء من هذا القبيل"، ورغم ذلك لم يخبر أصلان هذه الشخصيات بأنه كتب عنهم، حتي وإن كان ذلك قد أثار بعض حفيظتهم، ولكنه رأي أنه تناولهم من جوانب إنسانية عميقة شفعت له عندهم، وأصلان يري في النهاية أن أي مادة موجودة في الدنيا من حق أي كاتب أن يتناولها، طالما أنه يبعد فيها عن التجريح أو الافتئات. القاصة سلوي بكر لم يحدث لها مشاكل من هذا النوع، حتي مع قيام بعض أصدقائها من التعرف علي أنفسهم داخل أعمالها، وتقول: "هذا بسبب أنني من الكتاب المحبين لشخوصهم الروائية، وأقدم دائما أسئلتهم عبر الرواية، ولذلك فإن الأصدقاء لا يغضبون، بالعكس يعتبرون أن ذلك شيئا "ظريف" جدا، والحقيقة أنني لا أعطهم فكرة مسبقة عن قيامي باستلهام شخصياتهم الحقيقية داخل الرواية أو القصة، لأن العمل في النهاية لا يتمحور كله حولهم، كما أنه مجرد استلهام، وهو يختلف بالطبع عن فكرة كتابة ما يحدث في الحقيقة، وأذكر أن الشاعر شعبان يوسف حكي لي حكاية تخص بعض عمال اليومية فاستلهمت بعضًا منها في إحدي قصصي. لم يحدث مع الروائي سعد القرش أن استلهم شخصية روائية من أحد أصدقائه أو معارفه، لكنه علي ما يبدو مهموم بذلك الموضوع علي المستوي الشخصي، فيقول: "في الفترة الأخيرة ألاحظ أن البعض يتجه نحو الاستسهال في الكتابة عن طريق تناول تجارب يسهل لأصدقائهم أن يكتشفوا أنها تكاد تكون جزءا من سيرة حياة الكتاب الذاتية، أو جزءا من حياة أصدقائه، حتي أن القارئ يستطيع أن يضع يده علي أحد شخصيات العمل الأدبي ويقول: هذا فلان وهذه فلانة، أي أن هذه الكتابة السهلة تحيل القارئ للشخص الأصلي، مما يجعل الأدب يخرج من كونه فنا ليكون نوعا من كتابة التلاسن، مثل الكتابة عن بعض السياسيين أو الرموز والمشاهير حتي ولو لم تذكر أسماؤهم الحقيقية.