صنع القرار السياسى ليست عملية سهلة، أو اعتيادية، ولا تأتى بصورة فجائية أو طارئة أو بصورة عبثية، بل تأتى بشكل منظم ومدروس، وتحتاج بالضرورة إلى تراكم خبرات ودراية ودراسة معمقة لكافة الجوانب المحيطة به، والظروف التى تكتنفه تفاديا لما قد يتسبب به من فوضى أو نتائج سلبية فى حال لم يؤسس على قواعد علمية وعملية قوية. وإذا كان صحيحا أن الغموض يكتنف معظم الخيارات السياسية، فإنه يجب دائما على الزعيم السياسى حدس النتائج المتوقعة للقرار والتى يجب تقويمها على أساس دوافع اتخاذ القرار وطبيعة الغرض المنشود والوسائل المتاحة والوضع الجديد الذى سيتمخض عنه وما ينتج عنه من رد فعل رافض أو محايد أو موافق. والزعيم السياسى الناجح هو من لديه رؤية صائبة لكافة الأبعاد التى تترتب على تنفيذ قراره فى حالتى النجاح أو الفشل، ودراية بالأوضاع السياسية الدقيقة الحساسة ومعرفة بالمؤثرات الداخلية والخارجية التى تساعد أو تسهم بل قد تتحكم فى توجيه القرار السياسى. كما يكون لديه الصبر على تحمل الشدائد بلا تردد الخائف ولا تهور المتحمس، وألا يستخف بآراء المعارضين لسياسته ولا يتخذ منهم موقفا معاديا وأن يكون ذا خبرة ودراية مستمدة من تجارب الماضى والواقع، كما يجب أن يكون قادرا على اختيار مستشاريه من المتخصصين الأكفاء حتى إذا كانوا أكثر منه علما وثقافة. ففى حوار خاطف سريع بين معاوية بن أبى سفيان وبين عمرو بن العاص . قال معاوية: ما بلغ من أمرك يا عمرو؟ قال عمرو: يا أمير المؤمنين، ما دخلت فى أمر إلا وخرجت منه. قال معاوية: لكنى ما دخلت فى أمر، وأردت الخروج منه. هذا الحوار يبين لنا نموذجين أو مدرستين من أشهر الزعماء السياسيين فى التاريخ الإسلامى وكيفية تعاملهم مع الأحداث السياسية ومنهجهم فى اتخاذ القرار فيها. فهذا عمرو بن العاص صاحب المدرسة الأولى يصف نفسه ومنهجه بأنه ما دخل فى أى أمر مهما كان شأنه إلا وخرج منه، وهذا يدل على قوة الثقة بالنفس. وحدة الذكاء، وحضور البديهة واليقظة التامة، وكلها من مقومات تلك الشخصية التى لا تبالى أى الأمور تنخرط فى آتونها، فهى مستعدة لاستدعاء كل طاقتها وكوامن قدراتها للخروج من المآزق المتوقعة والمروق من الكوارث والأزمات والإفلات الخاطف من أية نازلة أو نائبة فى أى وقت فى أى مكان وفى أى زمان. أما معاوية رضى الله عنه صاحب المدرسة الثانية فقد كان يتروى قبل اتخاذ أى قرار ويستشير، ويستأنس بآراء المقربين منه، وغير المقربين من أهل الرأى الموثوق بهم، فهو إذا دخل فى أمر (لا يريد) الخروج منه لأنه اختاره بإرادته الحرة الواعية، ولا يتم ذلك إلا بعد مشاورة واستئناس ودراسة وتقويم لكل الأخطار المتوقعة واستحضار كل البدائل والممكنات، ومن ثم يكون مطمئناً تماماً لأن هذا الاختيار هو أفضل وأنسب اختيار ولا يسد مسده أو ينوب عنه اختيار آخر، ومن ثم، فلا موجب ولا مدعاة للتفكير فى الانسحاب أو التراجع. ومع ذلك لا يمكن توقع ممارسة سياسية تمتلك كل عناصر النجاح فالفعل السياسى بالأساس فعل مغامر ولكنه غير مقامر، والمغامرة أو المقامرة مرتبطتان بعملية اتخاذ القرار، فإن كان القرار منطقيا تم وفق أسس علمية وبحث فى البدائل والخيارات تكون مغامرة ولو لم تكن النتيجة حتمية. أما المقامر فهو الذى يتحرك بعفوية دون تخطيط أو بقدر من التخطيط الذى لم يستوف كافة الجوانب. فالقرار السياسى مغامرة وليس مقامرة ولولا المغامرة ما نجح سياسى من قبل، إنها القدرة على اتخاذ قرار عندما يكون الموقف فيه نسبة من الغموض، لأن السياسة لا تعرف الضمانات وإنما هى مخاطر محسوبة.