أكد فضيلة الدكتور نظير عياد، مفتي الديار المصرية، أن الأديان السماوية لم تكن يومًا سببًا للصراع أو العنف، بل جاءت لترسيخ قيم المحبة والكرامة الإنسانية وبناء السلام بين البشر، مشددًا على أن ما يجمع الإنسانية أقوى بكثير مما يفرقها، وأن العالم اليوم في أمسّ الحاجة إلى خطاب ديني متوازن يعزز ثقافة الحوار والتعايش المشترك. جاء ذلك خلال كلمته في مؤتمر «معًا نحو مواجهة خطاب الكراهية»، الذي عُقد تحت رعاية الدكتور القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر ورئيس الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، وبمشاركة عدد من المؤسسات الدينية والفكرية.
الحوار ثقافة إنسانية في مواجهة سوء الاختلاف أوضح مفتي الديار المصرية أن انعقاد المؤتمر يعكس التزامًا حقيقيًا ببناء ثقافة الحوار في عالم تتصارع فيه أشكال متعددة من سوء الاختلاف، مؤكدًا أن الوجود المشترك في مثل هذه الفعاليات يمثل شاهدًا حيًا على قيم إنسانية أصيلة، تعلي من شأن المحبة وتفتح أبواب الأمل أمام كل من ينشد السلام.
وأشار إلى أن الرسالة الأساسية التي ينبغي ترسيخها هي أن العيش المشترك ليس خيارًا هامشيًا، بل ضرورة إنسانية تفرضها طبيعة المجتمعات الحديثة، لافتًا إلى أن الدين في جوهره الإلهي كان ولا يزال عنصرًا جامعًا بين البشر، منذ سيدنا آدم وحتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
تشويه الدين بين التوظيف الخاطئ والقراءة الجزئية وتناول الدكتور نظير عياد واقع الخطاب الديني المعاصر، مشيرًا إلى بروز اتجاهات متطرفة تتعامل مع النصوص الدينية تعاملاً مجتزأً، فتقوم بنزعها من سياقاتها واستخدامها كأدوات للإقصاء والعنف، وتحويلها إلى خطاب صدامي منغلق لا يعبر عن حقيقة الدين ولا عن مقاصده. كما حذر من اتجاه آخر لا يقل خطورة، يتعامل مع التراث الديني بصورة انتقائية، ويعمم أحكامًا جزئية ليقدّم الدين ذاته باعتباره سببًا للعنف والصراع، وهو توصيف – بحسب قوله – لا يعكس جوهر الدين الإلهي، بل يسهم في تشويهه وإدانته ظلمًا.
من الإدانة إلى البناء والعمل المشترك وأكد مفتي الديار المصرية أن المؤتمر لا يهدف إلى مجرد التذكير بأن الأديان قامت على المحبة، فذلك أمر راسخ في وجدان الضمير الإنساني، وإنما يسعى إلى الانتقال من مرحلة التشخيص والإدانة إلى مرحلة العمل والبناء، ومواجهة الدعوات التي تروج للانفلات والتسيب والانحلال تحت شعارات زائفة مثل «التنوير» أو «لغة العصر». وأوضح أن الدين الإلهي هو إقرار صريح بالكرامة الإنسانية، مستشهدًا بقوله تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة»، مشددًا على أن الاختلاف في الرأي لا يمثل مشكلة في حد ذاته، وإنما الخطر يكمن في الخطاب الذي يتجاوز الحدود المشروعة، ويؤسس للكراهية أو العنف.
التجربة النبوية نموذج للخطاب المتوازن وأشار الدكتور نظير عياد إلى أن التجربة النبوية جسّدت أرقى صور الخطاب المتوازن، حيث كانت الكلمة الصادقة الهادئة أداة للبناء والعمران، وليس للهدم أو الإقصاء، مؤكدًا أن هذا النموذج لا يزال صالحًا للاقتداء في مواجهة تحديات العصر.
دور دار الإفتاء في مواجهة خطاب الكراهية وأكد مفتي الديار المصرية أن دار الإفتاء المصرية أسست لمشروعات إنسانية متكاملة، تستهدف تحويل الخطاب الديني من الإدانة إلى البناء، مشددًا على أن مسؤولية مواجهة خطاب الكراهية لا تقع على عاتق جهة واحدة، بل هي مسؤولية مشتركة بين الفكر والإعلام والتشريع. ودعا إلى ترسيخ الوعي المجتمعي بخطورة خطاب الكراهية، بدعم من مؤسسات الدولة، وإلى إحياء قنوات الحوار بين المؤسسات الدينية المختلفة، بما يعزز ثقافة التعايش ويحمي المجتمعات من التطرف، مؤكدًا أن مواجهة التطرف لا تتحقق بالحلول الأمنية وحدها، وإنما عبر تعاون شامل بين جميع مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها المؤسسات الدينية، مع توظيف لغة العصر في مواجهة خطاب الكراهية، وضمان حق الإنسان في العبادة دون خوف.
مؤتمر متعدد الشركاء والرؤى وشهدت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر مشاركة عدد من القيادات الدينية والفكرية، من بينهم الدكتور القس أندريه زكي، وفضيلة الدكتور نظير عياد، وممثل قداسة البابا تواضروس الثاني نيافة الأنبا ميخائيل أسقف حلوان والمعصرة ورئيس دير الأنبا برسوم، إلى جانب الأستاذ وسيم حداد مدير برامج المنطقة العربية بمركز «كايسيد».
خطاب جامع لجسور التلاقي واختتم مفتي الديار المصرية كلمته بالتأكيد على أن عالم اليوم في حاجة ماسة إلى خطاب يجمع بين بني الإنسان جميعًا، ويفرض على الجميع أن يكونوا جسورًا للتلاقي لا جدرانًا للعزلة، انطلاقًا من مسؤولية أخلاقية وإنسانية مشتركة تجاه مستقبل المجتمعات.