في زحام المكاتب وتحت ضغط الملفات المتراكمة وتفاوت الطباع، يلمع نجم فئة نادرة من البشر، لا يصنعهم المنصب بل تصنعهم الفطرة، أولئك الذين امتلكوا سرّ القيادة لا عنوة ولا تسلّطًا، بل بحكمة لا تُشترى وخبرة لا تُباع. هم القادة الذين يملكون من المحبة ما يكفي لتسيير فريق عمل، ومن العدالة ما يكفي لإنصاف المختلفين، ومن الهدوء ما يكفي لإطفاء حرائق التوتر. لا يعملون بمزاج، ولا يقيسون الناس بمسطرة الحب والكره، لا يُقصون أحدًا ولا يصنّفون أحدًا، لأنهم ببساطة يفهمون أن العدالة ليست شعارًا يُرفع، بل سلوك يومي يُمارس، يرون في كل موظف مشروعًا للنجاح، وفي كل خلاف فرصة لفهم أعمق لا لسوء ظنّ أوسع. يُشبهون جراحًا يعرف موضع الألم ولا يزيده نزفًا، بل يتقن تضميده حتى يلتئم، لا يصرخون في وجه الخطأ، بل يُعلّمون كيف لا يتكرر، يجيدون فن إنقاذ الروح من الإحباط أكثر من إجادة ضبط التقارير والمواعيد. حضورهم في العمل ليس حضورًا إداريًا فقط، بل هو حضور يضبط الإيقاع الإنساني للعمل، كأنهم موسيقيون يملكون أذنًا حساسة لطبقات التعب. يعرفون متى يُربّت على كتف، ومتى يُمنح وقت، ومتى يُقال: لا بأس، دع الأمر عليّ، يمنحون الأمل دون مبالغة، وينثرون التفاؤل دون شعارات، لا يبتلعهم الروتين ولا تستهلكهم المناصب، يقودون العمل كما يقود العازف فرقته، كل آلة تُحترم، وكل صوت يجد مكانه في السيمفونية. لا يبحثون عن أضواء ولا يلهثون وراء التصفيق، لكن فرق العمل من حولهم تزدهر، تنضج، وتصبح قادرة على مواصلة السير حتى حين يغيبون، أو تنتهي خدمتهم يظلون باقون في القلوب. هؤلاء هم من نحتاجهم في كل مكان: في المصانع، في المؤسسات، في المدارس، في الإعلام، في الحياة كلها. ما أحوجنا إلى قيادات تُشبه الأمل، إلى من يجعل العمل مكانًا للحياة لا ساحة للنجاة فقط.