تظل أعمق مشكلات العرب مع إسرائيل نابعةً من الأفكار. من تصوُّراتنا عن العدوِّ وعن أنفسنا، والارتياح إلى مُدركَات عتيقة ومُضلّلة غالبًا، وتجاوزها الزمن بما أحدثه من تحوُّلات على الجانبين، وصبغ به نسيج الصراع وتوازناته، يعيشون الحاضر واضعين قدمًا فى المستقبل، فيما نغوص فى الماضى ولا نتجاسَرُ على التفكير خارجه، ناهيك عن أن نكون قادرين على تجاوزه بالمخيال الحى أو السلوك المُتّزن.. وعليه، يدور الاشتباك فى حقيقته بين زمنين مختلفين تمامًا، ونواجههم فى كلِّ حقبة بطبعةٍ باهتة اختبروها طويلاً، بينما لا يتوقفون عن مفاجأتنا وإدهاشنا بالمُستَجَدّ، ولمَّا نستوعب الجديد بعد. أحدثت النكبةُ الأُولى شرخًا عميقًا فى الوعى العام، ويبدو أن الجماهير ما تخطّتها تمامًا، بالرغم من كل ما توالى عليها لاحقًا، والدليل أنَّ قطاعًا مِنًّا ما يزال ينظرُ للصهاينة باعتبارهم مُجرَّد عصاباتٍ هُمّل، ويخلطون بين التلفيق فى النشأة، وافتراض أنَّ الكيانية الجامعة لهم ظلّت هَشَّةً كما كانت فى بادئ التأسيس، وأنهم على حال التشظِّى والأخلاط الذين لا رباط لهم مع الأرض. وتلك وصفةٌ أقربُ للتمنِّى من القراءة الناضجة، ولا تقوم إلَّا على أوهامٍ مادَت بها الأرض، وتبدَّلت الخرائطُ من حولها، لذا لا عجب مُطلقًا من أنهم يتقدَّمون ونتأخر، ويربحون دون ارتياح أو اكتفاء، وننزف بلا أىِّ اعتبار بالوقائع، أو رغبة صادقة فى التَّشَافى من أوهامنا الساذجة. تتسلَّطُ علينا عُقدة الخلط بين الماضى والتاريخ، ولا نعرف الفارق بينهما، أو لا نريد. فنُكرّر الحوادث على صورتها الأَوَّليّة، ونصنع لذاكرتنا كتابًا مُتطابق الصفحات. يعلمون عنَّا كلَّ شىء تقريبًا، وفضلاً عن جهلنا العظيم بتفاصيلهم، فلا نعرف أنفسنا على وجه الحقيقة، ولا من أين ننطلق وإلى أين وبأيّة وسيلة. نتقيّد بفوارق القوَّة الكاسحة، ونُقيّد ذواتنا بالركون إلى خبرات لم تَعُد صالحةً لخصومةٍ دائمة التجدُّد، وغريمٍ يتلوّن بالطبيعة حسب الأحوال، وتُلوّنه الأيام المُتوالدة من بعضها، بينما نُقيم على حالنا فى صورةٍ بالأبيض والأسود، يُؤطِّرها بروازٌ من عظام الأسلاف، وتتعلَّق على حائطٍ أرهقته شيخوخةُ ساكنيه، وشرَّخته السنينُ والانتكاسات المُتلاحقة. وآيةُ العتاقة فى فهمنا البائد، أننا واقفون على أطلال الحروب البدائية، نواجههم بجُندٍ كالحصى وموج البحر، ونرتاح إلى مُعادلةٍ كئيبة تقضى بأنَّ الواحد منهم بألفٍ مِنَّا، ويكفينا البقاء ولو على حرفٍ من العدم، وإن تسبَّبنا لهم فى دمعةٍ فغايةُ المُراد، ولنا أن نُقيم الأعراس ومواكب النصر لأنهم يدخلون الملاجئ خائفين، ونتقاطر على القبور بصلابة الأبطال. يأخذون الأرض ولا يجرحون إيماننا بالانتقال من سطحها إلى باطنها، ويألمون على قليلهم الضائع، ولا نتألَّم لكثيرنا المُهدَر اضطرارًا فى بعض الأحيان، وتطوُّعًا واستخفافًا فى أغلبها. طالما ننشد مع درويش غنائيَّتَه الشجيّة المُوجِعة «منكم السيف ومِنّا دمُنا» ونرتاح لتلك القسمة الضيزى. الفارق الضخم أنهم لا يبلعون النصر إلَّا لو كان كاملاً، ونكتفى منه بأن يتبقّى من الأحياء ما يكفى لتأبين الراحلين وتوسيدهم التراب. والحال، أنَّ إنكار الهزيمة يحول بين عقولنا والواقع، ويُلجِمُنا عن استيعاب الدروس والتحوّط منها، ما يُغذّى فينا شهوةً لا تنطفئ للانتحار فى مواكب الفخر والبطولات المجانيّة الساذجة. ولأننا لا نعرف كيف نُهزَمُ بعقلٍ، فغالبًا ما نخرج من الحروب مُلتاثين، بأجسادٍ مُثخنة وأرواحٍ مُخرّبة، ولا يكون فى مقدورنا بعد ذلك أن نتداوى أو نَعُدَّ لهم ما نستطيع من قوّةٍ ومن رباط الخيل، وبالتبعية لا نعرف وصفةً للنصر، أو البقاء فوق حدِّ الفناء المُحوِّم من حولنا دائمًا، ونُطعمهم من البلاد والعباد بكرمٍ لا ينقطع، ويأكلون مِنّ لحمنا وبيوتنا بنَهَمٍ مُتأجَّجٍ ولا يشبعون. وإذا كان منطق الميليشيا وحروب العصابات أنها تربحُ ما لم تنكسر، فهذا مِمَّا يخلطُ الأوراق عندما تُختَطَفُ القضايا والمجتمعات بسطوة السلاح، أو يُتَّخذُ منها غطاء له، وتُشرَك فى تبعاته دون جاهزيَّةٍ أو اختيار، لا سيَّما أنَّ العدو مُنفلِتٌ من كلِّ قيمة وقيد، حتى قوانين الحرب وأخلاقها المُنظِّمة لحدود التوحُّش بين البشر. وعليه، فليس بالإمكان الزَّعم بأنَّ حماس تتفوَّق بالصمود، بينما تقف على أشلاء ستين ألفًا ويزيد، أو أنَّ حزب الله قضى وطرَه كاملاً، وقد أعاد الاحتلال إلى جنوبلبنان، ووطّد للنازيِّين الصهاينة أن يُخرِّبوه تمامًا، ثمَّ أن يقطعوا طريقَه إلى الإعمار وإعادة تطبيع علاقته بالحياة من جديد. والرواية لا يُمكن أن تستقيم بهذا المعنى، إلَّا لو كانت القُوى المُسلَّحة تعزِلُ نفسَها عن بيئاتها، وتَعُدُّ أنها فى معركةٍ أيديولوجيَّةٍ لا تعنيها شواغل الناس، مُغلقةٍ على التنظيم الحركىِّ وأولويّاته حصرًا، وتكتفى بدائرته الضيِّقة واعتباراته الوَلائيَّة عن حواضنها الشعبية الواسعة. وبالنظر إلى أنها تمكّنت أصلاً بالاحتيال، وثبَّتَت ركائزَها بالاستئساد والتَّقَوّى على بقيّة الشركاء المُباشرين، فإنها تصير بسلوكها الانفرادى نسخةً ألطفَ قليلاً من المُحتلِّ فى استبداده، وذريعةً دائمة له، وتتخادَمُ معه بقَصدٍ أو من دون قَصدٍ فى إحماء الفكرة الصاخبة وإدامتها، وتحويل جغرافيا القضية إلى بيئة طاردة لأهلها، ماديًّا أو مَعنويًّا، طالما أنهم مُخيّرون بين قهرٍ وموت، ويُلاحقهم سلاح الشقيق والعدوِّ، ولا خيرة لهم من أمرهم إلَّا فى اثنين فقط: النحر غدرًا، أو الانتحار يأسًا. وبهذا، تصيرُ الشعارات السامية وبالاً على أصحابها أو الواقعين فى أسرِها، إذ هُم بين أن يكونوا متاريس لمشروعٍ لم يتشارَكوا صياغته، أو خزَّانًا لاستعراض شَتّى صور البطش والترويع، وتحويلهم إلى أُمثولةٍ عن مدى الإرعاب المُحيق بهم إن صمتوا، ووصمة النكوص والخيانة التى تتعقّبهم لو أبدوا ضيقَهم، وجهروا بالشكوى من وجيعتِهم التى لا تُحتَمَل. بزغَتْ حماس من رحم الانتفاضة الأُولى «أطفال الحجارة» فى أواخر الثمانينيات. ربما كان الإخوان حاضرين فى المشهد، لكنهم لم يتجسّدوا فى بِنيةٍ وأجندة. جاءوا مُتأخِّرين أربعةَ عقودٍ عن المأساة، وبعيدًا من فكرة أنهم لم يَعوا ما فاتهم على حقيقته، فالغالب عليهم الالتجاء إلى البدء من نقطة الصفر، جهلاً بالأوضاع السياسية وتجاهُلاً للنكبة وآثارها، وقفزًا بالتبعية على مسيرة النضال التى ساحت فى أرجاء الأرض، وكانت على مَقرُبةٍ وقتَها من العودة لاختبار القضية فى بيئتها، بعد شتات المنافى والساحات البديلة. اعتبر الحماسىُّ الوليدُ، والفائرُ بعاطفته وخطابه الأُصولىِّ، أنّه الأوَّل ولو كان الأخير زمانه، أو على الأقل سيأتى بما لم يستَطِعه الأوائلُ. افترض أنه لا نضالَ ولا مناضلين سبقوه، ولا فتحَ أو مُنظَّمة تحرير، وبطبيعة الحال اعتبروا السلطةَ كيانًا هُلاميًّا مُتواطئًا، واختصموا أوسلو مثلما اختصمها التوراتيِّون والقوميِّون الصهاينة. وما كان صوتُهم خافتًا لعقدين تقريبًا، إلَّا بأثر «عرفات» وكاريزماه الأبويّة اللامعة، وبمُجرّد تشييع جثمان الزعيم الفرد، انفجر القُمم بمارده الإخوانىِّ المحبوس، وكان الانقلاب واقتطاع غزَّة من جسد الدولة الضائعة فاتحةَ التجلِّيات السوداء. اعتبرت الحركةُ أنها تجوس عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية، أو بعدها مُباشرةً. قرأت قرار التقسيم أو لم تقرَأه لا فرق، لأنها تجاوزته بقدرِ ما قفزت على وقائع الأرض، وبدأت من أعلى نقطةٍ مُمكنة فى طلب الحقّ، انطلاقًا من وقفيَّة فلسطين الإسلامية والمُلكيّة الكاملة لما بين النهر والبحر، وما كانت فى الأمر مُشكلةٌ فى سِنيِّها المُبكِّرة، ولو شاغبت السلطة والاحتلال على بنود أوسلو، وتواطأت ضمنيًّا مع نتنياهو ويمينه الصاخب فى إفساد التجربة، إنما وقع التناقُض عندما طمعت فى لعب دَورَين لا يصحُّ الجمع ببنهما، ولا يُفيد مُطلَقًا، أى أن تكون الحاكمَ والفُتوّة/ السياسى والمُقاوم، وأن تقبض على مشروعيَّة السلاح بيدٍ، وعلى شرعية السُّلطة بالثانية. من هُنا أوقعت المشروعَ التحرُّرىَّ فى تناقُضٍ كبير، ليس لأنها نازعت مُنظَّمة التحرير فى وضعيتها القانونية المُعتَرَف بها دوليًّا، ومن الاحتلال ذاته، بل لأنها جمعت البيض كلَّه فى سَلّةٍ واحدة، ويسّرت على الأُصوليَّة المُضادَّة أن تتحكم فى مسار الصراع، انطلاقًا من تقليب الحركة على الوجهين كيفما يتراءى لها، ويُحقّق المصلحة التى تتقصّدها بحسب السياق والامتحانات. إن بزغَ مَوسمُ سلام فليُضرَب موعِدٌ مع كتائب القسَّام، وإن نشطت رام الله فليكُن الردّ عليها بالحوار المُباشر مع حكومة غزَّة، وفى كلِّ حال ظلَّت تل أبيب تتلطَّى بسرديَّة الانقسام وغياب الشريك، وفيما ترعى الميليشيا وتستثمر فيها، كانت تُضعِفُ بديلَها السياسىَّ وتُحيِّدُ فاعليَّتَه، بينما العلاقةُ طَرديَّةٌ بين الجناحين، وإن غابت الحقيقة عنهما، وبإضعاف أحدهما يضعُف الآخرُ بالضرورة. حتى فى أشدِّ حالات الهشاشة، لم تكُن مصارين فلسطين مُركّبةً على بعضها وفى عراكٍ كما جرى بعد انقلاب حماس. نجحت إسرائيل فى تجزئة المُجزَّأ أصلاً، وإغراء الأُصولىِّ بالجزء بديلاً عن الكل، وبمُناطحة الشريك الوجودىِّ على أمل وراثته. فيما كانت فاعليَّةُ النضال تتضاءل، وهيمنةُ الاحتلال تتعالى، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. تستبد الحركة بقرار الحرب دون مُداولةٍ أو مُشاوَرَة، وتدخل فى مغامرةٍ أقرب إلى المُقامرة. وبالبديهة لن تكون السلطة الوطنية طرفًا مُباشرًا بعدما أُبعِدَت، وسيُتاحُ لنتنياهو أن يُجهِزَ على الفصائل تحت غطاء الإرهاب وحقِّ الدفاع عن النفس، وأن ينفرِدَ بها على طاولة التفاوض، مَوصومةً وعاريةً من أيّة شرعية قانونية، فضلاً على أنها تختزل المسألة فى القطاع دون بقيَّة الجغرافيا، وفى قادتها وكتائبها بمعزِلٍ عن خمسة ملايين فلسطينىٍّ تحت الاحتلال، وضعفهم تقريبًا بالخارج أو وراء الخطِّ الأخضر. أمَّا تجارة العاطفة فقد روّجتها الحركةُ ورُعاتها من قواعد الإخوان وأجنحة الشيعيَّة المُسلَّحة مع رصاصة الطوفان الافتتاحيّة، وتلحّفوا بدعاية النصر ولم يُسقطوها عن عيونهم حتى الساعة. وفيما يسَّاقَطُ آلاف الضحايا الأبرياء على مدار الساعة، ظلَّت المُعادلةُ مُرضِيةً لهم بالنيل من ألفٍ ومائتين تقريبًا فى هجمة الغلاف، وآحادٍ يُعَدُّون على الأصابع طوال شهور المحرقة. صاروخ ينسف مُجمَّعًا سكنيًّا على رؤوس مئات الغزّيِّين، فيُستعاض عنه بماسورةٍ فارغة أو قذيفة هيكلية تُدوِّى ولا تصيب، وتحترق قبل أن تصل لوُجهتها المقصودة، هذا لو كانت لها وجهة من الأساس. والنقد هنا ليس عن ابتذالٍ لفكرة المقاومة السامية، ولا عن خلافٍ عليها، إنما لأنها اتَّخذت هيئةً استعراضيَّةً تُجيَّرُ لفصيلٍ دون القضية وشعبها، ولا تُثمر فى الميدان أو على الطاولة، كما أنها تُقايض الأرض والدم بالعاطفة، وتُغلِّبُ محمولاً أُصوليًّا يكتفى بالوجاهة عن الأثر. يُشوِّه السردية الوطنيّة ويضرّ بها فى العُمق، والمؤسِف أنه يتفاخَر بمنطقِه الشخصىِّ، فيما يتسبَّبُ بُحسن النيّة أو سُوئها فى القضاء على فُرَص مواطنيه فى الحياة لسنين، ويُعيدُ فلسطين بكاملها عقودًا إلى الوراء. والمَلهاةُ الكُبرى أنَّ الشعبويِّين وتُجَّار الأُضحيات البشرية باتوا يتحدَّثون عن تهشُّم النسيج الاجتماعى فى إسرائيل، وقوافل المُغادرين من المطارات والمرافئ البحرية، حتى أنهم كانوا يتحايلون على إغلاق المنافذ بالتسرُّب من المعابر البرّية. صحيح أنها مشاهدُ لا تُنكَرُ بالكُلّيّة، لكنها ليست على الصورة الرائجة فى بعض المنصَّات الأُصوليَّة وما يُواكِبُها من إعلامٍ نظامىٍّ مُؤَدلَج، وكانت تتزامن معها رحلاتٌ كثيفة للعائدين من إجازات أو إقامات شِبه دائمة بالخارج، وبعضهم كانوا يمتشقون البنادق ويلتحقون بالجبهات المفتوحة بمُجرَّد الوصول، وبقَدر ما تَكثَّف الحديثُ عن مئات الراغبين فى الرحيل، أُسدِلَتْ سِتارةٌ رماديّةٌ مُوجَّهةٌ وخادِعة على كلِّ ما يخُصّ آلاف الراغبين فى العودة. والبحث هنا ليس فى الأعداد وتفاوتها، ولا أىِّ الاتجاهين يتفوَّق على الآخر، نزحًا للسُّكّان أو تعزيزًا لهم، إنما فى تصويب النظرة إلى العدوِّ بما يتخطّى الأمانى والتوهُّمات، لنرى الصورة على حقيقتها أوّلاً، ونعرف الخصوم من مُنطَلَقٍ سليم، ليتيسّر لنا التعرُّف على واقعنا، والتصدّى للمشاريع الماسّة بالوجود والأوطان المنكوبة فى إقليمنا. ذلك أنَّ الرواية القديمة عن أشتات اليهود المُعبّأين فى مراكب شَحنٍ صَدِئَة لم تَعُد صالحةً لاستقراء الحال الراهنة، ناهيك عن تفسيرها على وجهٍ دقيق وغير مُضلِّل. وما يجرى اليومَ ليس شَبيهًا من أيَّة زاويةٍ بما كان فى أوائل القرن الماضى، أو حتى ما ظلَّ معهودًا إلى عقودٍ خَلَتْ. لقد صارت العصابةُ بلدًا تامّ الوجود والأهليّة، واكتملت له هُويَّة واحدةٌ مُتجانسة، ولو ظلّت بعض أطيافه تحفظ شيئًا من ذاكرة ماضيها وسيرتها الأُولى. التنوُّع العِرقىُّ لا يُستَدَلُّ به على غياب السبيكة الواحدة، والتعدُّدية اللغوية لا تُشير إلى ائتلافيَّةٍ مَصلحيَّةٍ مُؤقَّتة بالضرورة. الولاياتالمتحدة أبرز نموذجٍ لمجتمعات الأخلاط والعابرين عِرقيًّا وثقافيًّا، لكنهم صاروا نسيجًا واحدًا، يُكسِبُه التعدُّد ألوانًا وطُعومًا، ويزيده ثراءً وإمكانات. الغُزاة الأوائل غادروا منذ سنواتٍ بعيدة، والمُلتحقون الجُدد يهبطون على دولةٍ، قد لا يكون إيمانهم بها مُكتملاً، لكنهم يتَقَوّون بالمنظومة والحوكمة والأسطورة الجامعة، وبأغلبيّةٍ لم تَعُد تنظر لفلسطين على أنها أرضٌ مغصوبةٌ من أصحابها، ولا لأنفسهم على أنهم وافدون أو طارئون عليها. تُحْكَمُ إسرائيلُ اليومَ من جيل «سابرا» المَولودين بعد قيام الدولة. العجوز نتنياهو نفسه من مواليد الكيانيَّة الجديدة التى كانت مُلفّقةً، وكامل حكومته وجهازه التنفيذى وعسكره وأغلب المُقاتلين فى جيشه المُجرم. لنختلف ما شِئنا على حُجّيّة فكرة الوطن وثبوتها لهم من منظورنا، لكنها صارت واقعًا يعيشونه ويُؤمنون به، وافتراض أنهم ناقصو عزمٍ وصلابة، أو أقل رسوخًا فى الجغرافيا مِنَّا ومن غيرنا، ربما تكون أقربَ إلى الخديعة والضلال. والمَرَدُّ هُنا، أنهم لم يُحدِّدوا صِلَتَهم بالمكان فى زمن الهجرات أو التقسيم، بل أعادوها إلى مَرويّة دينية مُتجذِّرةٍ فى التاريخ، وتتساند لديهم على نَصٍّ مُقدَّس يقوم لديهم مقامَ عقد التملُّك، ويجعل من التجسُّد على تلك المساحة مُهمَّةً إيمانية. لنَقُل إنه ادِّعاء وتلفيق، ونُفرط فى هذا كيفما شئنا، لكنه يحوزُ وجاهةَ الوجود وقداسة الوعد الإلهى لدى أصحابه، وهو ما يكفى لأن يخوضوا حروبَهم عليه بمنطقٍ وطنىٍّ وتعبُّدى كما نفعل، ويجعل من توهُّماتنا عن الحضور العارض والجذور العارية على سطح الأرض محضَ حكاياتٍ لا دليل عليها، وتُخَدّر وعينَا بأكثر مِمَّا تمسُّ شعورهم بالمكان أو تكييفهم للصراع. وإزاء ذلك، فإنَّ واحدة من أكثر الخدمات التى تُقَدَّم لهم مجّانًا وعن طِيب خاطرٍ وتطوُّع، أن نُدَيّن القضيّة، وأن يتحدَّث بعضُنا برُعونةٍ وغباء عن الوَقف الإسلامى، والأسانيد النَّصّية البعيدة فى الزمن لنَزعهم من التراب أو تثبيتنا فيه. والخللُ، أننا نُمرِّرُ لهم مشروعيَّةَ الحرب الدائمة على الهُويَّة والإرث العقائدى المُحتقن دون أُفقٍ للتصفية أو التسوية، ونُرتِّبُ لهم سَبقًا زَمنيًّا بأسبقية توراتهم على قُرآننا، ثمَّ بإيمان الغرب المسيحى بالعهد القديم ومواعظه التاريخية، المُلفَّق منها قبل الحقيقى. وذلك، بينما تنطوى وثيقةُ ملكيَّتنا تلك على إقرارٍ بحضورهم السابق علينا، واعترافٍ بأنَّ خيطًا من المُعتَقَد والعِرق يُمكنُ أن يمتد من فلسطين التاريخية لبعض اليهود، مثلما يمتدُّ من «غزَّة هاشم» وزمن الفتوحات إلى كلِّ المسلمين. وفيما يُرَدُّ إثنيًّا على دعاواهم بأنَّ يهود الحاضر ليسوا من نسل الأسلاف، ومُخلّطون غالبًا من الخزر وغيرهم، فإننا نطعن الحجَّة من داخلها إذ نُؤَسلِمُ القضيَّةَ ونُعمِّمها بالعمامة والتعميم على الدين كلّه، لنُشرِكَ فيها الماليزى والإندونيسى والأفريقى وسائر الأعراق، اكتفاءً بأنهم ينطقون الشهادتين ويُرتّلون معنا آيات الذكر الحكيم. الفكرة هنا تنقلب على ذاتها، وتتآكل من داخلها بالجمع الفج بين المُتناقضات. إذ فيما نقول إنه لا حقَّ لليهود فى الأرض لأنهم ليسوا عِرقًا مُؤصَّلاً ومُمتدًّا وفقَ ما يزعمونه لأنفسهم من نقاء، نُسوّغ من وراء ذلك مُلكيَّة فلسطين لعموم المسلمين لمُجرَّد أنهم مُسلمون، وقد يكون بينهم يهودٌ تحوَّلوا عن دين آبائهم أو بدَّلتهم عوادى الأيَّام، كما بدّلت بعضَ خُصومهم على الجانب الآخر. وبينما نُوغل فى تلك الطريق المُلتوية وشديدة الوعورة، فالسرديَّة فى أصلِها واضحةٌ ولا تحتاج إلى الارتداد فى الزمن، والتعثُّر بين دغل الماضى وغابات التاريخ. فلسطين أرض الفلسطينيين من كلِّ الأديان والأعراق الذين كانوا يقطنونها قبل الإغارة عليها، والأزمانُ سيّارة بالجغرافيا والديموغرافيا، ولا تُصوَّبُ وقائعُها بأثرٍ رجعىٍّ، وإلَّا حَقَّ للبريطانيين أن يحكموا واشنطن، وللإيطاليين والعرب أن يستعيدوا ثلاثة أرباع الأرض. إنها قضيَّةُ حَقٍّ وقانون، وفى عُهدة الدولة الوطنية وثقافتها الحداثية، ما بعد القوميّة العِرقية والدينية، والقَرَوَسطيَّة السابقة على ويستفاليا، وبدائيَّة الفتوحات والحروب الصليبية. واستدراج القديم ليحكُمَ فى الجديد، إنما يُضيِّعُ ما تبقّى للضعيف طالما أنه عاجزٌ عن تفعيل شريعة الغاب بأظفاره وقبضته العارية. الماضوية وحدها تُبقينا أسرى لنقاطِ ضعفِنا، وتحت رحمة أسوأ أفكارنا وأشدّها خطلاً وضلالاً. تُحَوّلُ الأرضَ فى وَعينا جليدًا مُتجمّدًا لآلاف السنوات، وتُذيبُه بنار الواقع الحارقة، فنَعُدّها دِفئًا وإنارةً فيما تشوى وُجوهَنا. نطلبُ المُستحيلَ فنُضيِّعُ المُمكن، ونُسلِّم رقابنا على مذبح الضرورة المُدّعاة، لقاء صرخة من العدوِّ أو دمعةٍ على خدّه الناعم. نفتتح الحروبَ ولا نعرف كيف ننهيها، ولا كيف ننجو منها، ونُفاوِضُ على وجود الفكرة، ولو أُبِيْدَ المُتفكّرون فيها والمُؤمنون بها. إنها عبادةٌ كاملة للوَهْم المُطلَق، وفتنةٌ لا تزول بالأطلال، وبأنَّ المُقاومة الحَقّة مشروطةٌ بأن نخسر دومًا، وبأن نُهين ضحايانا بتصويرهم خسائرَ تكتيكيَّة، كما قال خالد مشعل، لنكيد الأعداء أو نسلبهم بهجةَ النصر. فيما هُم على الجانب الآخر لا يَعُدّونها انتصاراتٍ أصلاً، ويتطلّعون إلى العلامة الكاملة بدأبٍ وتوحُّشٍ لا آخر لهما، ويعرفون أين كانوا وصاروا، وإلى أين سيذهبون، ولا نتوقّف نحن عن الدوران حول ذواتنا، حتى نسجنا من أدبيّاتنا قيدًا لحركتنا، ومن سرديّاتنا دوّامة نغرق فيها. ندور حول أنفسنا فنُهدر طاقتنا بلا توقُّف، وإن كسرنا الطوقَ فإلى طوفان يستجلِبُ علينا غَرقًا أعظم، يتسلّط على وعينا بادّعاءاتٍ أردأ من سابقتها، ويُبقينا دائمًا فى كنف الضياع والمجهول، كما يُؤَبِّد لنا أن نظلَّ مُتناحِرِين فيما بيننا غالبًا، وأخطرَ عَدوٍّ مُبتَذَل ومُترَخِّص دومًا لقضايانا الغالية.