ما زلنا مع الحديث عن تاريخ الخوارج، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة. قرر «القراء» أن يهجروا الناس باعتبار أن لم يعد من مؤمنين غيرهم، فاتخذوا لأنفسهم مواضع تخصهم باعتبارها «دار هجرة» وباعتبار أن ما سواها «دار كفر». بلى، فقد قرر هؤلاء أن الخليفة على بن أبى طالب قد كفر بأن قبل تحكيم الرجال فى كتاب الله، وأن كل من قبل التحكيم أو شارك فيه فهو كافر، فمعاوية كافر، وعمرو بن العاص كافر، والصحابة وسائر المسلمين كفار، بل اتهموا الخليفة المغدور عثمان بن عفان بأنه كان مؤمنا فى القسم الأول من خلافته ثم كفر بعد ذلك فأبيح دمه! سموا أنفسهم «الشُراة» اشتقاقا من الآية القرآنية الحادية عشر بعد المئة من سورة التوبة «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيَقتلون ويُقتَلون وعدا عليه حقا فى التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفَى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم». فكانوا يرون أنهم قد شروا أنفسهم لله. ولكن الناس أطلقوا عليهم ذلك الاسم الذى سيُعرَفون به إلى الأبد، وسيُنعَت به كل من شابههم، الخوارج، وهذا لخروجهم عن جماعة المسلمين، والغريب أن الشراة / الخوارج لم يرفضوا هذا المسمى بل أوّلوه بأنهم قد خرجوا من الكفر للإيمان! لم يمنعهم اعتزالهم الناس من أن يتعمدوا ارتياد مسجد الكوفة، التى كانت قد أصبحت بمثابة عاصمة الخلافة للإمام على، وأن يرفعوا أصواتهم بمقاطعة الخليفة وهو يخطب صائحين فيه بجلافة: «الحكم لله يا على!»، فلا يزيد أن يرد بهدوء: «كلمة حق يراد بها باطل»، ليصبح رده هذا هو الوصف الأقوى لمن يتاجرون بالدين ويوظفون آيات الله لأغراضهم، وأضيف لأسمائهم «المُحَكِمة» لصياحهم «الحكم لله». أعلن الإمام بشكل صريح تعهده أن للخوارج ثلاثة حقوق عليه طالما أنهم لم يرفعوا السلاح ويكتفون فقط بالقول: ألا يمنعهم العطاء من بيت المال، وألا يمنعهم من دخول المسجد، وألا يحاربهم. وحاول الصحابى عبدالله بن عباس، وهو من هو علما وفقها بل ودهاء، أن يرد الخوارج عن ضلالهم، فلجأ لمناظرتهم فيما يقولون، فنجح فى إنقاذ بعضهم، لكن البعض الآخر اشتط فى عناده، ومما روى أن من انشقوا عن الخوارج وعادوا لجماعة المسلمين بلغ عددهم 6000 نفس. بقيت تلك الحال حتى وقت حادثة أقنعت الخليفة أن الصبر على هؤلاء المجرمين لم يعد له مجال، ففى يوم دخل بعض رجالهم قرية فيها الصحابى عبدالله بن خباب، فأحاطوا به وسألوه «أنت صاحب رسول الله؟ فأجاب «نعم» فأرادوا أن يسألوه عن رأيه فيما هم فيه من الأمر، فقال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون من بعدى قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم» أى يقرأونه بأفواههم ولا يصل لقلوبهم، فسألوه عن الخليفتين أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب، فأثنى عليهما،. فسألوه عن الخليفتين عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، فقال فيهما خيرا، فأشاروا لمصحف معلق فى جراب فى عنقه وقالوا «نحن نرى فى هذا الكتاب قتلك» فذبحوه، وقتلوا إمرأته وكانت حاملا! ومما يُروى عن تلك الواقعة أنهم إذ ارتكبوا جريمتهم هذه مروا بحقل مملوك لمسيحى كان يرى ما يحدث برعب، فضرب أحدهم خنزيرا للفلاح المسيحى، فقتله، فوبخه زملاؤه وأمروه أن يدفع لصاحبه ثمنه، فلما دفعه أظهر الفلاح دهشته أنهم يحرمون قتل خنزير مملوك لفلاح ويستبيحون قتل أحد الصحابة! بلغ الخبر الخليفة على بن أبى طالب فانتفض غضبا من تلك الجريمة الشنعاء، وأرسل لزعماء الخوارج يأمرهم بتسليم مرتكبيها، فجاءه ردهم الوقح: «كلنا قتلناه!». هنا لم يعد من الحسم بد، فحشد الخليفة جيشه وهاجم معسكر الخوارج فى معركة «حروراء» تُعرَف كذلك بالنهروان لموقعها، وأوقع بهم مقتلة عظيمة أفنتهم إلا قليلا منهم. وقف الإمام ينظر جثث الخوارج، وعندما هنأه بعض أصحابه بالقضاء على هؤلاء المجرمين شرد قليلا ثم قال: «كلا.. بل هم فى أصلاب الرجال وأرحام النساء»، أى أنه بما خبر من نفوس البشر، قد عرف أن منهج وفكر الخوارج سيبقى إلى ما شاء الله وسيضاف للتحديات التى ينبغى على المسلمين، بل وعلى الناس جميعا،أن يواجهوها. مالت الأوضاع إلى الهدوء حينا، فمعاوية تربطه هُدنة أو نوع من السلام البارد، فهو والخليفة يتراشقان باللعنات والاتهامات من فوق المنابر، وفى نفس الوقت يحرص معاوية كلما طرأ عليه أمر يحتاج فيه إلى فتوى من فقيه أن يرسل للإمام على، والروم لزموا الحذر بعد أن حاول إمبراطورهم استغلال حالة الحرب والتقدم نحو الشام، فأرسل إليه معاوية يحذره من ارتكاب تلك الحماقة وإلا ترك خلافه مع على ووضع كلا منهما يده فى يد الآخر وهاجما القسطنطينية، إلا أن النار كانت تحت الرماد، ففلول الخوارج راحوا يتجمعون ويدبرون ما يوجهون به ضربة قاصمة لأعداءهم، فتفتقت أذهانهم عن فكرة: أن يتوجه ثلاثة منهم إلى الكوفة ودمشق والفسطاط، وأن يتواعدوا على ساعة واحدة يغتال كل منهم فيها هدفه، الخليفة على بن أبى طالب فى الكوفة، وأمير الشام معاوية بن أبى سفيان فى دمشق، ووالى مصر عمرو بن العاص فى الفسطاط. وفى الساعة المحددة، وأثناء دخول الإمام على مسجد الكوفة قبل صلاة الفجر وهو يرفع صوته لينبه النائمين فى المسجد ليقوموا إلى الصلاة، فوجيء الجميع برجل كان كامنا عند باب المسجد يعلو الخليفة بالسيف ويضربه به على رأسه وهو يصرخ «الحكم لله يا على لا لك ولا لأبيك!». وبعدها بقليل أثناء سجود معاوية بن أبى سفيان فى الصلاة ضربه المتربص به إلا أنه قد أخطأ مقتله وأصابه فى إليته. وفى الفسطاط، أصيب عمرو بن العاص بإسهال شديد مفاجئ، فاعتذر عن إمام الصلاة وكلف نائبه بإمامة المصلين، فهاجم القاتل النائب وقتله وهو يحسبه عمرو. ألقى الناس القبض على عبدالرحمن بن ملجم، الخارجى المكلف بقتل الخليفة على بن أبى طالب، وحُمِلَ الخليفة إلى بيته، وأثناء احتضاره طلب أن يرى القاتل، فلما مثل هذا بين يديه سأله الإمام: «أى عدو الله.. ألم أُحسِنَ إليك؟» فأجابه ابن ملجم: «بلى.. ولكنى شحذت سيفى وسممته ودعوت الله أن يقتل به شر خلقه». شر خلقه! الإمام على فى نظر هذا الرجل كان شر خلق الله، أى أكثر مخلوقات الله شرا فى تلك اللحظة، اعتقد أن هذا يجعلنا ندرك لأى درك تنحدر عقليات هؤلاء. وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.