أنهى ملايين الحجاج أمس الخميس، أهم أركان فريضة الحج، بالوقوف على جبل عرفات، وهو الركن الأهم والأكبر فى فريضة الحج، والتى تمثل - وحدها شكلا ومضمونا - عالما كاملا يمارس فيه المسلمون تجمعا اختياريا، ليعيدوا ما سبق وأن وضعه إبراهيم أبو الأنبياء، وعائلته التى صنعت الشكل الذى يكرره المسلمون كل عام، يبدأونه بعمرة تبدأ بالطواف حول الكعبة، وينهونه برمى الجمرات والتحلل من الإحرام، مرورا بالتروية وجمع الجمرات. الحجاج فى كل عام فى اليوم العاشر من ذى الحجة، يؤكدون الفريضة التى وضعها أبو الأنبياء، وأكدها محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى مدى القرون تهفو قلوب المسلمين إلى البيت الحرام، بدعوة إبراهيم أن يجعل الله أفئدة من الناس تهفو إليه، وهو أمر يتجاوز الحج الذى يأتى مرة فى العام، إلى العمرات التى تمثل استمرارا لدعوة إبراهيم، وتأكيدا لقصة هاجر وإسماعيل سعيا بين الصفا والمروة. الحج هو أقدم الفرائض، فهو فريضة تربط المسلمين بأبى الأنبياء إبراهيم الخليل، والطواف والسعى استعادة لرحلة السيدة هاجر مع النبى إسماعيل بحثا عن الماء، وبعد سبعة أشواط يتفجر الماء بين قدمىّ الرضيع إسماعيل، لتبقى بئر زمزم ضمن معجزات الله بمياه تتدفق على مدى العصور، رمزا لهذه العلاقة الممتدة والشاهدة طوال القرون. الجزء الآخر من القصة هو امتثال إسماعيل للوحى، وتصديق أبيه إبراهيم، ويطيع إسماعيل الوحى حتى يفتديه الله، بعد إن وضع إبراهيم أساس البيت الحرام بمكة، فى واد غير ذى زرع، وبدعوته بقى الحج قائما، وأفئدة الناس تهوى إلى البيت الحرام، ويعيد ملايين البشر طوافا وسعيا ووقوفا بعرفات، والرجم والدعاء دائما. وأهم ما يحمله الحج هو وحدة البشر والمساواة والعدالة، وبالرغم من أن الحج مثل كل فريضة طالته أحيانا علامات التفاخر، لكن من بين الملايين يبقى الحجاج بفطرتهم عجائز وشيوخا، يطوفون ويدعون ويبكون تأثرا ورهبة، ومنهم من يعتبر الحج نهاية المطاف ومتعة العبادة، مع ثقة فى أن الله سيغفر لهم ويستجيب لدعائهم لأنفسهم وكل من يحملهم أمانة الدعاء. وكأنهم يستعيدون كل مسيرة إبراهيم فى طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة، حول الكون والله والإيمان، وراء كل سؤال حكمة، بعد أن جرب القمر والشمس ليصل إلى التوحيد، ويبقى الحج إعادة لأسئلة إبراهيم، والفداء بدلا من الذبيح إسماعيل، اليوم يترك ملايين الحجاج عرفات ليتجهوا إلى المزدلفة، ومنى، ويرموا الجمرات، وبالرغم من ثبات الخطوات، فإن كل حاج يذهب، لديه تجربته الخاصة ومشاعره وطبيعة تفاعلاته مع مناسك الحج، يواجه عالما متشابكا من المشاعر والرسائل، التى أحيا خلالها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رحلة إبراهيم، ويرددون دعواته ثقة فى أن الله سيغفر لهم ويستجيب لدعائهم لأنفسهم ولكل من يحملهم أمانة الدعاء. الحج شعيرة عالمية تحمل الكثير من الرسائل فى التسامح والوحدة والتنوع، وحتى هؤلاء الذين يتوقون للحج ولا يستطيعون إليه سبيلا، يحجون بصلواتهم عندما يتجهون للكعبة، ثم إن الحاج والمعتمر يوجّهان الدعاء على يقين بالاستجابة، ولدى كل عقيدة حج من نوع ما، لكن الحج هو الفريضة التى أتت بعد تنقيتها من التداخلات الوثنية، وأيضا تحمل علامات عن أهمية نبذ الصراع والدعاء والمساندة للفقراء والمظلومين والجوعى، وأيضا ضحايا الحروب وأهمهم ضحايا حرب الاحتلال الإسرائيلى على غزة، التى تتم بمزاعم دينية بينما كل الأنبياء أبناء إبراهيم كانوا دعاة سلام وليسوا دعاة صراع وحرب وعدوان وإبادة. كما أن الحج رسالة فى المساواة والعدل، وعدم التفاخر ومساندة الفقراء، والجوعى، حتى لو تم تغيير المواعيد لتبقى طوال العام سندا وتضامنا.