في تقويم الروح، لا يوم يعلو قدره ولا زمن يفوق بركته كيوم عرفة، هو يومٌ تقف فيه القلوب قبل الأجساد، وتنحني فيه الأرواح بخشوع يتجاوز حدود المكان والزمان، وكأن السماء تُفتح على مصراعيها، تستقبل الدموع الراجية، والأنين المتهدّج، والكلمات التي لا تُقال إلا حين يكون الحديث لله وحده. يوم عرفة ليس فقط محطة زمنية، بل هو عتبة نور تعبرها النفوس لتغتسل من أدرانها، على صعيد عرفات، تمتد أيادي الحجيج نحو السماء، لا تحمل شيئًا سوى رجاء صادق، بأن يُكتب لهم الستر ما عاشوا، والصحة ما تنفسوا، وراحة البال كلما أرهقهم العناء. في هذا اليوم، يصبح الهواء ثقيلاً بالدعاء، مشبعًا بأمنيات الضعفاء، وأحلام العابرين في طريقهم إلى الله، لا يُطلب فيه جاه، ولا يُسأل فيه عن مال، بل ترتفع الأصوات بنداءات لا تتبدل: "اللهم استرنا"، "اللهم اشفِنا"، "اللهم لا تجعل قلوبنا موحشة مهما ازدحمت حولنا الوجوه". عرفات، ذلك الوادي الطاهر، يتحوّل إلى مسرح للدعاء، ومحراب للبكاء، ومحرقة لكل ذنب حمله الإنسان في غفلاته، هناك، تقف النساء بعيونٍ دامعة يرفرف فيها الرجاء، أن يُكتب لأبنائهن أمان الحياة، ولأزواجهن سعة الرزق، ولنفوسهن طمأنينة لا تنكسر. وهناك، يُناجي الرجال ربهم بأن يُبدل التعب سكينة، والضيق فرجًا، وأن تُمحى الذنوب كما يُمحي المطر آثار الغبار عن وجوه المدينة. وكل حاج يركن إلى ظل خيمته أو يستند إلى صخرة في عرفات، يحمل داخله أمتعة لا يراها أحد: ذكريات، وذنوب، وخيبات، وآمال مؤجلة، وعزائم على بداية جديدة لا تعرف رجوعًا. أما من لم تطأ أقدامه الأرض المقدسة، فقد جعل الله له من هذا اليوم نصيبًا، من قلب بيته، أو على سجادته، أو في زحام المدينة، يرفع يديه بدعاء يتسلل عبر الغيب، كأن صوته يُلامس أطراف عرفات وإن لم يكن هناك، الدعاء لا يعرف المسافات، والنية الطيبة تُختصر بها الطرق. وفي كل هذا الزخم الروحي، تبقى دعوة "راحة البال" هي الأكثر تكرارًا، وكأن الناس فهموا أخيرًا أن الطمأنينة هي الثراء الحقيقي، وأن هدوء الداخل أهم من صخب الخارج، أن تُحاط بستر الله في زمن العري الأخلاقي، وأن تُرزق عافية لا يرافقها ألم، وسلام لا تُلوثه الأخبار، هو أعظم ما يُرجى. يوم عرفة.. هو اليوم الذي لا يشبهه يوم، يوم تُغسل فيه الأرواح بماء التوبة، وتُروى فيه النفوس بدعاء خالص، وتُحمل فيه القلوب على أجنحة الأمل، علّها تعود إلى الحياة أخفّ، وأنقى، وأقرب إلى الله.