مشهد استعادة حركة طالبان السلطة في أفغانستان لا يحمل فقط رسالة هزيمة للولايات المتحدة أو انتصارا للحركة.. بل تغيرات وتحولات سياسية لطالبان لم تصنعها حالة الحرب فقط على الأرض طوال 20 عاما بقدر ما صنعتها مفاوضات الغرف المغلقة. ربما يرتكز الحديث عن سيناريو الانسحاب المخجل لأمريكا وتخليها عن الرئيس والمسؤولين الأفغان والمتعاونين معها وحتى من تعلقوا بطائرتها العسكرية المغادرة لمطار كابول .. لكن في المقابل لا يمكن تجاهل هذا الاطمئنان الأمريكي والغربي غير المعلن لتولي طالبان السلطة على عكس تصريحاتهم التي سبقت استيلاء الحركة على العاصمة كابول والحديث لاحقا عن الانتقال السلمي للسلطة. طالبان تتحدث عن حكومة شاملة والانفتاح على المجتمع الدولي وإبقاء حكام الولايات وعدم استهداف المتعاونين مع أمريكا.. الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني يدعو طالبان لحماية النساء ومختلف العرقيات لكي تكسب الحركة قلوب الأفغان.. سكرتير هذا الرئيس يبقى في القصر ليفتح الأبواب لقادة طالبان ويجلس لجوارهم.. وبالتزامن مع ذلك يخرج حديث آخر عن تشكيل لجنة لنقل السلطة بصورة سلمية على لسان حامد كرزاي الرئيس الأفغاني الذي تولى السلطة عقب غزو أمريكالأفغانستان عام 2001. الكل مشارك في مشهد عودة طالبان.. والكل يتحدث عن سيناريوهات تم إعدادها والاتفاق عليها مسبقا في غرف مغلقة وليست وليدة اللحظة في مشهد نهاية مفاجئ.. إطلاق التحذيرات من جانب واشنطن ودول أوروبا حيال تولي طالبان السلطة ليست سوى مجرد مسرحية هزلية أمام شعوبها سيعقبها الجلوس العلني لاحقا على طاولة واحدة مع حركة طالبان. حركة طالبان تستمتع بمشهد دخول القصر الرئاسي وتستعرض عضلاتها.. هي بالفعل انتصرت ببقائها 20 عاما دون تفكك وبرحيل القوات الأجنبية بعد تكبيدها خسائر باهظة على الأرض.. هذا الأمر لا يمكن إخضاعه للجدل أو التشكيك.. لكن مشهد النهاية كان مصطعنا من جانب أمريكا وطالبان.. ربما جاءت طريقة انطلاق الحكم الثاني لطالبان بطلب من أمريكا نفسها لكي تبدو هي من رحلت أولا عبر انسحاب أحادي كما فعلت سابقا في فيتنام بعد هزيمتها التاريخية .. وربما جاء استجابة لرغبة طالبان في صياغة رمزية مشهد النهاية بطريقة تتسق مع طبيعتها القتالية ليكون مشهد النصر مكتملا باقتحام القصر الرئاسي بعد الاستيلاء على منطقة تلو الأخرى على غرار إسقاط حكم الرئيس الأسبق قلب الدين حكمتيار عام 1996. كان من الممكن أن يختار كلا الطرفين نهاية واقعية لمفاوضات حقيقية انتهت برحيل الولاياتالمتحدة .. كان من الممكن أن يجلس كلا الطرفين علانية ليعلنوا لاحقا لوسائل الإعلام عن تسوية الصراع بحلول وتعهدات سياسية معلنة قبل الانسحاب الأمريكي وعودة طالبان للسلطة. كبرياء كلا الطرفين لا سيما طالبان صنع مشهد النهاية بما يتسق مع طبيعة حرب دامت 20 عاما.. لكنه كشف عن نسخة جديدة من حركة طالبان تبدو جديرة بلفت الأنظار ومتابعة المراقبين. هذه النسخة الجديدة من طالبان تبدو أكثر برجماتية في رسم مشهد النهاية والانفتاح على الجميع.. لكنها في نفس الوقت تعطي مؤشرات قوية لخوض الحركة لاحقا عملية سياسية أكثر صعوبة وتعقيدا، لعدة أسباب أهمها : أولا : اختفاء العدو الذي كان يوحد جبهتي الحركة الداخلية والخارجية.. وبالتالي مواجهة تحدي مهم يتمثل في تجنب الصدام بين سياسات "طالبان الداخل" التي ظلت تقاتل حتى أخرجت أمريكا من جهة، و"طالبان الخارج" التي جلست في غرف مغلقة مع أمريكا وصولا لمشهد النهاية من جهة ثانية. ثانيا : طبيعة نظام الحكم الذي وعدت الحركة بتطبيقه في الغرف المغلقة لتقاسم السلطة مع باقي مكونات الشعب الأفغاني ومنح حريات لم تكن قد أعطتها في ولاية حكمها الأولى.. هل هي إمارة إسلامية أم دولة ديمقراطية؟. ثالثا : قدرة الحركة على التوازن ما بين تعهداتها باحتواء الجميع لتوحيد كل طوائف الشعب من جهة.. والحفاظ على وحدتها الداخلية التي ارتكزت على مبادئ تأسيسها وعلى رأسها تطبيق الشريعة من جهة ثانية. رابعا: طبيعة المسار الذي حددته المفاوضات في علاقات طالبان المستقبلية مع الولاياتالمتحدة والغرب من جهة، ومحور الصين وروسيا من جهة ثانية، إلى جانب طبيعة العلاقات مع دول الجوار، وقدرة الحركة على إحداث توازن في العلاقات الدولية دون الانخراط في صراعات بين القوى الكبرى. كل هذه المحاور تدور في فلك خروج طالبان من العزلة التي عاشتها على مدار ثلاثة عقود.. لكن التحدي الأول والأخير لبقاء أو تفكك الحركة في هذه اللعبة الجديدة سيكون تحت العنوان الأكبر الذي يخالف طبيعتها وهو :"الاندماج في النظام الدولي".