كل الثورات العربية التى قلبت الموازين المحلية على الأقل، تمت بسرعة كبيرة لم تتح أية فرصة للقوى العظمى المحيطة من فهمها وقراءتها ولا حتى التدخل فى مساراتها، بالخصوص أن هذه القوى راهنت دائما على الأنظمة بدل الشعوب، الموقف الأمريكى ظل مرتبكا حتى آخر لحظة أمام الحالة المصرية، بينما الموقف الفرنسى كان أكثر فداحة عندما اقترحت آليو مارى Mam، مساعدة أمنية ل بن على. الذى يحدث فى ليبيا كان فرصة للقوى العظمى لاستدراك كل الأخطاء السابقة بالخصوص أن ليبيا هى بلد استراتيجى نفطيا ولا يمكن التعامل مع الحالة بأى تهاون، من هنا نفهم التدخل الغربى الذى لعبت فيه فرنسا وبريطانيا دورا حاسما بهدف حماية المدنيين من بطش القذافى وابنه سيف الإسلام، اللذين أظهرا تخلفا سياسيا كبيرا فى التعامل مع الأزمة، رهانهما الوحيد هو القوة وأجهزة إعلامية متخلفة تركز يوميا على القذافى وحب الشعب له أكثر من تركيزها على المأساة التى كانت تقذف بليبيا نحو المزيد من الانهيار والتخلف، وكأن التجارب العربية السابقة لا فعل لها فى الذاكرة الجمعية عند الحاكم العربى المصاب بحالة عمى كلى بما حوله. كان يُفترض أن يقدم سقوط صدام حسين بشكل تراجيدى أكثر من درس وأكثر من فرصة للتعامل مع الظروف بنوع من الحكمة تضع على رأس اهتماماتها حماية بلدانها وشعوبها، لكن يبدو أن ذلك يقع خارج اهتمامات السلطات العربية، الذى حمى مصر وتونس من أى تدخل أجنبى هو سرعة استسلام رؤسائها وقبولهم مكرهين بخيارات القيادات العسكرية، على العكس من ليبيا حيث تسيد النظام القبلى وغياب كلى لأية مؤسسة بالمعنى الحديث للكلمة يصعب من المهمة أكثر. إصرار القذافى على البقاء والاستمرار فى نفس الأوهام النضالية والتخلف فى الرؤية، وكأن العالم لا يتعدى خيمته، سمح بوضع ليبيا الغنية بنفطها تحت مرايا التدخل الأجنبى الذى يُفترض أن يحمى المدنيين من ضربات القذافى، لكن الخشية الكبيرة أن يصر القذافى على البقاء وتتعمق الحماية إلى تدخل نهائى لا أحد يدرك عواقبه الخفية والنهائية. صورة العراق المفكك الأوصال ما تزال فى مخيلة كل عربى، بدأت الضربات الجوية تدك المواقع الاستراتيجية بغطاءات مسبقة من مجلس الأمن الدولى الذى لا يستجيب إلا لإرادات الدول العظمى، وجامعة الدول العربية التى لا دور لها فى كل تاريخها الحديث، إلا توفير مظلة الشرعية. من المؤكد أن الأمر ههنا يتعلق بحقوق الإنسان أمام طاغية مجنون لا قيمة للإنسان فى حساباته، ولكن الغرابة أيضا هى أن هذه الحقوق مهملة فى أرض الله الواسعة بدءا من الصومال، مرورا بالكوت ديفوار وانتهاء باليمن والبحرين وفلسطين وغيرها، الإنسان يتساوى كقيمة فى كل هذه الأمكنة، لماذا ليبيا فقط؟ وبهذا الشكل العنيف الذى يدمر البنية التحتية الليبية التى يمكنها أن تتحول إلى بنية للثوار يمكن تنشيطها بعد الانتصار بقوة وتنفع البلد باختصار الزمن وربح الوقت، ألا يمكن تحجيم الطاغية القذافى بوسائل أفضل وأكثر نجاعة؟ من المستفيد من تدمير البنية العسكرية والمدنية والمطارات؟ لم تعد الضربات الموجهة جراحية ودقيقة تشل الطاغية، إذ بدأ الحلفاء يدخلون حربا حقيقية تأكل كل يوم ملايين الدولارات من الصواريخ الموجهة ضد كل القواعد البحرية والبرية وكل ما له صلة بالبنية التحتية الاستراتيجية. من يدفع ثمن ذلك؟ كالعادة، لن يخسر الحلفاء مليما واحدا وضمانات التعويضات موجودة فى بنوك الغرب نفسه من أموال الشعب الليبى المحجوزة التى يمكن وضعها بسهولة تحت تصرف هذه الدول لتعويض الحرب، وقد تمولها جزئيا بعض الدول العربية بسخاء كبير كما تعودت أن تفعل، من هنا الخوف الكبير من أن تُسرق من الشعب الليبى ثورته وثروته، وتصبح حربا بالوكالة لن تكون أبدا فى صالح الثوار. مرة أخرى الحالة العراقية التى أرجعت البلد أكثر من نصف قرن إلى الوراء تعطينا أكثر من درس، فالمنتصر الأكبر فى مثل هذه الحالات هو لوبى تجارة الأسلحة، شركات صناعة الأسلحة ستكون محظوظة، فصواريخ كروز، ومقاتلات رفال وتورنادو وغيرها، تستعرض قوتها فى سوق التسلح، المواجهات العسكرية هى أهم مركز إشهار فى ظل وسائل الاتصال الواسعة، يُنفَق يوميا على الصعيد العالمى أكثر من مليارى دولار لشراء الأسلحة، والدول النامية هى أكبر مستورد، الشركات الحربية ربحت من الدكتاتور ببيعه السلاح وأجهزة المفاعلات النووية التى دمرها بحثا عن عذرية جديدة، وترسانة صواريخ ودبابات وطائرات يتم اليوم حرقها بشرعية عربية ودولية لتعويضها غدا مع القادمين الجدد. فى النهاية، هى أموال الشعب الليبى التى تأكلها النار. بدأت الثورة الليبية بقسوة بسبب طبيعة النظام الحاكم، ولم تكن ثورة ياسمين مثل الثورة التونسية، ولا ثورة بعطر الفل مثلما هو الحال فى مصر حيث المؤسسات والعراقة التاريخية. الثورة فى ليبيا كانت بلا مؤسسات من ناحية الدولة ومن ناحية الثوار أيضا، وبلا قيادات، وحتى بلا أسلحة لأن الأنظمة القبلية لا تسقط بالمسيرات والتجمعات. وبدا الأمر منذ اللحظة الأولى أن الثورة ستكون طويلة، ومداها سيكون قاسيا. ثم إن السياق العالمى فى حالة ارتجاج وصعوبات اقتصادية وسياسية كبيرة. باراك أوباما يعرف جيدا أن ضحية أمريكية واحدة ستكلفه منصبه المرتبك فى الانتخابات القادمة، ولهذا فهو كمن يقبض على النار بأسنانه. تصريحاته الأخيرة فى التشيلى تبين جيدا هذا التردد: يقول إنه سيحيل مراقبة العمليات العسكرية التى تهدف إلى حماية المدنيين، إلى مشتركين آخرين، قبل أن يعلن أنه على القذافى أن يرحل على الرغم من أن استهدافه لا يدخل فى الأجندة الأمريكية، مما يعطى كل المبررات للقذافى للاستمرار فى التقتيل تحت غطاء حماية الوطن من الصليبيين الجدد، وهو غطاء يبدو هزيلا وميتا وغير مقنع، ولا أعتقد إلى اليوم أن الثوار استفادوا عسكريا فعليا من الضربات الجوية. فرنسا اليمين فى عقدة تمزق فعلى أمام اليمين المتطرف الزاحف بقوة فى المشهد الانتخابى ويحتاج الرئيس ساركوزى إلى فعل استثنائى يحفظ له حظوظه فى الانتخابات الرئاسية القادمة، فكل الاستبيانات الأخيرة تعطى الأفضلية لليمين المتطرف على حساب اليمين التقليدى الذى لم يبق الشىء الكثير من عناصره الديغولية الاستقلالية. حتى عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، أول المرشحين للانتخابات الرئاسية فى مصر، يخاف أن يتجاوزه الحدث فيطلب التدخل بحماس لم يُسبق إليه، ثم يتراجع عندما أصبح التدخل قوة عسكرية فعلية وكأن مسألة حيوية مثل هذه، خاضعة لمزاجه وينسى أنه مجرد أداة ومظلة لا أكثر. المشكلة الليبية تقع فى هذا الوضع المأزقى الخانق. الثورات قاسية ولهذا فهى لا تقاد بالوكالة مهما كانت الأسباب ومهما كان التعاطف مع الشعوب التى تتعرض للشر، وإلا ما جدوى الثورات التى تغير الشعوب والنظم عميقا؟ المساعدة والتضامن العالميان ضروريان أكثر من أى زمن مضى، لكن ما نشاهده اليوم يتجاوز حدود المساعدة إلى التدخل العسكرى؟ الشهداء الليبيون الذين انتفضوا فى البدايات، كانوا يعرفون جيدا أن الثورة طويلة ونفسها ليس هينا وأن طريق الشهداء سيكون مفروشا بالألم والدم والورود أيضا، لأن الانتصار النهائى للثورة ضد الطاغية ليس إلا لحظة زمنية ما دام الهدف المنشود صادقا وحقيقيا. يُخشى أن ما يشهده العالم اليوم هو تقسيم جديد للمنطقة لا يبتعد كثيرا عن سايس- بيكو جديدة بدأت سياساتها ونتائجها وملامحها، ترتسم بقوة فى الأفق منذ مدة: تمزق العراق، السودان وغيرهما. ولهذا ما يحدث اليوم على الأرض الليبية يدفعنا إلى الكثير من التفكير، فبقدر شرعية الثورة وضرورة نجاحها وإسقاط نظام سرق منها عشرات السنين من إمكانية التطور والحياة، يظل سؤال التدخل الخارجى ومآله قائما إذ من حق هذه الثورة العظيمة أن لا تُجهض وتُسرق بيد لا تقدم ما تقدمه لوجه الله، ومن حق الشعب الليبى المهدد فى كيانه أن يُحمى أيضا بالطرق الدولية والعربية التى تحفظ كرامته واستقلاله وثورته؟ المعادلة صعبة، ولكن لا حل آخر، الثورة القاسية أو قبول الوكالة، وفى هذه الحالة الأخيرة التسليم بتدمير البنية التحتية الإستراتيجية من مطارات وموانئ وعمران، التى شيدها الشعب الليبى فى القرن الأخير، ونتائج ذلك وخيمة على الثورة نفسها قبل أن يكون على محيطها الطبيعى والحضارى والتاريخى. الثورة بالوكالة هى اختزال للإرادة الشعبية التى تكون عادة هى منطلق الثورات ووقودها الأول. روائى جزائرى