"وجد القضاء ليقول الكلمة النهائية، كلمة الحق فى أى واقعة تحدث أو نزاع ينشب بين الناس ولا يستطيعون حله وديا، والمفروض أنه بعد أن يقول القضاء كلمته، مستندا إلى الأسباب التى اقتنعت بها المحكمة بما انتهت إليه من حكم أن تسكت الأفواه وتجف الأقلام وتطوى الصحف، عن الحديث عن هذه الواقعة والخوض فى أحداثها".. المستشار محمود الخضيرى نائب رئيس محكمة النقض (المصرى اليوم 2/8/2008م).. هل يتصور أحد أن المستشار الخضيرى الذى بدأ مقالته بما سبق هو نفسه – والذى عودنا بعد اشتباكه مع الواقع السياسى فى السنوات الأخيرة، مع بعض القضاة أن يدلى بدلوه فى كافة القضايا فى السياسية – يقول إنه لم يطلع على الحكم الصادر فى قضية غرق العبارة ولم يطلع على إجراءات المحاكمة ولا على ما جرى فى التحقيقات، إلا بالقدر الذى تناولته أجهزة الإعلام، ورغم ذلك يقول إن القاضى الذى أصدر الحكم فى هذه القضية إما أنه بطل درس القضية دراسة جيدة وكافية، وانتهى إلى هذه النتيجة التى يعلم سبقا أنها تصدم الرأى العام، وتسبب فى هذه الموجه من الغضب لدى الشعب، وإما أنه مسنود بطريقة مستفزة جعلته يتصور أن من يسنده، يمكن أن يحميه من غضب الرأى العام. ورغم دعوة المستشار الخضيرى فى أن القضاء وجد ليقول الكلمة النهائية.. كلمة الحق، وأن تسكت الأفواه وتجف الأقلام وتطوى الصحف، إلا أن رؤيته كأحد رجال المؤسسة العريقة، مؤسسة القضاء والتى بحكم النص الدستورى 165 "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم فى قضاياهم لغير القانون، ولا يجوز لأى سلطة التدخل فى القضايا أو فى شئون العدالة"، تشكك فى أحكام القضاة، ويسقط على القاضى الشاب الذى تصدى بالقضية إما البطولة التى يتمناها الخضيرى، والتى ستصدم الرأى العام وإما الخيانة.. خيانة الأمانة.. وخيانة الكلمة العدل.. خيانة القسم.. خيانة الشعب.. خيانة الدستور، وذلك بأنه من الممكن أن يكون مسنودا بطريقة مستفزة. هل هذا هو القصد.. تكسير هيبة القضاء.. هل هذه رؤية خاصة للمستشار الخضيرى باعتباره مواطناً أم باعتباره رجل قضاء.. وكيف يمنح لنفسه الحق فى التعليق على حكم قضائى، خاصة وأنه يعترف بأنه لم يطلع على إجراءات المحاكمة ولا على سير التحقيقات.. فإذا خرج هذا الكلام من قاضٍ يتبوأ أرقى المناصب الرفيعة فى هذه المؤسسة العريقة، فما بالنا بالمواطنين العاديين الذين تطحنهم الحياة اليومية بظروفها القاسية.. وها هو قاض آخر هو المستشار أحمد مكى نائب رئيس محكمة النقض يطالب المستشار عبد المجيد محمود النائب العام بإصدار بيان عن مصير الاتهامات بالوقائع الأخرى فى قضية غرق العبارة "السلام 98"، المتهم فيها ممدوح إسماعيل وآخرون، مضيفا فى طلبه أنه إذا لم يصدر بشأن هذه الاتهامات قرار، فسيطالب النائب العام بالكشف عن إمكانية تحريك الدعوى وتعديل قرار الاتهام وإضافة هذه الاتهامات للمتهمين. والأكثر من ذلك طالب رئيس الجمهورية والحكومة بإصدار بيان حول ملابسات القضية ومصير لجنة تقصى الحقائق بمجلس الشعب. أعتقد أن السبب الوحيد وراء حملة الاعتراضات التى واكبت الحكم الأخير، خاصة من رجال القضاء أو فيصل محدد منهم هو اشتباك رجال القضاء بالواقع السياسى فى السنوات الثلاث الأخيرة، وتجاوز دورهم من فوق منصة القضاء إلى الالتحام بالشارع السياسى، الذى تحكمه معايير ولآليات متباينة ومختلفة عن تلك التى تحكم العملية القانونية برمتها. إن سيادة القانون تجسد المبدأ البسيط القاضى بأن يعمل جميع موظفى الدولة ومواطنيها على اختلاف مستوياتهم ووظائفهم وتعليمهم ومكانتهم الاجتماعية وانتماءاتهم العقائدية، سواء سياسية أم دينية وغير ذلك فى إطار القانون.. وقد أقرت معايير الدولة المدنية الحديثة المتعارف عليها والتى أنجزت مهماتها بكفاءة كبرت أو صغرت، أن سيادة القانون هو حجر الزاوية للحرية الفردية والجماعية وللديمقراطية على السواء، فبدون هذه السيادة لا يمكن أن تكون هناك حماية للحقوق فى مواجهة السلطة التنفيذية. وكما أشرت فى العديد من مقالاتى السابقة فإنه يجب اعتبار أى محاولات لتجاوز القواعد الإجرائية القانونية، سواء من أشخاص أو مؤسسات منافيا لآليات سيادة القانون.. وهذا بالطبع لا يتم إلا مع توافر هيئة قضائية مستقلة، والتى أشارت إليها المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن الهيئة القضائية بأن تكفل الدولة استقلال الهيئة القضائية وأن يسجل هذا الاستقلال فى دستور البلد أو قوانينه، وهو ما توفر فى الدستور المصرى التى تشير المادة 164 فيه بالتالى "السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون". والسؤال الآن.. كيف يتسنى لمبدأ سيادة القانون واستقلال السلطة القضائية وفق المبدأ الدستورى رفيع المستوى أن تمارس آلياته، إذا كان هناك مجتمع تشوبه سمات الفساد؟ وما هى وضعية هذه الاستقلالية للسلطة القضائية فى مناخ يستغل فيه أصحاب النفوذ، أيا كان وضعيتهم فى المجتمع - سواء سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية – ليحصلوا على ما ليس لهم به من حق أو بث روح اليأس فى جسد البنيان الاجتماعى، مما يؤدى إلى انفصامه وشرذمته، مما يفضى فى النهاية إلى فقدان الثقة فى إحلال الأمان الاجتماعى فى الدولة برمتها وعلى كافة مؤسساتها ولكل أعضاء المجتمع؟؟ لعله من المؤكد أن هذه التساؤلات تنير الطريق أكثر من أية إجابات معلبة أو جاهزة الصنع... يجب أولاً فض الاشتباك بين القضاء والعمل السياسى، فالقانون وظائفه محددة وبالتالى فإن منصات القضاء لها دورٌ محدد، فيما يعرض عليها من قضايا محددة بأوراق محددة وبتهم محددة، وبالتالى فهى تحكم طبقا لهذه الأوراق والتهم، فلا مجال لنقضها إلا عبر الآليات القانونية كما حدث فى القضية الأخيرة عندما قام النائب العام – وفى سابقة نادرة - باتخاذ إجراءات الطعن بالاستئناف على الحكم الأخير ولا يجوز الطعن على أية من الأحكام بغير هذه الطرق القانونية الشرعية. أما وكيف يتم التصدى لظواهر الفساد والمحسوبية والتشوه الاجتماعى على مستويات عدة، فإن هذا مجاله الكفاح السياسى ونضج النخب السياسية وتطوير آليات العمل السياسى والحزبى وتفعيل قيم المشاركة السياسية والمساءلة الشعبية وتوسيع آفاق المجتمع المدنى للمراقبة والمساءلة وتطوير الأداء البرلمانى للمساءلة والحساب وخضوع السلطة التنفيذية لمعايير الدولة الحديثة من قبولها للمساءلة والمحاسبة والمكاشفة عن أخطائها. فالأحداث الكبيرة المؤذية لبنيان المجتمع كغرق العبارة نتيجة لفساد إدارى أو مالى أو مهنى أو سياسى أو انهيار عقارات لتلك الأسباب أو انتشار ظواهر الغش والرشوة وغير ذلك، كلها تقع تحت طائلة القضايا السياسية التى يجب التعامل معها من منطلقات سياسية، قبل أن تكون قانونية وأن تمارس كافة الأجهزة الشعبية والتشريعية دورها ضمن آليات الدولة المنوط بها حماية الأفراد والمواطنين أولا وليس شريكا فى حتفهم...