بينما كانت الطائرات الألمانية تقذف حمم قنابلها على كل شبر فى لندن.. وفى الوقت الذى كان فيه الإنجليز يترقبون اقتحام قوات النازى بيوتهم.. تقدم أحد الأساقفة للمحكمة البريطانية بشكوى ضد الحكومة التى أقامت أحد مطاراتها بجوار كنيسته فحال أزيز الطائرات به دون سماع المترددين على الكنيسة صوت هذا الأسقف وهو يؤدى القداس.. فأصدرت المحكمة قرارا بنقل المطار الحربى إلى مكان آخر بعيدا عن الكنيسة ليتمكن المصلون من أداء صلواتهم فى هدوء وبغير إزعاج، وحين ثار بعض الوزراء على قرار المحكمة التى لم تأخذ فى اعتبارها المهمة الوطنية المقدسة التى يؤديها المطار وطائراته دفاعًا عن شرف الوطن ومصيره.. فاجأ ونستون تشرشل وزراء حكومته بالرضوخ لحكم المحكمة، وقرر نقل المطار قائلا "من الأفضل لبريطانيا أن تخسر الحرب من أن يقول التاريخ أنها لا ترضخ لحكم القانون"!! تذكرت هذه القصة ذات المغزى العميق وأنا أتابع السجال القانونى الذى دار مؤخرا حول الأحكام التى أصدرتها المحكمة الإدارية بوقف الانتخابات فى بعض الدوائر، أو إلغاء نتائجها فى بعضها الآخر وإدراج بعض الأسماء فى كشوف المرشحين، أو تحويل صفة بعضهم الآخر، إلى آخر الأحكام التى أصدرتها المحاكم الإدارية الخاصة بالعملية الانتخابية والتى لم تعرها الحكومة أو لجنة الانتخابات أى اهتمام، واستمرت فى تسيير العملية الانتخابية وفقا لما رآه كل منهم بعد التحايل على تلك الأحكام باللجوء إلى أساليب ملتوية والتفافا حولها بهدف الحيلولة دون تنفيذها حتى نصل إلى إعلان النتائج ليصبح "سيد قراره" هو المختص بالفصل فى صحة العضوية، وهذه قصة معروفة لنا جميعا من واقع خبراتنا الطويلة مع أحكام أصدرتها محكمة النقض – وهى أعلى سلطة قضائية فى البلاد – ببطلان عضوية العشرات من أعضاء المجالس السابقة وحين ذهبت تلك الأحكام إلى رئيس المجلس لتنفيذها تصدى لها بدرع فولاذية اسمها "سيد قراره"! لا جدوى إذن من اللجوء إلى القانون أو الاستعانة بالمحاكم فى بلد لا تقيم فيه الحكومة وزنا للقانون ولا تعنيها سمعتها فى المحافل الدولية ولا فى سجلات التاريخ، ولا حتى الاكتراث بتأكيد شرعيتها والنأى بها عن كل ما يثير الشبهات حولها، فكل شىء يهون لديها فى سبيل "الكرسى" الذى يمكن أن تضحى من أجله بما هو أعلى قيمة وأسمى مكانا. أين إذن حكومتنا من حكومة إنجلترا التى لم يقدم رئيسها الحجج تحايلا على القانون، فلم يلجأ "مثلا" لإلقاء قنبلة – عن طريق الخطأ طبعا – على الكنيسة ليدمرها، ولم يستعمل قانون الطوارئ لإلقاء القبض على الأسقف بتهمة الخيانة أو إثارة البلبلة فى وقت الحرب، كما لم يطلق عليه الصحف "القومية" لتتهمه بالعمالة والتواطؤ مع الأعداء.. ولا حتى استدعاه إلى مكتبه ليستأذنه فى الإبقاء على المطار حتى انتهاء الحرب قائلا له "اللى عايزه البيت يحرم على الجامع".! لم يحدث شىء من ذلك كله، والذى حدث نتيجة لذلك أن إنجلترا كسبت الحرب فعلا.. وكسبت نفسها لأنها كانت بلدا يحترم القانون وتنحنى أعلى الرءوس أمام قدسية القضاء ومن يمثلونه!!