من منا يمكنه أن يقف أمام الله عز وجل ويقر بأنه لم يلوث مياه النيل مثلما كان يفعل الفراعنة منذ آلاف السنين، حسب معتقداتهم الدينية، ومن منا لم يشارك فى تعكير صفو النهر الخالد ولو بمجرد إغماض العين عن تلك الجرائم التى تحدث «على مرأى من الجميع» ضد هذا الشريان المهم لحياة المصريين وهى تغتال واهب الحياة وتضربه فى مقتل دون أن يحرك ذلك لنا ساكنا. أعتقد أن الإجابات ستكون صادمة، فكلنا مسئولون عن هذا الحال الذى وصل إليه نهر النيل والذى لا يسر أحدا، الأمر الذى يجعلنى أكثر تفاؤلا مع بداية العام الجديد الذى حمل معه فى أولى أيامه حدثا مهما بل أراه تخطوة إيجابية حقيقية لتصحيح وضع غير مقبل ووصل إلى درجة ما يجب السكوت عليها أكثر من ذلك. فقد جاءت وثيقة نهر النيل التى أعلنها الدكتور حسام مغازى وزير الرى والموارد المائية بحضور المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء بمثابة طوق النجاة الذى نحن أحوج ما نكون إليه الآن، فالوثيقة وإن كانت تحمل فى طياتها نفس المضمون الذى التزم به المصرى القديم تجاه النهر الذى بلغ به الأمر إلى حد تقديس النيل، فإننا أمام صحوة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ورغبة حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاده، فالدكتور مغازى بهذه الوثيقة المهمة قد وضع يده على موطن الداء لذا فهو يحاول إعادة الهيبة للنهر الخالد من خلال إشراك كل فئات المجتمع وإلزام جميع مؤسسات الدولة بأن تقوم كل جهة بواجبها فى حماية النهر، كل حسب إمكاناته وكل حسب قدراته. واللافت للنظر فى تلك الحملة القومية لحماية نهر النيل من التعديات والتلوث التى أطلقتها وزارة الرى والوارد المائية أنها قد جاءت متضمنة عدة توجهات لتصب فى نهاية الأمر فى هدف واحد وهو حماية النهر وإعادته إلى سابق عهده نظيفا تستمد منه مصر قوتها وقدرتها على الاستمرار، فقد تضمنت الحملة الإعلان عن ميثاق وطنى لحماية النهر من التعديات وذلك فى ضوء الاتفاق على خطة قومية لإزالة كل التعديات على نهر النيل وفق توقيتات زمنية محددة، كما تضمنت أيضا إطلاق لجنة «حراس النيل»، والتى تضم الوزارات المعنية ومنظمات المجتمع المدنى وكل أطياف المجتمع وعلى وجه الخصوص جيل الشباب. وأبرز ما استوقفنى فى هذا الحدث المهم أنه منذ اللحظة الأولى حظى باهتمام كبير من جانب الدولة، وذلك فى دلالة بالغة بأن عام 2015 سيصبح بحق عام حماية النيل، فجاءت الخطوة التى قام بها المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء للتأكيد على هذا المعنى حين قام خلال الاحتفالية، بالتوقيع على وثيقة حماية نهر النيل، مؤكدا أنه وقع على الوثيقة وسيلتزم بها، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير بقوله «وسأشتبك مع كل من يتعدى على النيل»، مناشدا وسائل الإعلام المختلفة أن تكون داعما لهذه الحملة. أما من جانب الدكتور حسام مغازى، وزير الرى والموارد المائية، فقد كرس كل جهوده فى هذه الحملة من أجل تفعيل ما جاء فى المادة الخامسة والأربعين من الدستور التى تؤكد التزام الدولة بحماية نهر النيل والحفاظ على حقوق مصرالتاريخية المتعلقة به، وترشيد استخدامه وتعظيم الاستفادة منه، وعدم إهدار مياهه أو تلويثها، وعلى الرغم من ذلك فإننى كنت ومازلت أرى أن هذه النوعية من الحملات القومية فى حاجة ماسة إلى مشاركة مجتمعية حقيقية من كل أفراد المجتمع خاصة وسط هذا الانفلات الأخلاقى الذى أصبحنا نراه فى كل مكان وفى ظل هذه الهجمة الشرسة التى يتعرض لها نهر النيل صباح مساء، فقد أسفرت التعديات على نهر النيل عن تحرير ما يزيد على 30 ألف حالة تعدٍ خلال السنوات الثلاث الماضية، فى حين بلغت نحو 7500 حالة تعدٍ خلال العام الماضى.. كما أن الدستور كان قد أكد أيضا على حق المواطنين فى التمتع بنهر النيل، وحظر التعدى على حرمه أو الإضرار بالبيئة النهرية، وهو ما يضع على عاتق الدولة مهمة إزالة كل التعديات الواقعة عليه. وهذا فى نظرى يتطلب ضروة تنفيذ إجراءات أكثر جدية لملاحقة مخالفات التعديات على النيل، وتغليظ العقوبات تجاه المخالفين، فى ضوء التنسيق مع كل الأجهزة المعنية بالدولة، وفى مقدمتها القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وشرطة المسطحات المائية والمحافظات، فيما تقوم المحليات بالمتابعة المستمرة بعد تنفيذ قرارات الإزالة فى إطار جدول زمنى، حتى لا يعاود المخالفون البناء والتعدى مرة أخرى وعلى وجه الخصوص هؤلاء الذين احترفوا البحث عن ثغرات فى القوانين لتحقيق مصالحهم وتنفيذ ألاعيبهم للقيام بالتعدى على حرمة النهر الخالد. والحق يقال فإنه على الرغم من ظهور مبادرات من قبل مطالبة بحماية نهر النيل والتصدى للتعديات التى تتم من جانب جهات وأفراد كانوا يستغلون نفوذهم فى عهود سابقة، فإننى أكاد أجزم بأن المسألة هذه المرة على نحو من الجدية ما سيجعل الأمر مختلفا تماما عن ذى قبل فقد علمت من الدكتور حسام مغازى وزير الرى أن الوزارة تقوم بتنفيذ هذه الحملة استنادا الى أسس علمية، حيث يتم تحديد أماكن وقوع التعديات على المجرى باستخدام صور الأقمار الصناعية والصور الجوية على مستوى الوجهين القبلى والبحرى، وذلك بالتنسيق بين أجهزة الوزارة لوضع خرائط مقارنة بين صور الأقمار والتصوير الجوى، لتحديد المستجدات التى يتعرض لها المجرى نتيجة التعديات، بالإضافة إلى القرار الوزارى الخاص بتشكيل لجنة من قطاع حماية النهر ومعهدى بحوث النيل والمساحة لإمداد الإدارات على مستوى الجمهورية، بكافة المعلومات التى تمكن مهندسى الوزارة من سرعة ودقة تحديد المخالفات وحجمها، وذلك لإدراجها ضمن أعمال الحملة القومية لإزالة التعديات على النيل.. مما يجعلنا أمام آليات جديدة يتم التعامل مع الأزمة على أساسها وبمقتضاها ستكون النتائج أكثر إيجابية وغير مسبوقة. وعلى الرغم من ذلك فإننى مازلت أرى أن الدولة بمفردها لن تنجح فى تحقيق الأهداف المرجوة من أى حملة قومية مهما كانت درجة الاستعداد لها، فلابد من تكاتف الجميع ولابد من أن يكون للإعلام دور حقيقى وعلى وجه الخصوص الإعلام التنموى الذى كان ومايزال هو النقطة البيضاء وسط هذا الدنس الذى أصاب العديد من وسائل الإعلام فى ظل غياب المهنية لدى عدد ليس قليل من الإعلاميين الذين تحركهم مصالحهم الخاصة فقط دون النظر الى المصلحة العامة.. كما أرى أهمية التعاون مع وزارة الأوقاف وذلك بأن يقوم أئمة المساجد والدعاة فى التوعية بقضايا المياه، بعيدا عن القوانين والعقوبات وأهمية هذه الخطوة فى نظرى تكمن فى أن الشعب المصرى يستمع دائما لرجال الدين ويأخذ كلامهم من باب التقرب إلى الله وهذه مسألة محسومة وغير قابلة للنقاش. إن ما يقوم به الدكتور حسام مغازى الآن أشبه بثورة حقيقية على الأوضاع المقلوبة ومحاولة جادة لحماية نهر النيل، وكيف لا يكون على هذا النحو وهو أحد أهم وأبرز العلماء فى هذا المجال وهو أيضا الباحث الدءوب والمشهود له بالكفاءة فى دراساته المتعلقة بمياه نهر النيل، فهو مهموم دائما بقضايا المياه التى يمثل نهر النيل أهم وأبرز أطرافها والتى من أجلها تقوم القيادة السياسية الآن بتحركات على مستوى عال على المستوى الدولى من أجل إيجاد حل عادل لقضية سد النهضة التى قاربت بالفعل على الانتهاء وسط هذا التقارب الكبير فى وجهتى النظر المصرية والإثيوبية. لقد تضمنت وثيقة حماية النيل على قسم يشبه إلى حد كبير ذلك القسم الذى كان أيام الفراعنة حينما يتم تعيين شخص ما فى وظيفة بالدولة، حيث يقول بأنه يتعهد بألا يلوث ماء النهر، وها نحن الآن أمام وثيقة تتضمن قسما يسير فى نفس الاتجاه حيث تقول الوثيقة «أقسم بالله العلى العظيم ألا ألوث مياه نهر النيل» وهنا أرى أنه يجب عدم الاكتفاء بتوقيع رئيس الحكومة آو عدد من الوزراء عليها، بل هى وثيقة جماهيرية يجب أن يوقع عليها 90 مليون مصرى وأن تكون المشاركة فيها بالقول وبالفعل أيضا، وهنا تبرز أهمية لجنة «حراس النيل» الذين هم فى الأصل من الشباب المتطوعين فى جميع محافظات مصر ليقوم كل منهم بمراقبة النهر ومتابعة ورصد أية تعديات وإبلاغ جهات الاختصاص للقيام بالإجراءات القانونية بشكل عاجل وقبل فوات الأوان. لابد من الضرب بيد من حديد على كل من يعتدى على النهر فمسألة تغليظ العقوبة باتت أمرا لا مفر منه، خاصة أن مواد قانونى «الرى والصرف وحماية نهر النيل» لم يطرأ عليها أى تغيير منذ 30 عاما مضت، والمواد لم تحمل أى ضوابط رادعة فى مواجهة زيادة حجم التعديات بعد ثورة 25 يناير، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات تلوث مياه النيل بسبب ضعف القانون للمخالفين، حيث لا تتعدى العقوبة مجرد غرامة بقيمة 30 جنيها فى حالات التعدى دون الحبس فى حالات كثيرة، الأمر الذى أدى إلى تجرؤ المتعدين على ارتكاب المخالفات بحق النيل.. وهو ما يدفعنى إلى القول بأن التشريعات المقترحة تعد بحق خطوة مهمة لرد الاعتبار لنهر النيل. لن أكون مجاملا إن قلت إن الدكتور حسام مغازى وزير الرى هو واحد من بين هؤلاء العلماء الذين ينطبق عليهم الحديث الشريف الذى يصنف فيه الرسول الكريم العلماء إلى ثلاثة أنواع، الأول رجل تعلم العلم وكان علمه قاصرا على نفسه لم ينفع به أحد، والثانى رجل نفع الناس بعلمه ولم ينتفع هو به، والثالث رجل تعلم العلم و علّمه فكان خيرهم، حيث تعدى النفع بعلمه نفسه للآخرين، فهو فى نظرى من النوع الثالث لأنه على الرغم من أنه حرص كل الحرص على أن ينتفع الناس بعلمه إلا أنه استفاد منه أيضا فى تحركاته الدءوبة وفى اتصالاته المستمرة مع الجانب الإثيوبى من أجل قضية سد النهضة محاورا ومناقشا يستند إلى علم وخبرة ودراية تعتمد على العلم.