يعتبر حدث «أولمبياد الألعاب الشتوية» فى مدينة سوتشى الروسية، فى رأى إعلاميين روس، أهم حدث فى تاريخ روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، وقد استغرق الإعداد له أكثر من ست سنوات متواصلة، وأنفقت فيه عشرات المليارات من الدولارات - ما يقدر بنحو 54 مليار دولار - وكان الإعداد للأولمبياد الشغل الشاغل للرئيس بوتين طيلة السنوات الماضية حيث كان يعتبره «وجه روسيا الجديد» الذى ستظهر به للعالم كله، ومنذ افتتاح الأولمبياد فى السابع من فبراير والرئيس الروسى بوتين شبه منقطع تماما عن النشاط السياسى، ومتواجد بشكل مستمر فى سوتشى فى جنوبروسيا يراقب الأولمبياد عن قرب، وفى هذا التوقيت الحرج والضيق يصل إلى موسكو وزير الدفاع المصرى المشير عبدالفتاح السيسى ووزير الخارجية نبيل فهمى وكان من المتصور، وحتى من البديهى أن يتوجه الوزيران بعد لقائهما بنظيريهما الروسيين شويجو ولافروف بطائرتهما الخاصة إلى سوتشى للقاء الرئيس بوتين، هذا إذا كان الأمر طارئا ويستحق اللقاء، خاصة أن أكثر من أربعين رئيسا وأميرا وحاكما ورئيس وزراء دولة أجنبية كانوا فى سوتشى الأسبوع الماضى فى افتتاح الأولمبياد، وبعضهم مازال هناك يتابع فرق بلده، لكن أن يترك الرئيس بوتين الأولمبياد ويحضر إلى موسكو خصيصا للقاء الوزيرين المصريين فهذا أمر غير عادى وأثار اهتمام الكثير من المراقبين ووسائل الإعلام داخل روسيا وخارجها، ورأى البعض أن الأمر يعكس اهتماما خاصا من روسيا والرئيس بوتين بالتحديد بشخص المشير عبدالفتاح السيسى، المرشح الأوفر حظا لرئاسة مصر قريبا، بينما رأى آخرون أن الأمر يعكس اهتماما بالغا لدى روسيا بمصر الدولة المحورية الكبيرة فى الشرق الأوسط. أيا كان أحد الرأيين أصح أو كلاهما معا، فإن لقاء بوتين والسيسى لم يكن عاديا بكل المقاييس، وأكثر ما لفت الانتباه والاهتمام لدى دوائر كثيرة هو خروج الرئيس بوتين عن تحفظه ودبلوماسيته المعهود بها وتعبيره عن ترحيبه بقرار المشير السيسى الترشح للرئاسة، هذا القرار الذى لم يعلن بعد رسميا فى مصر قبل هذا اللقاء، بل يزيد الرئيس بوتين، الذى يعلم جيدا أن هناك مرشحين آخرين للرئاسة ويمثلون تيارات سياسية أخرى فى مصر، فيخاطب المشير السيسى وكأنه الرئيس القادم فعلا لمصر متمنيا له «التوفيق فى تحمل المسؤولية عن مصير الشعب المصرى»، وهو الأمر الذى أثار دهشة البعض، كما أثار امتعاض واستياء البعض أيضا، ومنهم أصدقاء لى إعلاميون فى موسكو ليسوا من الإخوان بل من تيارات أخرى لا تؤيد ترشح السيسى للرئاسة، اعتبروا هذا من بوتين خروجا عن الدبلوماسية ومصادرة لمبادئ الديمقراطية، وكان ردى عليهم أن «لا أحد فى حكام العالم الآن يعرف مصلحة بلاده مثل بوتين الذى لا يفعل شيئا أبدا بشكل عفوى، بل يحسب تماما كل كلمة قبل أن يقولها، وهو أدرى، حتى من كثير من المصريين، بأحوال مصر الآن والمخاطر التى تتهددها». من الواضح للجميع فى الزيارة أن موسكو ترحب بالمشير السيسى رئيسا لمصر، وأنها على استعداد تام لدعمه ومساعدته فى تحمل هذه المسؤولية الكبيرة، هذا الترحيب ظهر بوضوح قبل الزيارة بأيام قليلة فى افتتاح الأولمبياد فى سوتشى على لسان وزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو، الشخص الثانى فى روسيا الآن الذى يقال إن بوتين يعده للرئاسة من بعده وكان شويجو بالزى الرياضى يحمل شعلة الأولمبياد مع وزير الخارجية لافروف حيث قال للصحفيين: «لقد سعدت لسماع نبأ ترشح عبدالفتاح السيسى للرئاسة فى مصر، وأعتقد أنه الشخص المناسب الآن فى مصر لتولى هذه المسؤولية»، وهذا ما عبر عنه الرئيس بوتين فى حديثه للمشير السيسى قائلا: «أعرف أنكم قررتم الترشح لمنصب رئيس الجمهورية.. إن إلقاء المسؤولية عن مصير الشعب المصرى على عاتقكم قرار فى غاية المسؤولية.. أتمنى لكم باسمى شخصيا ونيابة عن الشعب الروسى التوفيق»، هذه الكلمات التى قطع الرئيس بوتين آلاف الأميال من سوتشى إلى موسكو ليقولها للمشير السيسى تعكس بإيجاز وجهة النظر الروسية فى الشخص والنظام الذى يستطيع تحمل مسؤولية بلد كبير ومحورى إقليميا ودوليا مثل مصر، فالروس ليست لديهم عقدة العرب «الإعلامية» التى تسمى «حكم العسكر»، بل على العكس ينظرون إلى العسكر على أنهم الأكثر وطنية وولاء وبذلا من أجل الوطن، وكلنا نعلم مدى التكريم الذى يحظى به العسكريون الروس أثناء عملهم وبعد تقاعدهم، وموسكو ترى التعامل مع العسكريين أفضل وأكثر ثقة واستقرارا من غيرهم من السياسيين ولها فى هذا الأمر تجارب خارجية كثيرة، بعضها على الساحة العربية، إلى جانب استيعاب موسكو للدور الكبير الذى قام به المشير عبدالفتاح السيسى والجيش المصرى فى ثورة 30 يونيو، والشعبية الكاسحة للسيسى والجيش فى الشارع المصرى الآن، جاء اهتمام روسيا والرئيس بوتين بالتحديد بلقاء المشير السيسى على هذا النحو الذى مازال يثير الجدل والنقاشات والتحليلات والآراء داخل روسيا وخارجها. لقد نشرت الصحف ووسائل الإعلام فى العالم كله تفاصيل الزيارة ولقاء الوزيرين المصريين السيسى وفهمى بالرئيس الروسى بوتين، وتركز الحديث على التعاون العسكرى، وهذا ما بدا واضحا فى الزيارة التى قام بها وزيرا الدفاع والخارجية الروسيين لمصر فى نوفمبر الماضى، حيث صرح وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف للصحفيين بعد اللقاء قائلا: «إن الجانبين الروسى والمصرى اتفقا على الإسراع بإعداد وثائق خاصة بالتعاون العسكرى الفنى»، وفيما يخص التعاون التجارى والاقتصادى بين روسيا ومصر ذكر لافروف أن اللجنة الوزارية المشتركة للتعاون التجارى والاقتصادى ستعقد اجتماعا جديدا لبحثه فى نهاية شهر مارس المقبل، هذا الاهتمام الروسى بأولوية التعاون العسكرى مع مصر فى الفترة الحالية بالتحديد يرجع للقلق الواضح لدى موسكو من الأوضاع الأمنية فى المنطقة وفى مصر بالتحديد، وهو ما عبر عنه الرئيس بوتين فى أول تصريحات رسمية صدرت عنه تتعلق بالأحداث فى مصر، وكان ذلك بالتحديد فى مؤتمر صحفى فى السابع من سبتمبر الماضى فى ختام قمة العشرين فى سان بطرسبرج، حيث قال بوتين إن «الوضع فى مصر يثير قلقنا الكبير»، وإن بلاده تتمنى أن تستقر أوضاع مصر فى أسرع وقت، مضيفا: «وسوف نساعد على ذلك بشتى السبل» وأشار بوتين إلى أن مصر تواجه خطر الإرهاب بالتحديد فى سيناء، وأضاف قائلا: «إن افتقار مصر، وهى دولة العالم العربى المحورية، إلى الاستقرار هو الخطر على مصر والمنطقة قاطبة لأنه من المستحيل التكهن بتطورات الوضع فى المنطقة عندما تكون مصر ضعيفة». ورغم الأخبار المتداولة عن صفقات السلاح التى ستقدمها روسيا لمصر، والتى بالغت بعض وسائل الإعلام فى تضخيمها وذكرت أنواعا من الأسلحة لا حاجة لمصر لها الآن مثل منظومات الدفاع الصاروخية والمقاتلات الجوية الحديثة، وهى أسلحة لا تصلح إلا فى الحرب مع جيوش نظامية وليس مع مجموعات إرهابية، لكن حديث المشير السيسى فى اللقاء مع بوتين كان يتركز حول قضية الإرهاب، حيث أكد أن القوات المسلحة المصرية قادرة على ضمان الأمن فى البلاد وأن المجتمع المصرى يسعى للتطور البناء وتعزيز الأمن باعتبار أن هذه المهمة تكتسب أهمية كبرى ليس بالنسبة للبلاد فحسب، بل للمنطقة بأكملها، وأشار إلى أن الإرهاب فى مصر يهدد المنطقة بأكملها، داعيا لاتخاذ جهود جماعية من أجل التصدى للتحدى الإرهابى. مصر الآن فى أمس الحاجة للتعاون الروسى فى مكافحة الإرهاب، سواء بالدعم العسكرى أو التدريب الروسى للقوات العسكرية المصرية على مكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذى أثبت فيه الروس كفاءة كبيرة فى منطقة شمال القوقاز الممتلئة بالكثير من البؤر الإرهابية المتطرفة، وأكثر ما تحتاجه مصر فى هذا الشأن، وأكد عليه خبراء ومراقبون روس هو التعاون الاستخباراتى، حيث لدى أجهزة الاستخبارات الروسية كفاءة عالية معترف بها عالميا فى التعامل مع الإرهاب الدولى، وقد غيرت المعلومات الاستخبارية الروسية موازين القوى على الساحة السورية العام الماضى بمساعدتها للنظام السورى فى كشف بؤر وتشكيلات الجماعات الإرهابية وأماكن تسللها من الحدود السورية، وهذا ما أكدته جهات غربية. مصر بحاجة ملحة أيضا للدعم الروسى فى التعامل مع إسرائيل التى تحوم حولها شبهات وتساؤلات كثيرة حول ما يحدث فى سيناء من أعمال إرهابية، ومن المعروف أن العلاقات الروسية - الإسرائيلية تشهد الآن تطورا ونموا ملحوظا يثير حتى قلق واشنطن، كما أنه يقال فى واشنطن أن المخابرات الروسية تخترق الموساد الإسرائيلى بشكل كبير عن طريق المواطنين الإسرائيليين من أصول روسية وسوفيتية والذين يتجاوز عددهم المليون داخل إسرائيل، ومن المعروف أن تل أبيب تولى اهتماما كبيرا لروسيا الأن وتحاول إرضائها بشتى السبل والوسائل بالشكل الذى دعا البعض من المحللين للقول أن إسرائيل تعد من الآن لأن تكون روسيا هى المحطة الاستراتيجية الثالثة لها بعد بريطانيا فى الأربعينات والخمسينات من القرن الماضى، ومن بعدها المحطة الأميركية التى يبدو أن إسرائيل تستعد من الآن لمغادرتها قبل انهيارها، وهذا ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلى «السوفييتى الأصل» أفيغدور ليبرمان عندما قال أن روسيا هى الخيار الاستراتيجى القادم لإسرائيل، وهو التصريح الذى أثار غضب واشنطن وكتبت عنه الواشنطن بوست تصف ليبرمان بأنه «عميل كى جى بى السابق»، ولم يزر ليبرمان الولاياتالمتحدة حتى الآن. تطور العلاقات الروسية - الإسرائيلية أمر مهم جدا بالنسبة لمصر، حيث إنه لا يمنع إطلاقا من التعاون الروسى مع العرب عموما ومع مصر بشكل خاص، وفى نفس الوقت يعطى بعض الاطمئنان والضمان لإسرائيل فى ألا تفكر مصر فى شن الحرب عليها، لأنه ببساطة لن تسمح روسيا بذلك، وبالتالى فإن الخيار الأفضل الآن لمصر لدرء أى خطر أو مؤامرات من جانب إسرائيل، سواء فى سيناء أو داخل مصر، هو التعاون الأمنى والعسكرى والاستخباراتى مع روسيا، وعلى ما يبدو من اللقاءات المصرية الروسية أن هذا هو الهدف الأول وربما الأوحد، الآن فى العلاقات الروسية المصرية، ويأتى بعده التنمية والبناء، واللذان لن تتخلى روسيا عن مصر فيهما لإيمانها الراسخ بأن أول مصادر الإرهاب والتطرف هو الفقر والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية.