فى الفترة الأخيرة تقابلت مع الكثير من البشر من أنماط وخلفيات ثقافية مختلفة.... ولاحظت ولعا غريبا عند غالبية الأشخاص – وخاصة الجنس اللطيف منهم – بمسألة السن...أقصد عُمر الإنسان. ورغم أن السؤال عن عُمر الفرد – خاصة لو من النساء على وجه الخصوص أيضا – كان وسيظل أمراً محظوراً أو " تابو" كما يقولون أو ربما يدّعون، إلا أن التطرق لهذا الأمر لا يخلو منه أى تجمع أو لقاء بين البشر، لاسيما من يتعارفون للمرة الأولى، وهو الأمر المثير للحيرة، والذى يرجع غالبا إلى الفضول البشرى وولع البشر بمعرفة خبايا الآخرين. فغالبا ما يدور هذا الحوار على ألسنة بعض النساء كنوع من الفضول الصريح " انتى عندك كام سنة...ياااه ده شكلك أصغر بكتير..." ...ثم تعلو بعدها ضحكات المجاملة، أو ربما ابتسامات الغيرة الصفراء. أو ربما بشكل أقل مباشرة " هو انتى كنتى دفعة سنة كام فى الثانوية العامة؟" ، أو " اتخرجتى امتى من الجامعة؟؟" ، أو بقالك كام سنة متجوزة؟؟؟" ، أو "معقولة ده ابنك ما شاء الله شكلكوا أخوات والله" ...إلى آخر هذه الأساليب الحوارية الملتوية من بعض النساء! وقد يدور الحوار نفسه بين الرجال ولكن بشكل عارض وبنوايا غالباً ما تكون طيبة، فعادة ما يكون الرجال أقل حساسية لمثل هذه الأمور، بل ودائماً ما يكون تقدم الرجل عن غيره فى العُمر مؤشرا للنضج والخبرة المهنية والحياتية. أما بعض الفنانات، فقد يكذبن أحياناً بشكل صارخ بشأن أعمارهن برغم ما فى ذلك من افتراض الغباء الشديد فى الجمهور، فتاريخ الفنانات معروف، وكذلك علامات تقدم العُمر التى لا تخفيها لمسات التجميل مهما بلغت براعتها. والحقيقة أن من تفعل ذلك إنما تنكر سنوات عاشتها وخبرات اكتسبتها، من المفترض أن تضيف إلى القيمة الفنية والإنسانية للمرأة ولا تنتقص منها. وعلى العكس فقد اعتدنا فى فترات الطفولة على التباهى بالسن، ففى الصف الدراسى الواحد قد يفتخر التلميذ الذى يسبق زملاءه ولو بشهور قليلة على أساس أن " اللى أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة "، وقد سمعت هذه المقولة كثيرا من زميلاتى فى المرحلة الابتدائية، بل وكانت بعضهن تكملن حساب فارق الخبرة بطريقة طريفة وجادة جداً فى آن " أنا أكبر منك بشهرين يعنى أعرف أكتر منك بستين سنة". وكنت بسذاجة هذه المرحلة أتلقف هذه المعلومة بتصديق بل ويقين، وكأنها من المسلمات.... ويظل هذا حال الصغار لحين الوصول إلى مرحلة المراهقة، وربما أوائل العقد الثالث من العمر، فعندما يتخطى الفرد سن العشرين يتمنى أحيانا أن يتوقف عداد العُمر عند هذا الحد. ويبدأ التفاخر بين زميلات الدراسة أو العمل على أساس أن الأصغر سناً هى الأوفر حظاً ، وتفرح المرأة وتشعر بالإطراء عندما يعتقد البعض أنها أصغر من عمرها الحقيقى ولو بسنة واحدة فقط !! وقد شغلتنى مسألة تخمين أعمار البشر هذه منذ زمن طويل، فكنت منذ طفولتى – وحتى الآن على وجه الدقة – أتعجب من حال أبطال الأفلام العربية القديمة ف (ليلى مراد)، و (أنور وجدى) فى فيلم ليلى بنت الأغنياء، وكذا بنت الأكابر، كانا فى شرخ الشباب ومقتبل العمر أو سن المراهقة ، وهو سن الزواج بالنسبة للفتيات وقت إنتاج الفيلم، ومع ذلك فإن هيئتهما توحى بالهيبة والوقار وكأن عُمر الواحد منهما أربعين عاما.. وتوقعت وقتها أن هذا ما هو إلا نوع من "الاستعباط" من صنّاع الأفلام، لكم من غير الممكن أن الاستعباط يشمل جميع القائمين على الأفلام القديمة، فكل فنانى هذا الجيل ، حسين صدقى ويوسف وهبى وعماد حمدى ويحيى شاهين ... وغيرهم طبعا ... كانوا على نفس المنوال، فمثلاً كمال الشناوى فى فيلم الأستاذة فاطمة كان طالبا وكان "طول بعرض" ، وليس مثل طلبة أيامنا هذه، وعماد حمدى قام ببطولة فيلم "المراهقان" أمام يحيى شاهين وكان عُمره الذى ذُكر فى الفيلم نحو خمسة وأربعين عاما مع أن قصة الفيلم تصوره كشيخ مسن ، ظهره محنى ونظره ضعيف، وفى نهاية أيامه!! وبالتفكير فى هذا الأمر نجد أن النظرية البديهية لتفسيره هى نظرية علمية مؤداها أن العمر الافتراضى للإنسان قديما ربما كان أقل مما هو عليه الآن، وهو أمر طبيعى بسبب تطور العلم وبالتالى الرعاية الصحية فى العصر الحالى، وكذلك الوعى الرياضى وعمليات التجميل ، ولا أعنى هنا سهولة هذه العمليات ، ولكن كثرة الإقبال عليها والولع بها، ومع هذه الأمور يمكن للفرد أن يبدو أصغر من عُمره الحقيقى. كن على عكس النظرية السابقة، هناك من يؤكد أن عصر السرعة الذى نحياه بكل تعقيداته قد جاء بالأذى للإنسان، فقد تلوث المناخ الذى نحيا به .. وبسبب تقدم العلم أيضاً، وتلاعب الإنسان بالطبيعة، انتشرت أمراض القلب والسرطان وغيرها من الأمراض القاتلة، بل وقد طور الإنسان أنواعا من الفيروسات فى المعامل وصنعها صنعا. هذا الاستنتاج جعلنى لا أؤمن تماما بالنظرية العلمية حول العمر الافتراضى للإنسان . يبدو أن الأمر يتعلق ب"الإحساس الداخلى" للإنسان، وإدراكه لعمره وتصوره لحدود دوره الذى يفرضه هذا العُمر، وماذا يعنى هذا بالنسبة له وللآخرين...نعم ربما هذه هى النظرية الأدق...أى التفسير النفسى والاجتماعى للأمر، وليس التفسير العلمى.. فعندما يكون من المعتاد للفتاة التى لم تتم عامها السادس عشر أن ترتدى فستانا أنثويا، وحذاء له كعب عالى وتصفيفة شعر معقدة، فمن الطبيعى أن تشعر أنها فى قمة الأنوثة، وطالما هى وصلت (للقمة) فمن الطبيعى أن يبدأ الهبوط التدريجى للمنحنى أو العد التنازلى بعد الوصول لهذه القمة، فهى تتزوج فى مثل هذا العمر أو ربما قبل أن تصل إليه، وبالتالى تصل إلى سن الثلاثين وقد أنجبت دستة من العيال أكبرهم فى "البكالوريا" ، فتشعر أن دورها قد انتهى أو شارف على الانتهاء، أو على الأقل أنها أصبحت فى منتصف العمر، وقد تصبح "جدة" ولديها أحفاد قبل أن تبلغ الخامسة والثلاثين ربيعا أو قل خريفا... أما الحال الآن فى ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية المرتبكة، هو أن الفتاة تتزوج فى عمر الخامسة والثلاثين بعد ضغط الأهل والخلان عليها لتقبل بأى عريس قبل أن تبور... لذلك فهى تظل مدخرة جمالها وأناقتها ورشاقتها أيضا من أجل عريس الغفلة المنتَظر الذى قد لا يجيء أبدا. الوضع نفسه بالنسبة للرجل، فعندما كان يصل "رجل الزمن الماضى" إلى عُمر الثامنة والثلاثين مثلا، فمن المعتاد أن يكون أولاده قد كبروا، وحقق هو أحلامه المهنية بالوصول إلى الدرجة الأولى فى وظيفته الميرى، ويرجع من عمله يوميا لابسا طربوشه حاملا جريدته وبطيخته، راضيا عن نفسه...فماذا يكون شعوره النفسى وقتها؟ بالتأكيد هو أن دوره أيضا قد شارف على الانقضاء، وعُمره كذلك (وذلك وفق التفسير العلمى وليس النفسى)، فلماذا يهتم بمظهره أو يحاول التخفيف من حدة انتفاخ "الكرش" الذى اعتاد عليه لسنوات. يبدو أن هذه النظرية النفسية والاجتماعية المتعلقة بإدراك الفرد لحدود دوره هى التى دفعت البعض فى الغرب للإيمان بالمقولة التى انتشرت فى السنوات الأخيرة، التى تقول بأن سن الستين فى الوقت الحالى يوازى سن الأربعين فى القرن الماضى ! وإذا كان الأمر كذلك فيمكن أن أضيف أن سن الأربعين الآن هو مُعادل لسن العشرين فى الزمن القديم الجميل، ولا عجب أن أغلب النساء الغربيات صرن ينجبن الطفل الأول بعد سن الأربعين كما يؤكد الأطباء هناك... والرؤية الإيجابية للأشياء وللحياة وفق هذه النظرية النفسية تقتضى أنه عندما ينهى الإنسان أدواره وواجباته تجاه أولاده ويصل إلى سن التقاعد، تكون وقتها الفرصة أمامه وليست خلفه، ليس فقط للراحة والتأمل، بل لاكتشاف نفسه من جديد ، بل ومفاجأة نفسه بمواهب وأحلام ومناطق جديدة فى شخصيته لم يرها من قبل ولم تتسن له الفرصة لاكتشافها... وإذا تبنى كل واحد منا هذه النظرة ، وأصبحنا أكثر تسامحا وقبولا بل وتشجيعا لها سنجد أن الحياة "الحقيقية" تستحق أن تبدأ بعد الستين كحقيقة وليس مجرد كلام.