أنت تقود سيارتك وسط شارع مزدحم، حركة سير العربات للأمام جامدة ولا تكاد تتحرك حتى تقف مجدداً، وكلما توهمت أنك ستنطلق فإذا بك تضع قدمك على عجلة الفرامل وتنتظر من جديد، ستقرر أنه لا فرصة للتهور أو التفكير خارج الصندوق، فأنت لا ترى حتى الصندوق كي تفكر فيه وفيما خارجه، فجأة ستسلك طريقاً آخر ولا تسأل كيف انفتحت الطرق ولا تسأل كيف كانت مغلقة، فالسؤال لن يغير من الأمر في شيء، هذا الموعد الذي كنت قد بدأت في التفكير في كيفية الاعتذار عنه، ستصله في موعدك مثل البقية، هذا ما حدث في ملحمة بايرن - يوفنتوس. حدثني أولاً عن التاريخ، بايرن ميونخ لا يتأهل في ملعبه إياباً أمام منافس إيطالي حتى لو فاز ذهاباً بهدف في الوقت بدل الضائع لماريو جوميز وأنهى الشوط الأول متقدماً 2-1 هذا سيناريو مواجهة إنترناسيونالي في نفس الدور قبل خمسة أعوام ومن قبلها سيناريوهات كثيرة كان فيها الطليان هم من يجوبون ملعب العملاق البافاري احتفالاً حين يقرر الحكم إطلاق صافرة النهاية، أما يوفنتوس فهو من هزم بروسيا دورتموند في سيجنال إدونا بارك 3-0 إياباً ليؤكد تأهله في مواجهة نفس الدور الموسم الماضي. لا.. من الجهة المقابلة سيأتي من يطلب الحديث عن الغيابات في الجانب الإيطالي، المهاجم باولو ديبالا صاحب هدف تقليص الفارق ذهاباً، والمدافع المهم جيورجيو كيليني ولاعب الوسط البارز كلاوديو ماركيزيو في فريق لا يمتلك وفرة في النجوم وإن كان يمتلكها محلياً فهي لن تكون كذلك أوروبياً، حدثني عن الساعة الأولى في لقاء الذهاب وكانت المجموعة الغائبة على أرض الملعب، ولكن في هذه المواجهات التاريخية لا يكون المنطق الكروي حاضراً طوال الوقت. ولكن تكون نقطة البداية من السيناريوهات القديمة موضحة للقصة بشكل أكبر، كيف؟ السيناريو كان ريال مدريد 2014، مواجهة 4-0 الشهيرة في إليانز آرينا ثنائية في أقل من نصف ساعة منعها من أن تكون رباعية هدف صحيح ألغاه الحكم بداعي التسلل وتصدي خرافي لمانويل نوير لكرة كان خوان كوادرادو على يقين من أنها في المرمى حين سددها من داخل الست ياردات. هجومياً، كنت تشعر بالعجز إذا ما كنت مشجعاً بافارياً وواقعياً فالثنائي التهديفي المحلي والأوروبي توماس مولر ومن أمامه روبيرت ليفاندوفسكي لا يفعلان ما يذكر على مدار ثلاثة أرباع اللقاء، إنها مباراة مدريد ومنها شيء من لقاء ميلان 2007 في سيناريو التعادل 2-2 وتلقي ثنائية مبكرة. إن كل هجمة ليوفنتوس والنتيجة 2-0 هي بمثابة صافرة النهاية والخروج النهائي للبايرن في ظل دفاعات ظهرت في الهدف الثاني أسوأ كثيراً مما كانت عليه في ليلة 29 أبريل 2014 في موسم جوارديولا الأول، ويبدو أن الدفاع الألماني مع بيب لم يطرأ عليه أي تحسن فعلي مهما تغيرت الأسماء ولكن. لست في حاجة لقراءة كتاب خوارق اللا شعور لعلي الوردي، كي تعرف ماذا حدث، عليك أن تقرأ عن كيفية تغيير لحظة واحدة لكل شيء في كرة القدم، عن تغيير تاريخ البايرن ضد الطليان في الإياب الألماني، عليك أن تتذكر أن ريال مدريد في نهائي 24 مايو 2014 كان متأخراً بهدف جاء قبل انتهاء الشوط الأول بتسع دقائق واحتاج للدقيقة التي سجل فيها توماس مولر هدف الملحمة ليثأر من خسارة نهائي كأس الملك في البيرنابيو قبل عام أمام نفس الفريق وعلى نفس الملعب ثأر كريستيانو رونالدو من خسارة نهائي أمم أوروبا 2004 قبل عشرة أعوام كاملة أمام منتخب يوناني خارج الحسابات ولكن في كرة القدم هناك حسابات مختلفة لكل شيء وفي الليجا قبل هذا اللقاء لم يكن الريال قد فاز على أتليتكو في هذا الموسم وإن كان قد فاز مرتين في الكأس فهذا سببه أن تركيز أتليتكو في هذا الموسم كان منصباً أولاً على لقب الليجا الذي حققه وثانياً على الشامبيونز الصعب الذي واجه فيه برشلونة ثم تشيلسي جوزيه مورينيو، ولكن ينقلب التاريخ في هذه اللحظات الملحمية من رأس راموس لرأس مولر. سيقول التاريخ أن بايرن ميونخ ظهر مهلهلاً على المستوى الدفاعي في عهد بيب جوارديولا وقد يزداد التأكيد على هذا لو أصبغ كارلو أنشيلوتي النهكة الدفاعية لبلاده على الفريق في المواسم المقبلة، ولكن قف، فالتاريخ سيقول أن بيب كتب تاريخاً لبايرن بالتأهل 3 مرات لربع النهائي ليصبح بايرن أول فريق يتأهل 15 مرة لربع نهائي الشامبيونز في نظامه الجديد ولأول مرة بايرن يسجل في 7 مباريات متتالية على ملعبه بالشامبيونز 3 أهداف أو أكثر، حدثني عن هذه الأرقام الهجومية في عهد المدرب الإيطالي في الموسم المقبل، وبات الفريق قريباً من لقب البوندزليجا الرابع في واحدة من أفضل فترات دورتموند على مر التاريخ ليكون البافاري في عز تألق غريمه أول فريق يحقق البوندزليجا 4 مرات متتالية إن استمر على صدارته لترتيب أندية البطولة. بين عجز بايرن ميونخ الهجومي أمام دفاعات تبدأ من عند مانويل نوير وجوشي كيميتش عند استلام الكرة وثنائية مبكرة كادت أن تكون رباعية وخروج ظهر على تعابير وجه بيب جوارديولا، تأتي لحظة فيتغير كل شيء، وهذا هو تصريح بيب تعليقاً على الملحمة: "هذه هي كرة القدم. في هذه الدقيقة أنت تلعب بشكل سيء، وفي التالية أنت تقدم أفضل الأداء.". هذا ما حدث، هذه الدقيقة هي عندما حول كينجسلي كومان كرة كانت بين أقدام الدفاع الإيطالي استخلصها فريقه وحولها له والوقت قد تجاوز التسعين دقيقة وأرسلها الفرنسي بدوره عرضية على رأس مولر فتحول بايرن من فريق خرج من المسابقة في تلك اللحظة إلى أحد المنافسين على اللقب. هنا يبدأ الانهيار، بدنياً بدأ الانهيار في السقوط المتوالي في نهاية اللقاء للاعبي البيانكونيري، ولكن نفسياً كانوا الأقرب وإن قلص هدف ليفا الثقة نوعياً، نفسياً كان جيان لويجي بوفون هو الحارس الإيطالي المخضرم الذي يستقبل الكرة على الصدر ويصبر عليها كثيراً وفي هذه اللحظات أنت تفكر في أرقام بوفون المحلية وحفاظه على نظافة شباكه عشر مرات، عن فشل الألمان أمامه في نصف نهائي مونديال 2006 ويورو 2012، نفسياً كنت تشعر أن اليوفي قادر على استخلاص الكرة وهي بين أقدام لاعبي بايرن وأن الهدف الثالث من السهل أن يأتي في أي لحظة، كل هذا انتهى عندما سجل مولر الهدف الثاني. إذا ما تابعت الوقت الإضافي، وفيه يلعب اليوفي بأفضلية تجابه الأفضلية النفسية للبايرن بعد العودة، هي أفضلية أن هدف لكل فريق سيعني تأهل اليوفي، لكن بدنياً وفنياً تفوق البايرن وكان للثلاثي البديل دوراً وللتغير النفسي التام دوراً، حينها تبدأ تشعر أن مانويل نوير وهو يتصدى لكرة ماريو ماندزوكتيش هو بطل العالم الحالي وأفضل حارس في العالم وتتذكر صولاته وجولاته في مونديال البرازيل وتصدياته التاريخية أمام فرنسا والأرجنتين وهنا يتسرب فريق بايرن من وسط دفاعات اليوفي فنجد كينجسلي كومان يعدو وسط دفاعات الطليان بثقة ويسدد بثقة هدفاً لم يكن يتخيل أن يسجله في حارس مثل بوفون لو كان نفس الموقف تكرر قبل لحظة الملحمة أي قبل هدف مولر. كيفما سجل كومان هدف بايرن الرابع، سجل من قبله كوادرادو هدف اليوفي الثاني، في كلتا الحالتين الهدف يعزز الفارق إلى هدفين ويجعل المهمة الأخرى تبدو مستحيلة، هذا التحول من النقيض للنقيض هو بالتحديد، اللحظة الملحمية التي سجل فيها توماس مولر الهدف الثاني. لم تكن لتجد تياجو ألكانترا وتوماس مولر يلعبان هات وخذ داخل منطقة الجزاء التي لم يكن فريقهما قادراً على الوصول لحدودها في النصف الأول من الوقت الأصلي، ولكن بعد اللحظة الملحمية بات كل شيء ممكناً. ربما زادت متعة هذه المواجهة عن متعة مواجهة يوفنتوس ومانشستر يونايتد (2-3) في إياب نصف نهائي دوري أبطال 99، فالتحول يومها لم يكن بهذه الدراما السينمائية، انظر على وجه بوفون وتعابير باتريس إيفرا وتذكر توماس مولر وبيب جوارديولا، ثم كيف انقلبت الآيات ستدرك.