تحقق في لبنان ما كان يهمس به الوسط السياسي القريب من «حزب الله» منذ قرابة السنة: تأجيل الانتخابات النيابية 17 شهرًا (بدل السنتين)، وتطلّب الأمر أشهرًا من المناورات والمسرحيات التي أنهكت المجتمع اللبناني والمواطنين وطبعًا القوى السياسية قاطبة، واحتاج الأمر إلى التأجيج الأمني من أجل إقناع من لم يقتنع، سواء عبر التفجيرات الموسمية في مدينة طرابلس الشمالية، أم في غيرها من الحوادث المتنقلة التي تستدرج ردود الفعل، في حلقة جهنمية وظيفتها التمويه على أصل التويتر ومصدره. ومنذ البداية كانت الرسالة التي أُبلغت إلى جميع من يعنيهم الأمر: «حزب الله» ليس معنيًا بالوضع الداخلي اللبناني واهتمامه ينصبّ على أمر واحد هو سورية ومواجهة محاولات إسقاط النظام فيها، وجهده وعقل قيادته فيها، وهو منغمس في أزمتها ولا يعير أهمية إلى أي أمر آخر، نظرًا إلى اعتباره المعركة فيها معركة مصير لا تحتمل الخسارة أو الضعف، فكيف بالانكسار الذي تحدث عنه أمينه العام السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير السبت الماضي، شاحذًا همم مناصريه وجمهوره، واعدًا بالنصر مجددًا؟ تطلبت عمليات إنهاك الوسط السياسي اللبناني، قيام الحملة ضد قانون الانتخابات الحالي، ثم حصول المزايدات على قبول مشروع اللقاء الأرثوذكسي الشهير، الذي يقول بانتخاب كل مذهب نوابه، في عملية تزيد من تفتيت المجتمع اللبناني، ولم يتردد «حزب الله» في مساندته على رغم مخاطره لأنه يرفع منسوب الاستقطاب الطائفي والمذهبي في البلاد، ثم خروج القوى المسيحية منه بعد خلط للأوراق بين الحلفاء في «14 آذار» و«8 آذار»، وصولًا إلى قانون «مختلط» خلط الأوراق مجددًا. بعض القوى السياسية انغمس في مناورات الإنهاك هذه من دون أن تدري، لا سيما الأضداد في الصف المسيحي كل لأهدافه، لكن الجميع حصد نتائجها السلبية عليه، فالحصيلة كانت الوصول إلى الأمر الواقع الذي يقضي بالتمديد للبرلمان، أي تعليق الحياة السياسية في لبنان. كان «حزب الله» مستعدًا للقبول بإجراء الانتخابات بشرط واحد فقط هو ضمان الأكثرية له ولحلفائه، من دون وجود كتلة حيادية أو وسطية ترجح كفة هذا الفريق أو ذاك. حتى ما كان يقال ويسلّم به معظم الأطراف بأن الانتخابات إذا جرت على القانون الحالي ستعيد إنتاج ميزان القوى الحالي لم يكن الحزب ليحتملها وهو يخوض ما يسميه معركة المصير في سورية. فهو لم يكن مستعدًا للمجازفة باحتمال ولو ضئيل في أن تشكل نتائج عمليات الاقتراع عنصر دفع جديد لتحالف خصومه مع الوسطيين الذين يشكل رئيس الجمهورية ميشال سليمان والنائب وليد جنبلاط عمودهم الفقري، ومعهما رئيس الحكومة العتيدة. فالرئيس اللبناني بات يطالب كما قال أول من أمس السيد نصرالله بعودة مقاتلي «حزب الله» في سورية إلى لبنان ولا يوافق على قتالهم على الأرض السورية. وهو موقف كان ليصبح مدعومًا أكثر بشرعية الانتخابات، لو أنتجت مجلسًا نيابيًا شبيهًا بالحالي ولكان ما يسمونه «بيضة القبان» (الميزان) التي يشكلها الوسطيون أشد «إزعاجًا» للحزب بعد انتخابات كهذه. ولذلك وجب تعطيل «القبان» وبالتالي الانتخابات. بلغ الإنهاك في الطبقة السياسية جراء مناورات الوصول إلى تأجيل الانتخابات حد غرق كثر في البحث عن المشكلة في النظام السياسي اللبناني وغياب الدولة مستدلين بعجز الطبقة السياسية عن التوافق على قانون للانتخاب للدلالة على أزمة النظام وغياب الدولة، متجاهلين أن ما يجري هو مجرد انعكاس لصراع إقليمي – دولي على سورية، يجري إلحاق لبنان فيه، عبر تعليق تطبيق النظام اللبناني والحؤول دون انتظام الصيغة التي توافق عليها اللبنانيون، لضمان هذا الإلحاق. فهل ما يصيب لبنان هذه الأيام ناجم عن الثغرات في النظام السياسي، أم في معادلة خارجية تضرب بعرض الحائط صيغة هذا النظام وأسسه؟ ثمة من قال إن قلق «حزب الله» من احتمال، ولو ضئيل، بأن يُحدِثَ «ميزان» الانتخابات في لبنان تغييرًا ولو بسيطًا في المعادلة، قد يعاكس انغماسه في الأزمة السورية، يوازي قلق القيادة الإيرانية من احتمال، ولو ضئيل، من أن يحصل تغيير ولو بسيط في حال نجح على أكبر هاشمي رافسنجاني في انتخابات رئاسة الجمهورية الإيرانية الشهر المقبل، ولذلك وجب منع ترشحه من جانب هيئة تشخيص مصلحة النظام في طهران، على رغم أنه من أركان الثورة التاريخيين... فالقيادة الإيرانية لا تحتمل، ولو احتمالًا بسيطًا، وجود نهج غير نهجها في التعامل مع معركتها المصيرية في سورية. وإذا كان للنظام والمجتمع الإيرانيين آلياتهما لاستيعاب أوضاع من هذا النوع، فإن اضطرار «حزب الله» لتعطيل النظام اللبناني لمصلحة المعركة التي يخوضها في سورية مسألة قد تطول. فهي معركة لن تحسم لا في القصير ولا في ريف دمشق بل هي كرّ وفرّ إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا... نقلا عن الحياة اللندنية