لم يكن «حنبلياً» وفى يوم مماته أسلم عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس ولد الإمام أحمد بن حنبل فى بغداد سنة 164 ه، ونشأ بها ومات والده الذى كان مازال مجندا فى جيش الخلافة العباسية، ولم يترك له إرثا غير دار كانت أمه تأجره، كى تستطيع الإنفاق عليه، ورفضت الزواج رغم صغر سنها، وضحت من أجل هدف واحد أصرت على تحقيقه، وهو أن يصبح ابنها أحد أئمة بغداد الذين ملئوا - وقتها - السمع والبصر. وكان حسن الصورة والصوت ومال إلى الغناء فى صباه، لكن أمه راحت تثنيه عن ذلك، وأخبرته- كذبا - أن صوته غير جميل فصدقها الصبى واهتم بتعلم القرآن، حتى حفظه كاملا. وفى الخامسة عشرة من عمره بدأ أحمد بن حنبل دراسة الحديث وحفظه، وبذل قصارى جهده فى تلقى العلم حتى حصل الكثير من العلوم والمعارف ، ولتعويض والدته عما عانته لأجله، عمل نساجا فى هذه السن الصغيرة ، وكان يذهب إلى المزارع والبساتين ليلتقط ما نزل على الأرض من الثمرات التى تسقط من الأشجار كى يسد جوعه. وفى العشرين من عمره ، بدأ رحلاته لطلب العلم فذهب إلى الكوفة ومكة والمدينة والشام واليمن، ثم عاد إلى بغداد ، ليصبح من أبرز تلاميذ الإمام الشافعى فى المدينة ، كما تعلم على يد كثير من علماء العراق وأبرزهم إبراهيم بن سعيد، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، وأبو داود الطيالسى، وشيئا فشيئا أصبح صاحب مذهب مستقل، وجمع شتات السنة حتى أصبح إمام المحدثين فى عصره، يشهد له فى ذلك كتابه «المسند» الذى حوى أربعين ألف حديث، وقد أعطاه الله من قوة الحفظ ما يتعجب له علماء جيله. وعن «التلميذه» الإمام أحمد بن حنبل قال الإمام الشافعى: «لقد خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم ولا أحفظ من ابن حنبل». ومن أهم صفات «إمام أهل السنة» أنه كان قوى العزيمة، صبورا، ثابت الرأى، قوى الحجة، جريئا فى التحدث عن الخلفاء، وهذا ما أوقعه فى محنة كبيرة فى عهد الخليفة المأمون فى عام 212 ه وهى فتنة خلق القرآن، حيث كان المعتزلة يقولون إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، وكان عقاب من لا يعترف بهذا من العلماء الحرمان من وظائف الدولة والتعذيبه والسجن، لكن ابن حنبل لم يعترف بقولهم ، لذا كان عقاب المأمون له أن منعه من التدريس وعذّبه وسجنه فى سنة 218 ه . وسيق إمام أهل السنة مكبلا بالحديد حيث يقيم المأمون خارج بغداد، غير أن المأمون توفى قبل وصوله وتولى الخلافة بعده أخوه المعتصم فسار على طريقة أخيه الراحل فى هذه المسألة، فسجن ابن حنبل وأمر بضربه بالسياط ، حتى كان يخر مغشيا عليه فى كل مرة من شدة الضرب، ورغم هذا استمر السجن والتعذيب نحو ثمانية وعشرين شهرا. وعندما أصر «ابن حنبل» على رأيه ورفض تغييره أطلق سراحه وعاد إلى التدريس، ثم توفى المعتصم سنة 227 ه، وتولى بعده الواثق بالله فأعاد محنة خلق القرآن ومنع ابن حنبل من مخالطة الناس والتدريس أكثر من خمس سنوات، حتى توفى الواثق سنة 232ه، وتولى الخلافة بعده المتوكل فأبطل بدعة خلق القرآن سنة 232 ه، وأكرم ابن حنبل وبسط له يد العون وأرسل له العطايا، التى رفضها إمام أهل السنية رغم احتياجه، وظل على منهاجه ثابتا على رأيه. وقد جمع تلاميذ ابن حنبل من بعده مسائل كثيرة فى الفقه والفتوى، ودونوها ونقلوها بعضهم عن بعض فى مجاميع كبيرة، كما صنع ابن القيم فى كتابه «المغنى والشرح الكبير». واللافت أن الإمام أحمد لم يدون مذهبه فى الفقه كما لم يمله على أحد من تلاميذه كراهة اشتغال الناس به عن الحديث، وبهذا خالف منهج أبى حنيفة الذى كان يدون عنه تلاميذه فى حضوره، ومالك والشافعى اللذين كانا يدونن بنفسيهما، فالجميع قد تركوا فقها مدونا بخلاف ابن حنبل ، إلا أن تلاميذه من بعده دونوا عنه كل ما سمعوه منه. ومن أبرز تلاميذ الإمام أحمد محمد بن إسماعيل البخارى صاحب الصحيح، ومسلم بن الحجاج النيسابورى صاحب الصحيح، وأبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادى المعروف ب «الأثرم» . وقد بنى الإمام أحمد مذهبه على أصول؛ هى كتاب الله أولا ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فتاوى الصحابة المختلف فيها، ثم القياس وهو آخر المراتب عنده. وكان يعترف بالإجماع إذا ما تحقق ولكنه كان يستبعد تحققه ووجوده بجانب هذا كان أحمد يعمل بالاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع، متبعا فى ذلك سلف الأمة، فاتهموه بالتزمت . وبعد وفاته ابتلى ببعض الاتباع الذين نسبوا إليه ما لم يقل ولم يصنع وفرعوا على أصوله ما هو برئ منه، وأسرفوا على الناس حتى وصل بهم الأمر إلى أنهم كانوا يطوفون بمدائن المسلمين يغيرون بأيديهم ما يحسبونه بدعة أو منكرا، حتى نال الناس منهم أذى. وكان الإمام أحمد بن حنبل يجادل بالتى هى أحسن ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، إعمالا لكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما كان متعصبا لرأى أرساه، بل كان يحاور ويرجع عن رأيه إن تبين له ما هو أصح، حتى أنه رفض كتابة فقهه لأنه كان كثير العدول عن آرائه فلم يكن ضيق الأفق أو جامد الفكر أو «حنبليا» كما يصف البعض اليوم شخصا متشددا فى رأيه. توفى الإمام يوم الجمعة 12 ربيع الأول سنة 241 للهجرة، وله من العمر سبع وسبعون سنة، فاجتمع الناس يوم جنازته حتى ملئوا الشوارع ، وحضر جنازته من الرجال مائة ألف، ومن النساء ستين ألفا، غير من كان فى الطرق وعلى الأسطح، وقيل أكثر من ذلك. وقد دفن الإمام أحمد بن حنبل فى بغداد فى جانب الكرخ قرب مدينة تسمى الكاظمية، وكان قبره بين مقابر المسلمين وغير معروف سوى مكان المقبرة ، وقيل إنه أسلم يوم مماته عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس، وأن جميع الطوائف حزنت على موته.