ابن خلدون (1332 - 1406) مؤسس علم الاجتماع وشيخ المؤرخين العرب وواضع أصول فلسفة التأريخ .. صاحب الإسهامات المتميزة في علوم النفس, السياسة, الاقتصاد, التربية وغيرها من علوم عصره .. موسوعي المعرفة العبقري الفذ ..أحد أهم علمائنا العرب المسلمين المساهمين في ثراء المعارف الإنسانية وعالميتها .. صاحب العطاء المتجدد الذي أعاد الغرب اكتشافه ودأب على تحليله ونقده والاستفادة منه.. المتعمق في شئون وأحوال النفس الإنسانية وطبائعها وتقلباتها ..بدءاً من الإنسان إلى الجماعة إلى الدولة إلى الحضارة بمفهومها الشامل الواسع ومظلتها التي تتسع للجميع .. ابن خلدون تحدث ل «ڤيتو» من عالمه الآخر، حيث يحيا علماً بين الأموات، وكان هذا الحوار النادر.. عالمنا الكبير «ابن خلدون» بعد كل هذه السنوات التي غيبتك عنا وغيبتنا عنك .. أهلاً بك سيدي. أهلاً بأهل مصر الأحباب. كنتَ عالماً موسوعياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. فإسهاماتك في علوم الاجتماع ,التاريخ ,الفلسفة, التربية,الاقتصاد والفقه لا يمكن لأحد أن ينكرها .. كيف تسنت لك كل هذه المعارف؟ لقد كنت ابناً لعصر «وحدة المعرفة» .. لم نكن قد عرفنا التخصص بالمعنى الذي تعرفونه اليوم بعد .. فلقد كانت العلوم الحديثة على عهدي لا تزال وليدة .. فعلم «الاجتماع» مثلا وكما تعلمين كنتُ أول من وضع أسسه .. فكان من الطبيعي أن يسهم الواحد منا في أكثر من مجال .. هذا مع العلم بأن المعارف كلها بصفة عامة تخرج من نفس المنبع وتصب في نفس المصب. لماذا أوليت مثل هذا الاهتمام لتأسيس علم الاجتماع؟ الإنسان كائن مدني بطبيعته، واحتياجاته الإنسانية والحياتية كثيرة ومتعددة لا يمكن أن يفي بها جميعها وحده دون الحاجة للآخرين لذلك فلابد له من الاجتماع .. وإذا كان الاجتماع كانت الحركة وكانت الحياة وكان العمران وكان كل شيء .. فالاجتماع علم له أهمية قصوى في تفسير وفهم طبائع البشر والحضارات والممالك وتحليل التاريخ والحاضر ورؤية المستقبل. تناولك للتاريخ كان تناولاً جديداً مميزاً .. فكنت بحق «فيلسوف التأريخ» .. كيف تشرح لنا رؤيتك للتاريخ؟ لقد كنت أوقن بأن التاريخ هو في حقيقة أمره خبرا عن الاجتماع الإنساني، فلا يمكن أن ننظر للتاريخ نظرةً منصفة بمعزل عن أعمال البشر وصناعاتهم ومنشآتهم وعمرانهم في تلك الحقبة التي نتعرض لها بالدراسة فهل كان أهل الماضي إلا بشراً مثلنا .. وهل كان تاريخهم إلا نتاج اجتماعهم وأفكارهم وما يدينون به!! كيف تنشأ السلطة في نظرك؟ نشأة السلطة هي نتيجة طبيعية للعمران فإذا اجتمع البشر كان لابد من قيام سلطة تنظم العلاقات فيما بينهم وتحفظ للجميع حقوقهم. هل تؤيد الدعاوى الحديثة التي تؤكد ضرورة وجود عقد اجتماعي واضح الملامح بين الحاكم والمحكومين؟ أعتقد أنه مع تطور الأمم وازدياد معارفها وانفتاحها على بعضها البعض .. لا أقل من أن يتراضى الحاكم والمحكومين على القانون الذي يُحكمون به والذي لابد أن يكون سائداً على كليهما لتستقيم الأمور وتقترب من الصورة الأمثل لتطور العمران. ولكن فكرة «سيادة القوانين» تم تجاوزها كثيراً عبر التاريخ فكثيرا ما كان يُستثنى من تطبيقها كل صاحب سلطة .. أليس كذلك؟ هو كذلك للآسف ولم يستقر الأمر إلا في فترات نادرة من التاريخ ولكن إن عدنا للفكرة نفسها لوجدناها أصيلة في التراث الإسلامي ،وتتجلى أعظم ما تتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها» فليس أعظم من أن يضرب النبي المثل بابنته ليُعلي فكرة سيادة القانون على الجميع دون أي شبهة استثناء أو محاباة وليشعر الجميع أنهم سواسية تحت وطأة القانون. كيف تفسد الممالك في وجهة نظرك؟ إن سياسة الملك القائمة على فكرة الملكية الخاصة للبلاد والتي تدعمها العصبيات فتعمي البصائر عن النظر لجميع الرعايا نظرة المساواة الكاملة هي أكبر المفاسد وأولى خطوات زوال أي دولة.. فالظلم في كل زمانٍ ومكان هو أول مؤذن بخراب العمران وتداعي الممالك. وما هو آخر مؤذن بالزوال؟ تتجلى اللحظات الأخيرة لأي دولة أو مملكة في تلك اللحظات القاسية المتجردة من الإنسانية التي يقلب فيها الحاكم توجسه وخوفه من شعبه إلى خوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة. اليوم وقد تداعت علينا الأمم فأوطاننا إما مُحتلة وإما تخضع للتدخل الأجنبي وإما منهوبة الثورات .. ما هي أسباب كل هذا التدهور في نظرك؟ لولا أن أسبابا تنبع من داخل الدول نفسها لما قوي عدو على استضعافكم ونهب ثرواتكم ،ولكن الناس لا تلتفت إلى التدهور إلا بعد أن تفاقم الأوضاع و تنشأ الفتن بين طوائف الوطن الواحد وتصير القوانين مطية الأقوياء ومقصلة الضعفاء ،فمن كان بنيانه قائماً على أسسٍ متهاوية لا يمكنه أن يواجه أي عدو خارجي. كيف ترى أنظمة الحكم في بلادنا اليوم؟ هي إما مُلك عضود صريح أو مُستتر في صورة رئاسية أو ملكية دستورية أو كما تعددون المسميات .. وإلا فلمَ تهدر بلادكم من شرقها لغربها بالثورات!! كعالم اجتماع كبير كيف تفسر لنا أن وقود الثورات دوماً ما يكون من الشباب؟؟ الشباب هم الفئة الأكثر حيوية والأقدر على الحركة على أرض الواقع والأكثر تأثراً بالدعاوي الثورية .. خاصةً إذا كان أول لقائهم بالحياة العامة هو ميراث ثقيل تراكم عبر أجيال وأجيال من الفساد والظلم وانعدام الفرص العادلة للحياة للدرجة التي تجعلهم يرون الإصلاح شبه مستحيل فلا يجدون أمامهم من سبيل إلا الثورة. متى تنجح الثورات؟ تنجح الثورات حين يتبدل وجه المشهد فيتولى الأمر ويصل للحكم الذين ثاروا وتبنوا قضايا الناس .. فالمنطق يحتم أن يكون من يتولى الإصلاح غير الذي أفسد. عشت كرحالة طفت بلاد الدنيا من غربها لشرقها .. هل كانت الرحلة مرهقة؟؟ إنها الرحلة المُقدرة .. دورنا الذي أديناه ثم رحلنا في موعدنا .. تخللها البحث ,الخوف ,الإرهاق ,الفرح ,الحزن ,السكينة ,العزلة وكل شيء .. شأنها شأن حياة أي إنسان. ما هي أهم معالمها في نظرك؟؟ كانت معالمها الرئيسية هي مسيرتي من العلم إلى العلم .. فالحكمة كانت ضالتي كما هي ضالة أي طالب علم صادق أنى وجدها كان أولى بها .. فقدمنا ما قدمنا ونسأل الله أن يكون قد انتفع به آخرون. ما هذا التواضع يا سيدي!! .. إن كتبك وإسهاماتك أنت وأمثالك من العلماء العرب قامت عليها حضارة العالم الحديث وأنارت الدنيا بأسرها. الحمد لله الذي أعاننا على الإسهام في مسيرة البشرية نحو النور والحضارة. :ما هي نصيحتك للأجيال الحالية؟ العلم ثم العلم ثم العلم .. فلم يعد لكم من سبيل غيره .. وتذكروا دوماً الإتقان والتجرد ،فهما صفتا طالب العلم الحقيقي. وكيف السبيل لإصلاح نظم تعليمنا المتهاوية؟؟ لابد أن يبدأ الإصلاح من الأساس .. فلا تكون مناهج التعليم قائمة على الحفظ والتلقين بل يجب أن تكون أنظمة شاملة قائمة على تنشئة النفس وجدانياً ومعرفياً من عهد الطفولة الأولى،فنفس الطفل صفحة بيضاء فإذا تعلم الابتكار والإتقان ونُميت لديه ملكة التساؤل والإبداع صار عماداً لحضارة تشرق من جديد على واقعكم في غضون جيل واحد لا أكثر. جيل واحد لا أكثر؟! .. إنك تتحدث عما لا يقل عن ثلاثين عاماً يا سيدي!! وما قيمة ثلاثين عاماً في عمر الزمن ومستقبل الحضارات!! يبدو أنك على حق يا سيدي .. كان حظنا عظيماً بلقائك. على الرحب والسعة.