هذا هو الذي حدث ، وبعد أيام أعلنت حارة درب المهابيل تضامنها مع جمهورية الموز وانضمامها لها ، فمن «الأجدى» في هذه الأيام أن تكون حارتك عضوا في جمهورية الموز بدلا من « الأكدى « والأكدى طبعا أن تكون حارتك تابعة لجمهورية « المورستان « ، وبعد هذا النصر السياسي الكبير الذي حققته حارتنا بالانضمام لجمهورية « الموز « جاء لي عدد كبير من أهل الحارة وقالوا لي : يا أبو يكح الجوسقي نريدك أن ترشح نفسك في انتخابات رئاسة الجمهورية ، ورغم الضغوط الشديدة التي مورست عليَّ إلا أنني رفضت هذا الأمر جملة وتفصيلا ، رئيس جمهورية ؟! كيف هذا ! وأنا أعلى ما وصلت إليه في حياتي هو أنني مجرد « حكواتي « أجلس مع الناس عقب خروجي من الحانة أحكي لهم وأفتكس الحكايات والقصص ، المهم أنني رفضت هذا الاقتراح رفضا مبرما ثم أخذتني دوامة الحياة ونسيت القصة كلها ، بل إنني أكاد اقول لكم إنني نسيت جمهورية الموز وحارة درب المهابيل نفسها ، فقد عشت شهورا طويلة متقوقعا في ذاتي لا أرى أحدا ولا يراني أحد ، ثم علمت بعد ذلك أن الشعب في جمهورية الموز رفض مسألة الانتخابات هذه لأننا في الأول والآخر أهل وعشرة سنين ولا يجوز للانتخابات أن تفرق بيننا ، لذلك قرر مجلس أمناء الثورة إصدار قرار بتعيين أحد أفراد الحارة رئيسا للجمهورية . وحدث أن خرجت من قوقعتي وسافرت إلى جمهورية الموز أراقب الأحداث التي مرت بها وأحلل لها ، قلت في نفسي : لعل هذه السفرية ستفتح لي مجالا في الحكايات ، وكانت سفريتي عامرة بالأحداث والوقائع التي تشيب من هولها الولدان ، وأخيرا عدت من السفر ، وهأنذا الآن أجلس مع أهل الحارة أحكي لهم ما مر على جمهورية الموز وكيف هو رئيس جمهوريتها . جلست على قارعة الطريق والتف حولي أهل الحارة وأخذت أحكي لهم : كنا يا أهل الحارة الكرام نطلق على أحد أصدقائنا في كلية الهندسة اسم «عبد المتجلي سليط» نظراً لتشابه صفاته الشكلية والنفسية مع صفات الشخصية المسرحية التي أداها المرحوم أمين الهنيدي في مسرحية «لوكاندة الفردوس» ، وقد تميزت شخصية «عبد المتجلي سليط» في المسرحية الشهيرة بالطيبة المفرطة والسذاجة المبالغة التي كانت تغرقنا في الضحك، خاصة عندما كان يرغب في الظهور بمظهر الأب الحاسم الحازم فيقول لبناته الصغيرات – وقد اصطففن صفاً واحداً : بنااااات ... فتقول البنات في صوت واحد: باااااابا ... فيرد عليهم بحسم: معتداااااال ... مارش ... وكأنه بهذا الحسم يربى بناته تربية عسكرية صارمة!!! أما صديقنا الذى أطلقنا عليه «عبد المتجلي سليط» فكان قروياً ساذجاً جاء من عمق الريف، ليلتحق بكلية الهندسة ، عله يحمل في يوم ما الشهادة العليا، ويذهب بها لأهله، مفتخراً بما حصّله متفاخراً بما وصل إليه ، ولم يكن صديقنا ساذجاً فقط ،ولكنه كان شديد الطيبة تلمح في ملامحه الوداعة والهدوء ... وكانت أقصى أمانيه أن يصبح في قابل الأيام موظفاً في إحدى الوزارات، وكان يحدوه الأمل أن ينهى حياته الوظيفية بدرجة مدير إدارة «قد الدنيا» وقتئذ كنا نقول له : مدير إدارة مرة واحدة يا عبد المتجلي حنانيك يا رجل ... وأذكر كم كنا نتضاحك عليه فيشاركنا في ضحكاتنا بسماحة محببة وبضحكة مميزة اشتهر بها بيننا حيث كانت تملأ أشداقه ، ولم نعهد فيه فى تلك الأيام التي خلت حقداً أو غلاً بل إنه عندما كان يخشوشن علينا بعض الشيء فإنه كان يرفع عقيرته بالصياح قائلاً بحسم وحزم : ولاااد ... فنقول له مقلدين بنات مسرحية «عبد المتجلي سليط» : باابا فيعود مرة أخرى لضحكته المميزة ، تلك الضحكة التي لم تتلون على الإطلاق بمكر أو بكبر. ومرت السنوات وتخرجنا من كليتنا وانخرطنا في الحياة بحلوها ومرها ، عاش منا من عاش، ومات منا من مات ، هاجر بعضنا يبحث عن رزقه في بلاد الغربة ، وأنكفئ البعض الآخر على حياته حرصاً على بعض لقيمات يقمن أوده وأود أسرته ... وتشعبت بنا سبل الحياة وغاب معظمنا عن بعض وعشت أنا بينكم في حارة درب المهابيل ، لا أكاد أفارقكم إلى أن مرت أكثر من ثلاثين سنة على تخرجنا من كليتنا. ثم قامت الثورة يا سادة يا كرام في جمهورية الموز وتبدلت الدنيا ، وأصبحت الأحوال غير الأحوال ، وذات يوم عندما كنت أقرأ الصحيفة على الإفطار فوجئت بخبر تعيين صديقي « عبد المتجلي سليط « رئيسا لجمهورية الموز... أصبح هذا الصديق القروي البسيط رئيساً لإحدى الجمهوريات شديدة الأهمية في العالم ... حينئذ داعبت ذكريات السنين التي مضت خيالي فافتر ثغري عن ابتسامة متعجبة ... وكأن لسان حالي يقول : ها هو من كنتم تسخرون منه ... انظروا قد بزكم ونال قصب السبق عليكم، وكأن الدنيا لا تبتسم إلا لمن هو خالي البال عديم التأثير والقيمة ! . وبعد أيام أيها السادة الكرام التقيت بصديق من أصدقائي القدامى اسمه أبو طلبة وأخذت أتذكر معه أيام كان عبد المتجلي سليط طالبا معنا في كلية الهندسة ، حكينا عن قرويته وخشونته وغباء تصرفاته التي كنا نضحك عليها كثيرا ، ثم كان أن اتفقنا على أن نذهب إليه سوياً نبارك له ونبثه أشواقنا ونذكره بأيام مضت ولكن ذكراها مازالت مشحونة في قلوبنا. وفى اليوم الموعود سافرنا لزيارة الصديق – بعد أن هاتفه صديقي أبو طلبة واتفق معه على الموعد – ونظراً لانشغال صديقنا الرئيس «عبد المتجلي سليط سابقاً» ومقابلاته مع رجال الجيش الذين ساندوا ثورة بلاده ، فقد انتظرنا قرابة الساعة، ثم أذن لنا بالدخول ولا أخفيكم سراً أنه أحسن استقبالنا وأجلسنا في الصالون المواجه لمكتبه ، وكم كان هذا الصالون عظيم الأناقة فهو من طراز فيليب الفرنسي يكسوه أوبيسون مشغول وقد كسيت الأرض بسجاد شيرازي فاخر ، أما مكتب صديقنا فكان من نوع نادر مصنوع من خشب الورد ، ناهيك عن التحف التي ملأت المكان والتابلوهات الأصلية التي ازدانت بها الحوائط ... ونظرت إلى صديقي أبو طلبة الذي اصطحبني في هذه الزيارة فوجدته قد فغر فاه من شدة دهشته، وقد انتهز لحظة انشغل فيها صديقنا بمكالمة تليفونية فقال لي هامسا:ً ما هذا الوهم؟ فأومأت إليه مبتسماً إلا أنني لم أحرك شفتاي. وعبر ساعة أخرى رأيت فيها أمراً عجباً ... ذلك أن جحافل من كبار القوم كانت تتوافد على المكان، وكلهم يتحدثون مع صاحبنا ، وكأنه عبقرية نادرة وفلتة من فلتات الزمان لا يجود الله بمثلها إلا كل مائة عام ، حينئذ كان يهمس أبو طلبة في أذني : أنظر كيف يصنعون الفراعنة. وازداد عجبي وامتعاضي عندما رأيت بعضاً ممن يصدّعون رءوسنا ليل نهار بكلمات محفوظة عن الشرف والأمانة وهم يتوسلون للرجل في استعطاف زائد ونفاق مهين أن يسمح لهم بما لا يجوز ... أما صاحبي فكان يسمح لمن يريد ويمنع من يريد ، وكأن هذه البلد أصبحت ضيعة من ضياعه وعزبة من أملاكه!!! وعندما دخلت جمهرة من كبار السياسيين على الرجل أخذ يحدثهم عن طموحاته وهم يهللّون له ويصفقون عقب كل كلمة وهم في حقيقة الأمر لا يكادون يفقهون حديثاً ، لأنه كان لا يكاد يُبين ، لا يستطيع عرض أفكاره أو توضيح بيانه ، وإنما كان كلامه كله صعب الفهم وكأنه خرط القتاد ، ومع ذلك كنا نجد صيحات الإعجاب من السياسيين وكأن الرجل بز أينشتين وتفوق على تشرشل ، حينئذ أعاد صاحبي أبو طلبة في أذني كلماته الأولى : أنظر كيف يصنعون الفراعنة. ولا حظت أن صديقنا «عبد المتجلي سليط» تملكته أثناء مجالستنا نشوة غريبة ، وكان يتعمد أن يتحدث بالتليفون، كى يأمر بفصل أحدهم من عمله، أو تقديم آخر للنائب العام، أو نزع ملكية ثالث لأراض اشتراها دون سبب !! أما عين عبد المتجلي سليط فقد اعترتها لمعة غريبة تدل على الجشع والنهم وشهوة الإيذاء ، ونظرت إليه وكأنني لم أعرفه من قبل، وكأن أروقة العلم لم تجمعنا في مدرج أو فصل، وكأنه لم يكن هذا الشاب السطحي الوديع ، أصدقكم القول يا أهل الحارة إن لسانى انعقد ولم استطع طوال الجلسة الحديث إلا بهمهمات غير مفهومة حتى ظن صاحبي أن بى صمم أو أن عارضاً أصاب عقلى. وبعد أن انتهت جلستنا وهممنا بالانصراف حينئذ اغتصب صديقنا عبد المتجلي سليط ابتسامة باهتة إلا أنها كانت مفعمة بكبر وعنجهية ثم قال لنا : أي شيء تريدونه.. لا تترددوا ، كلموني فورا وسيكون في جيوبكم ، اعتبروا أن جمهورية الموز كلها في جيبكم ، فقلت له : عظيم أن تكون كل جمهورية الموز في جيبنا ، فيكفيك أنت موزة واحدة !! هييييه «الموز علينا حق» .