حدثتنا الفنانة القديرة عرفة عبد الرسول بعد أن ألحت عليها مديرة الحفل وأحرجتها لتحكي للحاضرين موقفًا ظريفًا حدث معها حتى تكسر جمود الحفل وجمهوره «المتضايق من نفسه» حسب تعبيرها؛ بعد أن توالت على هذا الجمهور العريض الفقرات الجميلة المتعددة دون أن يمنحها تعليقا أو إعجابا أو حتى بعض التصفيق، لذا فقد رأت مديرة الحفل أنه ربما إذا تحدثت لهم هذه الفنانة القديرة ببعض حكاياتها فربما يتغير مسار الحفل إلى الأفضل، ارتقت الفنانة القديرة درجات المسرح ورحبت بالجمهور الكبير وقالت لهم سأحكي لكم موقفا ظريفا حدث معي منذ أربعين عاما؛ وقتها كنت مازلت فتاة جميلة تتدلى ضفائرها فوق كتفيها، وكان والدي الحاج عبد الرسول يعمل بقالا في محافظة الإسكندرية وكنا في عز الصيف والعرق يتصبب من جباهنا وتنفثه مسام جسدنا طوال الوقت، وكنا في شهر رمضان المبارك وكان هذا الشهر الفضيل يعد موسما كبيرا بالنسبة لنا ولغيرنا ممن يتربحون فيه مصاريفهم طوال العام، وكان دكان بقالتنا صغيرا جدا فكنا نضطر لعمل فرش كبير أمامه حتى نتوسع في عرض البضائع التي يحتاجها زبائننا، وكان جيراننا وقتها من كل الجنسيات ويبيعون مثلنا ويتربحون في هذا الشهر ما يكفيهم العام كله، وكان هناك أحد الشحاذين كفيف البصر يسحبه طفل صغير يحمل في صدره طبلة معلقة يضرب عليها بين الفينة والأخرى قائلا «إدي له قرش» وكان الناس يجودون عليه بما تطيب به نفوسهم، وكان هذا اليوم أشد حرارة من سابقيه وفاجئنا تاجر الجملة بسيارة ممتلئة عن آخرها في عز الظهيرة فأخذنا ننزل البضائع منها ونرصها في الفرش، وقد استغرق منا هذا العمل المضني معظم النهار حتى أننا كنا نزدرد ريقنا وكأننا نبتلع حجارة صغيرة بعد أن جفت حلوقنا من التعب والصيام وحرارة الجو، وقد سألنا الحاج عبد الرسول بعد أن قمنا بعملنا على أتم وجه: ها... تحبوا تفطروا إيه يا ولاد النهاردة ؟! فأجاب مرعي أحد صبيان المحل: نجيب ورقة لحمة يا معلم ونسويها في الفرن مع صينية بطاطس الله يكرمك... ليرد عليه الحاج عبد الرسول: ويعني أنتم لازم تغمسوا بزفر يا أخويا كل يوم اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم، إحنا هانعمل بطاطس فعلا بس قرديحي، اعملي صينية بطاطس يا ام عرفة وابعتيها لمتري يسويها في الفرن بتاعه. عم دميتري أو متري كما كنا ندعوه رجل خمسيني أسمر اللون صعيدي الأصول، يلبس ملابس بلدية عبارة عن ثوب فضفاض واسع وعمامة صعيدية كبيرة ويرفل في هذه الملابس العجيبة ويخطر فيها حتى يظن من يراه أنه يرتدي ملابس والده، صنعنا صينية البطاطس وسواها متري وضرب المدفع وتحولقنا حولها ساعة الإفطار لنفاجأ أن البطاطس كانت بالسجق، ولم نكن قد وضعنا فيها صنف الزفر !! ولكننا أكلناها شاكرين ظنًا منا أن متري قد جاملنا ووضع لنا السجق من عنده إشفاقًا منه على تعبنا طيلة النهار، خاصة أننا كنا قد أكرمناه في بيعة سمك مشبح كما يدعوه أبناء البلد أو سمك «بكلاه» كما يدعوه غيرهم قبلها بيوم، وقد أخذ مرعي يدعو له قائلا: إلهي يعمر بيتك يا عم متري يا راجل يا أصيل ربنا يرزقك بزيارة النبي... ابن بلد صحيح، وما أن أتينا على نصف الصينية حتى ظهرت صاحبتها وقامت عركة طويلة عريضة على موضوع السجق حتى اقتحمها الشحاذ الكفيف والولد الذي يسحبه بعد أن غمزه أحد مشاهدي المعركة ليقول بعد أن ضرب على طبلته كالمعتاد «إدي له سجق»، ولم يضحك أحد ؟!! وصاح بها أحد جمهور الحاضرين المتضايقين من أنفسهم قائلا بسخف شديد: ها ها ها... حكاية بايخة... انزلي، لترد له عرفة عبد الرسول الصاع صاعين ويتحول الحفل إلى حرب أهلية سالت فيها دماء الجميع، بينما صاح أحد الحاضرين الذين نأوا بأنفسهم عن هذا السفه العجيب وهو يبتعد مسرعًا... قائلا بصوت عال: «إدي له إدي... «.!!!