"جحا" من أطرف وأشهر الشخصيات الساخرة التي حيرت المؤرخون، هل هو أسطورة أم حقيقة؟ فقد اختلف الرواة في شخصيته، هل هو مجنون أم عاقل ويدَّعي الحماقة والغفلة، لكن لا أحد يختلف أن جحا شخصية هزلية ممتعة، تقدم طرفة مضحكة بحكمة وبأسلوب بسيط يستوعبها الصغير والكبير. الدكتور سليمان العطار- أستاذ الأدب بجامعة القاهرة- أوضح أن شخصية جحا في التراث العربي شخصية متكررة في تراث كل أمة من الأمم، ومبنية على فكرة المثل "خدوا الحكمة من أفواه المجانين" بعد تطويره قليلاً: "خدوا الحكمة من أفواه المغفلين"، فإن المجتمعات تحتاج لنقد الخلل السلوكي والأخلاقي عبر تقنية مقبولة، لأن النقد إذا قُدم عبر طرفة يصير الضحك مقبولاً من الشخص الذي يستقبل النقد الموجه ضد سلوكه أو بعض رؤيته الأخلاقية. ومن هنا يتحول جحا إلي تقنية للنقد الاجتماعي. العطار أشار إلى أن كثيرين حاولوا إثبات وجود شخصية هزلية في العصر العباسي كانت تحمل هذا الاسم، وهذا أمر طبيعي، فالمؤرخون القدماء يجدون في الواقع التاريخي كثيراً من الشخصيات (الفانتازية) مثل شخصية (جحا)، وبالتالي فنحن أمام شخصية فانتازية تصير محوراً لعدد مفتوح من الطرائف التي تتراكم مع تراكم خبرات المجتمع، ومع التطور السلوكي والأخلاقي في كل مرحلة من مراحل تاريخ المجتمعات، ومن الممتع أن هذه الشخصية- شخصية- خالدة لا تموت، فنحن اليوم نحكي حكايات عن جحا، وأن جحا شخصية معاصرة. وقال العطار: إن حكايات جحا مع حماره مثلا، تشير إلى فترة كان فيها الحمار أهم وسيلة مواصلات، لا سيما في مصر، وبالتالي يرجح أن حكايات جحا مع حماره حكايات مصرية، ومن هنا ينبغي أن نشير إلى أن كل مجتمع من المجتمعات العربية أسهم بعدد من الحكايات الجحاوية. وأضاف أنه يشيع في المجتمع الريفي المصري استعارة حمار الجار، وعادة لا يشعر صاحب الحمار بالارتياح، وهو يعيره حماره فيحاول دائماً اختلاق حججاً لرفض طلب الاستعارة. القصة تقول أن جحا جاءه جاره طالباً استعارة حماره، فقال له لقد أعرت الحمار لجار آخر، وهو غير موجود الآن، وفي هذه اللحظة نهق الحمار فقال: الجار حمارك ها هو موجود بدليل النهيق، فقال له جحا: انت رجل ناقص، أتصدق الحمار وتكذبني؟! واستطرد العطار: إن قصص جحا مع حماره لا تنتهي، ومنها ما يكشف الحس الديني عند المصريين، عندما مر جحا علي صديق فقال له: إلي أين، قال: إلى السوق لأبيع هذا الحمار، فقال له الرجل: قل إن شاء الله، فقال جحا: لماذا إن شاء الله؟، هذا هو السوق، وهذا هو حماري، وهناك من يشتريه، وعاد جحا إلي بيته بعد أن قبض ثمن حماره، وفي الطريق سقطت منه النقود، وقابل نفس الصديق، وسأله: هل بعت الحمار؟، قال: نعم، لكن إن شاء الله ضاعت مني النقود التي بعته بها. وأكد العطار أن شخصية جحا العربي تعد أغني الشخصيات إذا قارنها بشخصيات شبيهة بالثقافات الأخري، ولعل تلك الثقافات أخذت عن العرب عدداً لا بأس به من حكايات جحا، مثل: الثقافة الإسبانية، والثقافة التركية، وجحا في الثقافة التركية يحمل اسماً عربياً "نصرالدين" وله حكايات تكشف عن مجتمع مختلف في تركيا. أفاد العطار أن حكايات جحا العربي أو الشخصيات النظيرة في الثقافات الأخري، تنافس المثل الشعبي، بل تكاد تقوم بوظيفة الأمثال بدقة، لكن في ظل جو من الفكاهة وتعدد المغزي، ومن جهة أخري يستخدم حكايات جحا كثيراً، خاصة قبل اختراع التليفزيون كأداة بديعة للسمر، فقد يتبادل الأصدقاء خلال سهرهم قص حكايات جحا، ولا بأس أن يخترع بعض هؤلاء القصاصون حكايات جديدة، وينسبونها لجحا. وعلى الرغم من تعدد وسائل التسلية، خاصة بالميديا، إلا أن نوادر جحا لم تفقد وظيفتها الاجتماعية، فقد أصبح جحا موضوعاً للكتابة، بل وللرسائل الجامعية، ومن أشهر من كتبوا عن جحا عباس محمود العقاد في كتابه "جحا الضاحك المضحك"، وفي كتاب الدكتور النجار الذي يحمل اسم "جحا العربي"، كما أنتج التليفزيون المصري مسلسلاً عن جحا ضمن المسسلسلات الرمضانية وقد نافس هذا المسلسل مسلسل ألف ليلة وليلة. واخترع المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين في مجلة (البعكوكة) المشهورة شخصية حلت عند من يقرأون ويكتبون محل شخصية جحا، هي شخصية الشيخ (مكلوف) الذي نسبت له بعض حكايات جحا، بينما استحدثت حكايات تربطه بمستجدات الحياة، فمثلاً كان هناك رجل الأعمال (أبورجيلة) الذي استطاع أن يحصل من الدولة علي ترخيص لعمل أتوبيسات للنقل العام في القاهرة، وبدل الكمساري جاء بمضيفات جميلات ترتدين الميني جيب، وهنا يركب الشيخ (مكلوف) الأتوبيس، وتمر عليه المضيفة وتقول: "ورق" فيخرج الشيخ (مكلوف) تذكرته، فتقول له: هذه التذكرة قطعت بالأمس، فقال لها: أنا هنا من أمس.