بانتقال حسن البنا من الإسماعيلية إلى القاهرة (اكتوبر 1932) انتهت مرحلة أساسية من نشاطه بين عامة أهالي الإسماعيلية حين كان يتنقل بين المقاهى الشعبية يتحدث إلى روادها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي القاهرة بدأت مرحلة تنظيم نشاط الدعوة الدينية وقد تمثل هذا في إنشاء مكتب الإرشاد، وتعيين نواب مناطق وفروع، ومجلس شورى، وهيئة تنفيذية لشؤون السياسة والمصروفات، وإصدار «رسائل الإخوان» ابتداء من 19 ديسمبر 1932، وإنشاء «الأخوات المسلمات» (26 أبريل 1933)، وإصدار مجلة اسبوعية باسم «الاخوان» لتكون لسان حال الجماعة (مايو 1933)، وإصدار «مجلة النذير» لتعبر عن الخط السياسي (مايو 1938)، وإنشاء تشكيل «الجوالة» للجهاد امتثالا للحديث الشريف «من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية»، وأخيرا إنشاء الجهاز الخاص (السري) في 1942. وبعد استكمال هيكل البناء وعناصره أصدر حسن البنا لائحة الجماعة في 6 مايو 1948 ونصت في الباب الثاني «الغاية والوسيلة» على: تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ومساعدة الأقليات الإسلامية في كل مكان وتأييد الوحدة العربية تأييدا كاملا والسير إلى الجامعة الإسلامية (فقرة «ه» من المادة الثانية)، وقيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا وتحرسها في الداخل وتبلغها في الخارج (فقرة «و» من المادة الثانية). وهذا البرنامج يؤكد أن الجماعة استهدفت تحقيق مبادئها على أرض الواقع، ولا يتأتى هذا إلا بإقامة حكومة إسلامية أو أن تستولي الجماعة على السلطة وتقيم هذه الحكومة بنفسها. وفي رسالته «الإخوان المسلمون تحت راية القرآن» حدد البنا سبعة أهداف للجماعة تسعى لتحقيقها وهي: الفرد المسلم، والبيت المسلم، والأمة المسلمة، والحكومة المسلمة، ووحدة الوطن الإسلامي، وعودة الوطن السليب الذي هو: الأندلس/ صقلية/ البلقان/ جنوب إيطاليا/ بحر الروم، والهدف السابع هو «تبليغ الدعوة إلى آفاق الأرض كلها». وهذه الأهداف تعني ببساطة العمل على استعادة دولة الخلافة الإسلامية التي كانت تسيطر على أجزاء كثيرة من العالم زمن الفتوحات الإسلامية الكبرى، مضاف إليها بلاد البلقان التي خضعت لحكم العثمانيين ردحا طويلا من الزمن (1354-1923)، وهي أهداف لا يمكن بلوغها إلا بالوصول إلى الحكم وأن جماعة الأخوان والحال كذلك هي المكلفة تاريخيا للقيام بذلك العمل السياسي. ورغم ذلك فإن حسن البنا كان حريصا على أن ينفي عن جماعته أي شبهة عمل سياسي من أي نوع وبأي درجة إذ يقول: «لسنا حزبا سياسيا وان كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا، ولسنا جمعية خيرية إصلاحية وان كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا، ولسنا فرقا رياضية وان كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا». وتلك العبارات تنم بوضوح عن أن جماعة البنا هي كل هذه المجالات وأن مؤسسها يسعى للسلطة، وإلا لماذا رشح نفسه لمجلس النواب في انتخابات مارس 1942 .. ولماذا انضم إلى لجنة وادي النيل مع صالح حرب رئيس جمعية الشبان المسلمين لجمع المال والسلاح لمتطوعين استعدادا لدخول فلسطين يوم 15 مايو 1948 تاريخ انهاء بريطانيا لانتدابها هناك. وفي الوقت نفسه بدأت نغمة الإخوان المسلمين الطائفية تزداد عندما طالبت كافة المسلمين بالحرص على عدم التعامل مع غير المسلمين: «إحرص على القرش فلا يقع في يد غير إسلامية مهما كانت الأحوال .. ولا تأكل ولا تلبس إلا من صنع وطنك الإسلامي»، والتأكيد باستمرار على أن دستور الجماعة هو: «الإسلام، أو الجزية، أو السيف». وعندما بدأت تعبئة الجهود ضد الصهيوينة في فلسطين في مطلع عام 1948 طافت مظاهرات الإخوان المسلمين في الشوارع تقول: «اليوم يوم الصهيوينة وغدا يوم النصرانية». وسواء أكان الإخوان المسلمون جماعة أو هيئة أو أنهم لم يكونوا حزبا، فإنهم وقعوا في براثن مرض الانشقاق الذي أصاب الأحزاب السياسية المصرية بسبب الخلاف على الوسائل، أو الوقوف ضد انفراد حسن البنا بالرأي والزعامة. وقد وقع أول انشقاق تقريبا في يناير 1939 بقيادة محمود ابو زيد عثمان صاحب جريدة «النذير» احتجاجا على قبول حسن البنا معونات مالية (أموال سرية) من الحكومة لتأييد القصر الملكي في صراعه مع حزب الوفد، ومن السفارة البريطانية أيضا. ولما أعلن محمود أبو زيد احتجاجه على هذا المسلك قال البنا: «إن الدعوة ينهض بها فرد واحد له أن يأمر وعلى الجميع أن يطيع». ثم قال: «إن نجاح الدعوة مرهون بإرضاء الحكام والعمل تحت ألويتهم الحزبية»، فخرج محمود أبو زيد وأسس جماعة «شباب محمد». ثم حدث الانشقاق الثاني في عام 1947 بخروج احمد السكري والدكتور إبراهيم حسن احتجاجا على تصرفات صهر حسن البنا عبد الحكيم عابدين (زوج أخت حسن البنا). وعند هذا المنعطف من النشاط أصبحت جماعة الإخوان المسلمين قوة سياسية في البلاد وتورطت في الاغتيالات للتخلص من الخصوم وترويع من يفكر في التعرض لهم، ففي يناير 1948 أعلنت الحكومة عن اكتشاف 165 قنبلة مع مجموعة من الأسلحة مع بعض شباب الإخوان مخبأة في جبل المقطم. وفي 22 مارس 1948 اغتالت الجماعة القاضي احمد الخازندار أثناء خروجه من منزله لأنه أصدر حكما بالسجن على الإخوان الذين هاجموا الجنود الإنجليز في ملاهي الإسكندرية والذين القوا قنابل على محلات اليهود في وسط البلد بالقاهرة خلال يوليو-أغسطس 1948. وفي أكتوبر 1948 قتلت الجماعة سليم زكي حكمدار العاصمة (القاهرة) الذي تصدى لمظاهرة قادها الإخوان احتجاجا على قبول الهدنة في حرب 1948. وفي مطلع نوفمبر 1948 اكتشفت الحكومة مخبأ للأسلحة في عزبة «قائد» بالإسماعيلية خاصة بالشيخ محمد فرغلي عضو الإخوان المؤسس. وفي منتصف نوفمبر ألقى البوليس القبض على ركاب سيارة جيب خاصة بالجهاز السري للإخوان وبتفتيش مساكنهم وغيرهم تم العثور على وثائق استكملت الحكومة بها معلوماتها عن الجهاز السري. ولهذا قررت السلطات التخلص من حسن البنا وجماعته بطريقة أو بأخرى، وجاءت البداية في 28 نوفمبر 1948 حين ألقت السلطات القبض على حسن البنا فور عودته من آداء فريضة الحج ثم تم الإفراج عنه لعدم ثبوت الأدلة ضده. وفي 8 ديسمبر (1948) صدر قرار محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الحكومة ووزير الداخلية بإغلاق المقر العام للجماعة بالحلمية. وبعد عشرين يوما وفي 28 ديسمبر أطلق عبد الحميد احمد حسن طالب كلية الطب البيطري من شباب الإخوان الرصاص على النقراشي أثناء دخوله وزارة الداخلية بعد أن تخفى في زي ضابط بوليس. ويذكر الأخوان أن هذا القرار جاء بضغط من قناصل إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدةالأمريكية بعد اجتماع لهم في مدينة فايد في نوفمبر 1948 وطلبوا من سفير بريطانيا في مصر أن يطلب من النقراشي تصفية الجماعة، حماية لأرواح رعاياهم في أنحاء مصر. وهذه الرواية ينفرد بها الإخوان ولا تسندها مصادر أخرى خاصة الوثائق الإنجليزية والفرنسية والأمريكية وهي دول الذين قيل إنهم اجتمعوا في فايد. وفي 12 فبراير 1949 كان حسن البنا في زيارة لجمعية الشبان المسلمين في شارع الملكة نازلي (رمسيس فيما بعد) ليعرف مصير الطلب الذي قدمه لعضوية الجمعية بعد غلق المقر العام لجماعة الإخوان المسلمين. وعند خروجه من باب الجمعية في الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والعشرين مساء اطلقت عليه ست رصاصات وكان برفقته عبد الكريم منصور المحامي وهما يركبان التاكسي، ونقلا على أثر ذلك إلى مستشفى قصر العيني لكنه مات قبيل منتصف الليل متأثرا بجراحه الشديدة. ومن الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى اتهام الحكومة بتدبير اغتياله انتقاما من اغتيال النقراشي ولو أن التحقيقات التي استمرت أربع سنوات لم تصل إلى حقيقة الجاني. ولما كانت الجريمة الكاملة غير موجودة فهذا يعني أن الفاعل أو الجاني معروف ولكن لا يمكن الإشارة إليه لسبب أو لآخر شأن قضايا الاغتيالات السياسية الكبرى في التاريخ.