اثنان وستون عاما،مرت على وفاته،غير أن صوته الخاشع سوف يبقى حيا ببقاء القرآن الكريم ،ف«من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه»، وأحسب الشيخ الضرير واحدا منهم،ولا أُزكى على الله أحدا. اثنان وستون عاما،مرت على وفاته،غير أن إبداعه فى تلاوة كتاب الله،جعله حيا بيننا ،حتى أن كثيرين يعتقدون أنه لم يمت بعد ، وأنه لم يكن كفيفا. مع أول أيام شهر رمضان هذا العام، يتسلل من المذياع،صوت القارئ الشيخ «محمد رفعت» 9 مايو 1882 - 9 مايو 1950- تاليا فى خشوع قول الله تعالى: «إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ». الآيتان الكريمتان،وأداء الشيخ الخاشع ،حركت داخلى أشياء ماتت منذ سنوات ليست قليلة ،بسبب طبيعة حياة نعيشها،هى والموت سواء،فقد خفق قلبى العليل،وانطلقت دمعتان من عينىّ ،سرعان ما تحول الدمع إلى بكاء. لا أعلم سر تلك الحالة التى انتابتنى ،عند سماع الشيخ الضرير،الذى يشعرك صوته ،أن الله لم يخلقه إلا لتلاوة ذكره الحكيم. ألغيتُ جميع ارتباطاتى، وأغلقتُ هاتفى المزعج ، وقررتُ ألا أذهب إلى عملى فى هذا اليوم ،وطرتُ إلى الشيخ الضرير ،أو «قيثارة السماء»،لأجالسه وأتحدث إليه . ما أجمل أن تطوى الحياة صفحتك، فتبقى ذكراك الطيبة خالدة صامدة أمام متغيرات الحياة وتقلباتها، وهذا ما ينطبق على «محمد رفعت»،الذى زاده الموت حياة ،وبهجة وتألقا. هاأنذا أقف أمام «محمد رفعت»،بشحمه ولحمه،وها هو يقرأ القرآن الكريم ،ترتيلا وتجويدا ،وحوله حشد من الموتى ،لم أعرف من بينهم إلا من سوف أذكرهم لاحقا. المفاجأة التى أذهلتنى، أن «محمد رفعت»،لم يعد كفيفا،كما كان فى دنياه ، بل صار مبصرا. لم يترك لى الرجل فرصة لأسأله :كيف أصبح مبصرا ،وقد كان ضريرا،وفور أن أنهى التلاوة،وسط إعجاب الموتى الذين كانوا يلتفون حوله، قربنى إليه،وقد علم أنى قادم من الحياة، وسألنى :فيم دهشتك؟! وقبل أن أفصح عما فى صدرى،أخذ الرجل زمام المبادرة وقال:قد تكون دهشتك فى أنى صرتُ بصيرا ؟ قلتُ:نعم! قال:أتعجب من إرادة الله ،ثم تلا قوله تعالى عن الضالين المضلين،من سورة «طه» :» « وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى «،وقياسا على ذلك فإن من لم يعرضوا عن ذكر الله ،وكانوا عميانا فى الدنيا الفانية،فإن الله يعيد إليهم أبصارهم بعد وفاتهم! تضاعف ارتباكى أمام هذا المشهد الربانى المهيب، وكادت أعصابى تفلت منى ،فمدّ الرجل يده ، وربّت على كتفى ،فى وداعة وحنان ، لم أعهدهما فى حياتى ،فعاد إلىّ هدوئى من جديد.. انشغل عنى الشيخ فى حديث جانبى مع شخص لا أعرفه،فالتفتُّ حولى ،فلمحتُ الأديب الراحل «محمد المويلحي» فسألتُه: ما تقول فى صوت الشيخ محمد رفعت،فأجاب: « إنه سيد القراء، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا،حتى بعد رحيلنا، أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا». وغير بعيد من «المويلحى»،وجدتُ أنيس منصور،وهو حديث عهد بالموت ،يجلس وحيدا، فكررتُ عليه نفس السؤال،فأجاب: « صوت الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال وجلال صوته أنه فريد في معدنه، و قادرعلى أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر». أعدتُ السؤال على الموسيقار محمد عبد الوهاب،الذى صادفته هناك ،فأجاب : صوت الشيخ محمد رفعت ملائكي وزاده الموت جمالا على جماله«،ثم تابع :» كان صوت «محمد رفعت» يحوي مقامات موسيقية مختلفة وكان يستطيع أن يتنقل من مقام إلى مقام دون أن يشعرك بالاختلاف،أما الآن فصار الصوت ملائكيا مسموعا لأبعد مدى ،دون مكبرات صوت»! سألت «عبد الوهاب»: وهل ما زلت تمارس الغناء بعد موتك ؟ فأطلق ضحكته الشهيرة ولم يجب ،فسألته مجددا: هل عرفت إجابات الأسئلة التى طرحتها فى أغنيتك «من غير ليه»؟ فقهقه بأعلى صوته ولم يعقب أيضا ،ما أزعج بعض الموتى الذين ضجروا منه. وإذا بى أمام محمود السعدني، الذى كنتُ فى ضيافته الأسبوع الماضى ،فأعدتُ عليه السؤال ،فأجاب : صوت الشيخ محمد رفعت ممتلئ تصديقًا وإيمانًا بما يقرأ، والله يكون فى عونكم فى الأصوات النشاز التى ابتليتم بها». وها هو الإذاعى الكبير علي خليل ، الذى قال لى : إنهم يجتمعون يوميا حول الشيخ الذى يطربهم بصوته،فسألتُه نفس السؤال ،فأجاب : « الشيخ محمد رفعت كان ولا يزال هادئ النفس، تشعر وأنت جالس معه كأنه في جنة الخلد، كان ولا يزال كيانًا ملائكيًّا، ترى في وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض». أنهى الشيخ محمد رفعت حديثه الجانبى،فاقتربتُ منه ،وصافحتُه من جديد ،وأمليتُ النظر فى وجهه ،فبدا ملائكيا نورانيا شديد الإشراق،وسألتُه:كيف حالك يا سيد القراء؟فأجاب متواضعا:أحمد الله على عظيم إحسانه،فقد أجزل لى العطاء ،ومنحنى رضا لا يوصف . قلت :مر على رحيلك عن الحياة،أكثر من 6عقود ،ولكن لا يزال صوتك يهزم الزمن ،وما زلت أشهر من كل من جاءوا بعدك فى تلاوة كتاب الله،فقاطعنى : هذا فضل من الله ومنة ،أشكره عليهما عظيم الشكر والامتنان. قلتُ:ولكن بم تفسر ذلك ،وما سر خلود أصوات وفناء غيرها؟ فأجاب:من يخلص لكتاب الله،ولا يتخذه سبيلا للاسترزاق ،يعظم الله له أجرا. سألته:أى الأصوات التى كانت تشجيك فى حياتك؟ أجاب:القراء :عبد العظيم زاهر. قلت:وبعد موتك؟ أجاب: خلف من بعدى خلفٌ أخلصوا لكتاب الله ،فأخلص لهم،مثل :مصطفى إسماعيل ،محمود خليل الحصرى،محمد صديق المنشاوى،عبد الباسط عبد الصمد ومحمود على البنا، وجميعهم لا يزالون يرتلون كتاب الله ويجودونه بعد وفاتهم ،ونتبادل جميعا التلاوة هنا فى هذا المكان وغيره. قلتُ:فى عهدك،قيل :إن القرآن نزل فى مكة، وقُرئ فى مصر،ولذا عُرفت مصر ب»دولة التلاوة» بفضل كوكبة من القراء العظام،ولكن هذه الدولة تفككت وزالت وتلاشت؟ فأجاب الرجل متحسرا:قديما كنا مخلصين لكتاب الله ،ولكن ما حدث أن الدنيا تغيرت كثيرا بعدنا،وأصبح محدودو المواهب ومعدوموها يتكالبون على الإذاعة والتليفزيون لاعتمادهم «قراء» ،بالواسطة والرشوة،ولم يعد هناك اهتمام بتخريج وتربية قراء متميزين ،فى الوقت الذى أصبح فيه الاهتمام الإعلامى الجارف مقصورا على «المزيكاتية ومن على شاكلتهم». قلتُ:وما الحل؟ أجاب : لا حل ،أنتم تفرطون فيما لا يجب أن تفرطوا فيه ،انظر مثلا إلى عدد المسابقات والبرامج والفعاليات التى تنظم ويصرف عليها المبالغ المالية الباهظة ،لاكتشاف مطربة أو مطرب أو راقصة ،ولو أنفقت هذه الأموال على اكتشاف قراء القرآن لكان أجدى،وأنا أدرك تماما لو أننى،أو زملائى من كبراء دولة التلاوة كنا بينكم الآن ،لوضعتم على رءوسنا التراب ،هذا شأنكم.. بدا كلام الرجل مطابقا للواقع وكأنه يعيشه بيننا ،فارتبكت للحظات ،ولم أجد ما أقوله،فقد صار القرآن مهانا بيننا،سواء فى الحياة العامة ،أو فى الأعمال الفنية،وغيرها. استأذنت الرجل فى الانصراف ،فأذن لى ،فيما كنتُ أتذكر كلمات خالدة عنه نصها :«كان الشيخ محمد رفعت قويا رقيقا خاشعا عابدا لله يشهد بوحدانية الله وصمديته، فهو رجل خشع قلبه فخشع صوته ، فهو صوت من الجنة»،فقلتُ لنفسى :«هو ذلك بالفعل».