القوادون أنواع : بعضهم يتاجر بلحم البغايا وشهوات الرجال وبعضهم يتاجر بالكلام فيولى وجهه شطر الذي يدفع فيرفع.. قبل التغريدة الأولي، لأبكر طير على تلك الشجرة الوارفة بشارع (الشهيد نصحي جورج) صرخ «المنبه» الأبيض الصغير، فاستيقظ عم مسعود الناشف، الذي تسلل إلى الحمام فى هدوء قاتل وحركة تصارع السكون، وكأنه يقدم مشهدا بطيئا فى فيلم ابيض واسود.. خمس دقائق فقط مرت قبل أن يخرج الرجل الذى تجاوز الستين بنصف قرن متلصصا خشية إزعاج احد من أهل بيته، مستعدا ليوم جديد من الشقاء و«هدة الحيل»، فأخذ مفاتيح السيارة، وانطلق لحال سبيله. بجوار الرصيف كانت سيارته (السيات) تتوارى فى خجل بلونيها الأبيض والأسود وكأنها بين السيارات المجاورة لها فتاة دميمة ضئيلة الحجم، دفعها القدر لحضور حفل زفاف أميرة اسبانية هيفاء القد والقوام. متعجلا.. دفس عم مسعود مفتاحه الصدئ فى كونتاكت «زوبة»، فهكذا يسمى سيارته المسكينة التى ورثها عن أبيه قبل عقود، فلما ضاق به الحال حولها لتاكسى يغنيه عن سؤال اللئيم. دار محرك السيارة فزعقت وكأنها تسعل أو تلفظ آخر أنفاسها، ثم مضت بسرعة تضاهى سلحفاة كسيحة تتمشى على مهل، أو كمن يمشى على قشر البيض، وبعد يوم أو بعض يوم وصلت «زوبة» إلى شارع قصر العينى الشهير بوسط البلد، قبل ان يشير لسائقها أحد المارة (قرنى المهاود) صارخا: أكتوبر يا أسطى؟ السائق متحدثا دون أن يوقف السيارة: طيب نط.. قرنى: أنط.. يا أخى احترم نفسك! السائق: يا عم افهم، زوبة لو وقفت لا يمكن ان تغادر مكانها ولو بالزق. قرنى: اه، افتكرت.. وهكذا، سارت زوبة كما الحامل فى توأم، فزاد انينها، وقلت سرعتها، أو بالأحرى، زاد بطؤها، ودار هذا الحوار بين الناشف وقرنى: السائق: أى مكان فى أكتوبر تقصد يا محترم؟ قرنى (مسرورا): محترم! اطلع على مدينة الإنتاج يا عسل، ولك «شلن» كبير. السائق: صباحك فل يا عمنا، لكن قلِّى.. حضرتك مذيع ولا مخرج؟ قرنى: لا هذا ولا «ذالوك» يا عم الحاج.. السائق: مؤكد، أنت صاحب قناة، شكلك مقمع وملمع ومحترم.. قرنى (وهو يكاد يطير فرحا): محترم! للأسف، لست صاحب قناة أيضا يا أسطى. السائق(مندهشا): طيب حضرتك وظيفتك جنسها إيه؟ قرنى: جنسها؟ تبقى قربت تعرف وظيفتى.. السائق: والله أنت حيرتنى، لكن دعنا نتسلى فالمشوار طويل وزوبة رايقة! قرنى: لا.. فى عرضك سرع «إيقاعك» يا أسطى، ميعادى فى القناة من «واحدة لواحدة ونص»! لم تغير كلمات قرنى شيئا فى الأمر، فالسرعة صفر التى تسير بها زوبة هى آخر ما عندها، ولو فكر سائقها وصاحبها، عم مسعود، فى زيادة سرعتها لانفجر موتورها فى الحال، ومع ذلك ظل قرنى يصرخ فى الرجل بحجة أنه يريد الوصول لمدينة الإنتاج الإعلامى فى موعده، بينما كان قصده أن يتفادى الرد على سؤال الناشف الذى يريد معرفة مهنة هذا الراكب المراوغ. وهكذا ظل الحال على ما هو عليه، إلى أن أشار رجل أنيق فى أواسط العقد الخامس من عمره، لسائق زوبة طالبا منه التوقف ليقله إلى ذات الوجهة التى يقصدها قرنى، وبالفعل، وعلى طريقة الراكب الأول، قفز ضيفنا الجديد إلى قلب زوبة التى تفسخت جنباتها كما «الباضى» الذى ترتديه تلك الفتاة البضة التى مرت بجوار السيارة فسبقتها رغم تبخترها فى مشية بطة خالية البال. المشهد الآن كالتالى، فى المقدمة عم مسعود وبجواره (تامر زهران) الراكب الجديد، وفى المؤخرة يجلس قرنى وحده يتابع عيونهما فى مرآة السيارة. تامر: أكتوبر من فضلك يا أسطى.. قرنى: يا سبحان الله، أنا أيضا متجه لأكتوبر.. مسعود (مخاطبا جاره): ناقص تقول إنك ذاهب إلى مدينة الإنتاج الإعلامى أنت أيضا؟ تامر: بالفعل، لكن قلِّى، كيف عرفت؟ قرنى: وهل تسأل يا أستاذ؟ الأمر بسيط وواضح، فرجل أنيق مثلك لابد أنه فى طريقه للقاء تليفزيونى أو ما شابه ذلك.. تامر: صدقت يا... قلت لى اسمك إيه؟ قرنى: محسوبك قرنى.. تامر: اسم ولا صفة! مسعود: والله فكرتنى يا بيه.. (لقرنى) ألن تخبرنى عن مهنتك؟ قرنى: طيب الأولى تسأل من يجلس بجانبك أولا.. تامر: محسوبكم تامر زهران، ناشط.. مسعود: ناشط يعنى إيه، ما أنا ناشط والرجل هذا (مشيرا لقرنى) ناشط أيضا.. تامر: يا جماعة افهمونى، أنا لا أقصد ناشط وخامل.. قرنى: خامل الخلعى.....ههههههههههههههههههه تامر: (لقرنى) لأ ظريف.. (موجها كلامه للسائق) يا أسطى باشا أنا قصدى ناشط سياسى.. مسعود: آه يعنى من الجماعة الذين نراهم الصبح فى «دريم» وبالليل فى «الرحمة» يعنى ملوك الكلام الفاضى والهرتلة وسمعنى نشرة الأخبار الجوية! تامر: قصدك إيه؟ قرنى: لا قصده ولا حاجة.. مسعود- مقاطعا-: لا بقى أقصد.. يا سيادنا أنا خلاص زهقت، فكل من ليس له شغلانة قال أنا ناشط ولا مفكر، وكأن باقى الخلق بهايم لا يفكرون ولا يحزنون.. قرنى ل(السائق): هدى خلقك يا حاج. أنت صاحب مرض.. (لتامر) وأنت بقى شرقى ولا غربى؟ تامر: لأب قبلى بس على مناور! قرنى: هأهاها.. لا ملعوبة، أنا قصدى لونك.. جنسك.. يعنى «تمنجهك» السياسى.. تامر: فهمتك، بص يا سيدى، أنا ليبرالى إسلامى علمانى اشتراكي قومى ومستقل.. مسعود: منافق يعنى! تامر: لا أنت خلتها خل خالص يا أسطى! قرنى: يا جماعة استهدوا بالله.. (لمسعود) يا أسطى أنت سيد العارفين، أكل العيش يحب الخفية، ورزق الهبل ع المجانين.. مسعود: على رأيك، لكن عايز اعرف، أنت شغلتك إيه؟ هنا تقفز الفكرة فى عقل قرنى، فهو مجرد مسهلاتى ومشهلاتى أى قواد مهمته توفيق رأسين فى الحرام، ولا مانع من أن يمنح نفسه هذا اللقب والوظيفة الأكثر شيوعا فى بر المحروسة، فقال للسائق إنه أيضا «ناشط» لكنه لم يفسر من أى نوع هو! وأخيرا.. وصلت زوبة إلى مدينة الإنتاج الإعلامى، فقفز الراكبان، وبينما أخرج تامر زهران من جيبه جدولا بمواعيد البرامج وأسماء القنوات التى تستضيفه هذا اليوم، كان قرنى يعرف وجهته الوحيدة التى لا يحيد عنها ولا يبدلها، ليدخل من باب ضخم تعلوه لافتة مكتوب عليها « قناة البت للرقص الشرقى». هنا ضحك عم مسعود، الذى كان يراقب المشهد، وقال ساخرا: القوادون أنواع، فبعضهم يتاجر بلحم البغايا وشهوات الرجال، وبعضهم يتاجر بالكلام فيولى وجهه شطر الذى يدفع فيرفع..