استراحة الحرافيش صفحة لاذعة جدا بطعم الحياة التى يحياها حرافيش وفقراء هذا الوطن, ..من خلالها نستقبل رسائل المهمشين كى نعرضها على ولاة الأمر.. يبدو أن جروحنا نحن حرافيش هذا الوطن باتت لاتؤلم أحدا .. نكتوى بها وحدنا .. بكاء الفقراء لا يهتم به أحد, ولايضره, اللهم إلا فى مواسم الانتخابات فيكون اللعب على أوتار أوجاعنا وتدبير الحلول الوهمية لها هو الكوبرى الذى يعبر عليه اللاهثون خلف المقاعد البرلمانية والرئاسية .. أكتب هذه المقدمة بعد أن قرأت رسالة أحد أصدقائى الحرافيش والتى جاءت على النحو التالى: عزيزى الحرفوش الكبير.. أنا شاب من شباب هذا الوطن.. ورغم عمرى الذى لم يتجاوز الثلاثين عاما إلا أننى أشعر أنه قارب على الألف سنة .. رغم زحام المكان الذى اسكن فيه وتراكم اكوام اللحم الذى بات رخيصا فى منطقتنا لدرجة انك قد تتزاحم مع ابنة الجيران على دخول الحمام المشترك الذى لايستر عورة, إلا اننى أشعر بالوحدة .. أشعر بالوحدة رغم عدد أشقائى التسعة الذين لا ألقاهم إلا ساعة أن تجمعنا أرضية الحجرة المتهالكة .. رغم كل هذا الزحام – سيدى- إلا أننى أشعر أيضا بالخوف .. نعم أخاف من كل شيء .. أخاف منى على نفسى فى كثير من الأحيان.. ولأننى بالصدفة تم إلحاقى بالمدرسة..ولأننى بالصدفة كنت استوعب ما يلقى علىّ من دروس.. ولأننى كنت من أذكى تلاميذ الفصل.. كنت لا أحمل والداى عبء المصروفات المدرسية.. فأنا دائما من الأوائل وأحصل على منحة الدراسة حتى وصلت لمرحلة التعليم الجامعى والتحقت بكلية الألسن .. الأحلام كانت تحيط بى من كل جانب .. لكنى كنت أنام كما ينام اخوتى وآكل مثلهم وأصادق جيرانى البؤساء الذين حلموا لحلمى الذى قد ينتشلهم معى يوما ما من هذه البيئة .. كنت أرى نفسى سفيرا أو وزيرا أو حتى معيدا بالكلية وهذا أضعف الإيمان .. لم أكن أكذب على زملائى ولم أكن أتجمل .. بل كنت أخرس لا يتكلم .. فالمرء يا سيدى مخبوء تحت لسانه وإذا تحدث ظهر .. وأنا لم أكن أريد أن أظهر حالة البؤس التى نعيشها حتى تخرجت في الجامعة بتقدير جيد جدا ..وهنا بدأ الحلم ينكسر رويدا رويدا .. كانت الجامعة تريد اثنين فقط كى يعملا معيدين بالجامعة .. فلم أكن واحدا منهما .. وطلبت الخارجية أوائل الخريجين كى يعملوا بها .. وبعد التحريات والتى منها قالوا اننى لا أصلح لوظيفة دبلوماسى.. فلا عائلة ولا شرف ولامال وأيضا لاحسب ولانسب .. وقالوا لي أسباب الرفض بكل غلظة ..غير لائق اجتماعيا.. أصبح الزحام يملأ ضلوعى وانعزلت عن جيرانى وأقرانى ممن لم يحصلوا حتى على الابتدائية لكنهم يعملون .. يعملون أى شيء .. منهم من يسرق ومنهم من يبلطج ومنهم من هو عامل نظافة وأغلبهم متسولون .. المهم أنهم يعملون وزوجاتهم مثلهم .. كلهم يصلحون لعمل أى شيء إلا أنا ..لأننى أنا الوحيد الذى كان يحلم بينهم .. تحولت إلى أخرس يا سيدى.. ولكن كان الكلام يملأ قلبى .. وتتراكم فى قلبى المعانى المؤلمة حتى بات متورما لايقوى على البوح ولا حتى الاستماع .. بعد الثورة المسروقة لملمت أوراقى وشهادات تخرجى وأخذت أبحث عن فرصة عمل.. وكان المثل الشعبي يطوق عنقى كلما دخلت هيئة أو وزارة لأسأل عن فرصة عمل .. «المنحوس منحوس حتى لو علقوا فى رقبته فانوس ».. استسلمت لهذا المثل الذى قاله لى والدى الذى لم أره إلا وهو ملقي على حصيرته التى تسعه هو ووالدتى وأشقائى الصغار .. جاءت انتخابات الرئاسة ..وبدأ الجميع فى زيارة منطقتنا الخربة .. الجميع وعد بالسكن والعمل والنظافة والذى منهُ .. تعاطفنا مثل غيرنا مع اصحاب اللحى عسى ان يكون فيهم خير .. أحد ابناء منطقتنا حكى قصتى لمندوب الإخوان فى المنطقة فقام بدوره باصطحابى الى مكتب الإرشاد .. واستقبلونى اجمل استقبال حتى شعرت اننى انسان لأول مرة منذ تخرجى .. التقيت المهندس خيرت الشاطر ووعدنى بأن العدالة سوف تأخذ مجراها .. دبت فى جسدى النحيل الروح وأحيت معها قلبى الميت ..ووقفت معهم فى اللجان وانتهت الانتخابات وأصبح مرسى رئيسا وأنا كما أنا ما زلت تعيسا.. ولن أصف لك ما عانيته ..فهو ليس بأقل ولا أكثر مما حكيته لك فى السطور السابقة .. فعدت كما كنت .. شابا لكن عمرى ألف عام .. وحيدا لكن بين ضلوعى زحام .. خايف وبخاف حتى منى أنا .. أخرس ولكن قلبى مليان كلام !