بعد منتصف ليل الخميس الفائت، بساعتين إلا سبع دقائق، أيقظنى هاتفى المحمول، من سُبات كان عميقا.. نظرتُ إلى شاشة هاتفى المُزعج، فلم أُبصر اسما أو رقما، بل عبارة «رقم خاص».. فلم أهتم، واستأنفتُ النوم، لكن «الموبايل» مارس معى ضجيجه، فنهضتُ من فراشى، وعاودتُ النظر إلى شاشته، فوجدتُ العبارة نفسها، فلم أرد. حينئذ.. سرحتُ بخيالى فى عبارة «الرقم الخاص»، التى لا أزال أحمل تجاهها مشاعر غير طيبة، فعبر «الرقم الخاص»، اُستدعيتُ بين العامين 2005 و2010، إلى جهات سيادية، لأسباب واهية، كان من بينها نشر حملة صحفية ضد رئيس قطاع الأخبار الأسبق «عبداللطيف المناوى»، تخيلوا ؟! هكذا كانت الحال قبل الثورة، ظللتُ أفكر وأخمن، من سيكون صاحب «الرقم الخاص».. وتفاءلتُ،على غير عادتى، فرجّحتُ أن يكون رقم زميل أو صديق، استعان بهذه الخاصية، لكن ميراث الماضى البغيض بدد اعتقادى المتفائل، كما لم أتمكن من العودة إلى النوم، الذى فرّ بعيدا عنى، فأمسكتُ ب«الريموت كنترول»، وأشرتُ به إلى جهاز التليفزيون، فتنقلتُ بين قنوات القرآن الكريم، لأهدّئ من روعى، وبين قنوات الرقص، لأرفّه عن نفسى، قبل أن يستأنف الهاتفُ ضجيجه مجددا، فقررتُ، هذه المرة، الردّ، وقلتُ بهدووووء يضارع هدوووووء «عماد الدين أديب» فى برنامجه الذى يحمل نفس الاسم: «آلو»، فجاءنى صوتُه هادئا وواثقا: «أهلا بك»، فقلتُ: «أهلا.. من أنت؟»، فأجابنى: «ليس مُهما الآن!!»، فتضاعف توترى وارتباكى، وهممتُ بإغلاق الهاتف فى وجهه، إلا أنه استدرك، مستئذنا أن نلتقى عند الثانية عشرة ظهرا، من نفس اليوم، الذى بدأت ساعاته منذ قليل، فسألتُه ساخرا: أين، فى «جابر بن حيان» أم أين..؟ فأطلق ضحكة هادئة، ثم أجابنى:»اطمئن، لستُ منهم، دعنا نلتق بعد ساعات من الآن فى مقر عملك، حتى لا أرهقك، وسوف تعرف كل شيء»، بعدها.. باغتنى بقوله: «لا تنسى أن مشاهدة قنوات الرقص والغناء، ينطوى على إثم عظيم»، فأسقط فى يدى، وتلفتُّ حولى، ثم أغلقتُ التليفزيون نهائيا، ورغم أن موعد أذان الفجر كان قريبا، إلا أن أبليس أقنعنى بالنوم، فنمتُ.. عند العاشرة صباحا، استيقظتُ، توضأتُ وصليتُ، وارتديتُ ملابسى، ونزلتُ من مسكنى، غير أن ازدحام المواصلات، أهدر نحو نصف الساعة، دون أن أجد حافلة أو أوتوبيسا شاغرا، ينقلنى إلى مقر عملى، حيث لم يمُنّ الله علىّ بعدُ، بشراء سيارة، ولو بالتقسيط. فكرتُ فى الاتصال ب»الضيف المجهول» معتذرا عن التأخير، إلا أننى تذكرتُ أن ذلك لن يكون متاحا، لأنه مع خاصية «الرقم الخاص»، لا يكون هناك أرقام، يمكن العودة إليها، لاستخدامها.. فى هذه اللحظة، فوجئتُ بسيارة فارهة، تقف أمامى، ويأذنُ لى قائدُها بالركوب إلى جواره، فاعتذرتُ متعففا فى بادئ الأمر، لكنه أصر، مؤكدا أن طريقنا واحد، فاندهشتُ، لكنى فعلتُ، وفور أن ركبتُ السيارة، مدّ إلىّ يده مصافحا، فصافحتُه شاكرا، فقاطعنى:»أنا هو»، قلتُ : «عذرا، لا أفهم»، فأطلق ضحكة تشبه ضحكة صاحب «الرقم الخاص»، أتبعها بقوله: «أنا من أزعجتُك ليلا، فنظرتُ إليه مليا، وتفحصتُه جيدا، فراودنى «إحساس ساذج»، بأنه ليس كالبشر، بالرغم من هيئته البشرية المدهشة، فطردتُ هذا الإحساس من داخلى، ولا أعلم كيف تسلل إلىّ، على أننى لستُ من مدمنى «الترامادول»! لم يأبه «ضيفى المُريبُ» بحيرتى وارتباكى، مُكتفيا بقيادة سيارته الفارهة، وقبل أن أنطق بكلمة واحدة، بادرنى بقوله: «شغلك بالقرب من وسط القاهرة، أليس كذلك؟ فقلت: بلى.. فقاطعنى: «أنا أعرف جيدا». ورغم أن الطريق كان مزدحما، إلا أننا وصلنا بسرعة لافتة، إلى مقر عملى، فدلفنا إلى مكتبى، وسألتُه: ماذا يشرب؟ فأشاره بيده إشارة رافضة، فأغلقتُ باب الغرفة، حتى لا يقطع حوارنا مُتطفل. جلستُ إلى مكتبى، فيما جلس هو أمامى، ولم تغب ابتسامة غير مفهومة، عن شفتيه، قبل أن يقول: «من المؤكد أنك تتساءل فى قرارة نفسك، عن هذا الضيف الثقيل، الذى أيقظك من نومك، ثم انتظرك اليوم، ثم حلّ ضيفا عليك..؟»، فقلتُ: «لا عليك، ولكن لماذا تصرُّ على عدم الإفصاح عن نفسك، حتى الآن، هذا فقط ما يضايقنى، فابتسم مجددا، ثم قال: «أنت مُحق فى ذلك، غير أنى لن ألبى لك ما تريد الآن»! ولأن هذا الكائن الخرافى، فى ضيافتى، فوجدتُ أن أكظم غيظى، وأجاريه، حتى حين، وأدرك هو «أيضا» ذلك، فسألتُه: إذن ما الموضوع؟ فأجاب: «لا شيء»! فقلتُ: «إذن، سوف أصمتُ، مادمت لن أجد إجابة عن أسئلتى، وإذا أردت أن تتحدث، فلك الأمر..». حينئذ.. توهم ضيفى، أنه انتصر «نفسيا» علىّ، وأنا ساعدتُه «بخُبث» على ذلك، لعله يتكلم، بعدها أخرج من، حقيبة جلدية،»لاب توب» صغيرا جدا, لم أر مثله من قبلُ، ثم ضغط على مفتاح التشغيل، فأضاءت شاشته، ثم ضغط على عدة أزرة، بعدها التفت إلىّ مبتسما، ثم قرأ، عبر جهازه الألكترونى، بيانات دقيقة «جدا» تخصنى، اسمى، عمرى، حالتى الاجتماعية، آخر تطورات حالتى الصحية، بجميع تفصيلاتها وتعقيداتها الظاهرة والباطنة.. من جديد، أُسقط فى يدى، وتصببتُ عرقا، وتلعثم لسانى، ولكنى قاومتُه، سائلا ضيفى: ومن أخبرك بكل هذا، ولماذا يشغلك أمرى؟ فرفع رأسه قليلا، ثم قال: «لستُ مشغولا بك، من أنت حتى أنشغل بك؟ ولكن هذه طبيعة عملى»، قلتُ مندهشا: وما هو عملك، الذى يُلزمك بتقصى أخبار البشر وأسرارهم على هذا النحو، فأجابنى بالقرآن :»لا تسألوا عن أشياء، إن تُبد لكم تسؤكم»، فقلت: «دع نفسك مكانى» ،فقال: «هذا مستحيل». ضاق صدرى، ولم ينطلق لسانى، وارتفع ضغطى، وتراجعت نبضات قلبى، وتملك منى الغضب، فانتفضتُ واقفا، وفتحتُ إحدى النوافذ، فتسللت منها نسائمُ رقيقة، أطفأت بعضا من جمرة الغضب فى صدرى المُتقد، حتى طلب منى مُضيفى الجلوس فى هدوء، فجلستُ، ثم قرأ عبر جهازه الألكترونى شعرا، أذكر منه: أترجو البقاء وهذا مُحالُ ولله عز وجل البقاءُ فلو كان للفضل يبقى كريمُ لما مات من خلقه الأنبياءُ تموت النفوس وتبقى الشخوصُ وعند الحساب يكون الجزاءُ نعلل بالدواء إذا مرضنا فهل يشفي من الموت الدواءُ؟ قلتُ: أحسنت، وإن كانت هيئتُك لا تُنبئ عن شاعر أو واعظ، ثم من أخبرك، أننى أرجو بقاء أو خلودا فى «دنيا دنيئة كأهلها، كما أنك تعلم حالتى الصحية جيدا، فى ضوء ما تلوته من معلومات «، فقال: «لا عليك»، ثم أنشد: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنها وإن بناها بشرٍ خاب ثاويها قلتُ: «والله.. أعلم ذلك جيدا، ولستُ فى حاجة إلى نصيحة ناصح، غير أنه قاطعنى فى «تحد سافر، وابتسامة ساخرة»، منشدا: أخي ما بال قلبك ليس ينقى كأنك لا تظن الموت حقا ألا يا ابن الذين مضوا وبادوا أما والله ما ذهبوا لتبقى حينئذ قررتُ تحدى مُضيفى نفسيا، فقاطعتُه منشدا «أيضا»: للموت فينا سهام غير مُخطئةٍ من فاته اليوم سهم لم يفته غدا ما ضر من عرف الدنيا وغدرتها ألا ينافس فيها أهلها أبدا بعدها، صمتُ «هنيهة»، فإذا به يشرع فى كلام جديد، فاستأنفتُ متعمدا مقاطعته: نفوسُ المنايا بالنفوس تشعبُ وكل له من مذهب الموت مذهبُ نُراع لذكر الموت ساعة ذكره وتعترض الدنيا فنلهو ونلعب حينئذ، صفق لى مضيفى «تصفيقا باردا»، فيه اعتراف ضمنى منه، بأننى جاريتُه، فى حالة «القهر النفسى»، التى يمارسها علىّ، منذ أن التقينا، فقاومتُ استفزازه، بأن أبلغته بحوارى مع «إبليس»، الذى قهرتُه فيه باعترافه، ثم زدتُه من الشعر أبياتا، أذكر منها: ولقد لعبت وجدّ الموت في طلبى وإن في الموت لي شُغلاً عن اللعب لو شمّرت فكرتي فيما خلقت له ما أشتد حرصي على الدنيا ولا طلبي فعقّب مضيفى قائلا: وقبلك داوى الطبيبُ المريض فعاش المريض ومات الطبيبُ يخاف على نفسه من يتوبُ فكيف ترى حال من لا يتوبُ عندئذ، كانت عقارب الساعة تقترب من الثالثة عصرا، فاستأذنتُه أن أصلى الظهر، قبل أن يؤذن للعصر، فأذن، وبعدها عدتُ إليه، ثم سألتُه مُجددا: من أنت؟! فاعتدل فى جلسته، ونظر إلىّ مليا، ثم وضع ساقا على ساق، ثم صمت لحظات، قال بعدها فى ثقة متدفقة:» «أنا ملك الموت ورسوله، وقابض جميع الأرواح، بإذن الله ومشيئته، بعد أن تستوفى كل نفس رزقها، وينقضى أجلها، سواء أكانت أرواح إنس وجن وملائكة أم أرواح بهائم وطيور وحشرات».. زاغت عيناى، وكادت أنفاسى تتوقف، بل كاد قلبى يتوقف عن النبض تماما، ولم يطاوعنى لسانى فى الكلام، وتصببتُ عرقا غزيرا، فى الوقت الذى كان هو مُستغرقا فى حالة من الضحك الهستيرى، فنهض واقفا، ثم ربّت على كتفىّ، فتضاعف هلعى، وقلتُ بصعوبة وتلعثم: أنت، أنت عزرائيل؟، فعاد إلى مقعده، من جديد، ثم أجاب مبتسما: «لا، لستُ عزرائيل..!!»، قلت:»كيف؟»، فأجابنى:»اسمى: ملك الموت، هكذا سمانى الله تعالى، فى قرآنه الكريم، فى غير موضع، منها: «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ..»، كما لم يذكرنى الرسول الكريم، فى أحاديثه الصحاح باسم «عزرائيل»، ولو بحثت فى كتب الأحاديث التسعة، فلن تجد ذكرا لهذا الاسم، ولم يرد ذكره، إلا فى الآثار الإسرائيلية»! قلتُ، وقد برزت عيناى: وهل جئت زائرا أم قابضا؟، فعقّب: «بل زائرا»، فسألتُه:»لم»؟، فقاطعنى مستغربا: «أعتقد أنه ليس من اللياقة، إن يسأل المرءُ ضيفه، عن سر الزيارة، أليس كذلك»؟، قلتُ: «بلى»، فقال: «إذن، فلم الاعتراض؟»، فأجبتُه:»ليس اعتراضا، ولا تأففا». بذكاء، أراد مُضيفى أن يُغيّر دفة الموضوع، فلم أطاوعه، بل عمدتُ إلى مضايقته وقهره من جديد، مُتسائلا:»أنت، إذن، هازمُ اللذات، ومُفرّق الجماعات، ومُخرب البيوت، ومُعمر القبور، ومُيتم الأطفال، ومُغلق الأبواب، ومُفجع الأحباب»؟ فقاطعنى: «مهلا، لا تظلمنى، فوالله، لو أردتُ قبض روح بعوضة، ما قدرتُ على ذلك حتى يكون الله هو الذى يأذن بقبضها». قلتُ: وهل أنت ملك الموت الأكبر؟، فأجاب: «بالتأكيد، لستُ هو، بل أنا أحد أعوانه، إنما هو ملك عظيم الخلقة والمنظر، جالس على كرسى من نور، والملائكة عن يمينه وعن شماله، ينتظرون أمر الله تعالى عز وجل، وعن يمينه لوح، وعن شماله شجرة عظيمة». فسألته: وكيف يقبض الأرواح وهو فى مكانه هذا؟ فقال: إن الله أمكنه من ذلك، وسخر له من الملائكة الكثير جدا، فإذا بلغ العبد أجله، أرسل إليه أربعين ملكا، ينزعون روحه من العروق والعصب واللحم والدم, ويقبضونها من رؤوس أظافره، حتى تصل الى الركب، ثم يُريحون الميت ساعة، ثم يُجذبونها الى الصُرّة، ثم يريحونه ساعة، ثم يجذبونها الى الحلقوم، فتقع فى الغرغرة، فيتناولها ويسلها كما تسل الشعرة من العجين, فإذا انفصلت من الجسد، جمدت العينان، لأنهما تتبعان الروح، ويرسل الملك منا الروح الطيبة إلى عليين، والروح الخبيثة إلى سجين, وهى صخرة سوداء مدلهمة تحت الأرض السابعة السفلى، فيها أرواح الكفار والفجار». قلت: وكيف تتعاملون مع المؤمن الصالح؟ فأجاب:» «يترفق ملك الموت منا بالمؤمن،لاسيما الصالح المخلص، ويأتيه فى صورة حسنة, ويجذب روحه، بسهولة ولطف، ويخاطبها بكلام حسن»، فيقول لها: «اخرجى، أيتها النفس الطيبة.. اخرجى حميدة، وأبشرى بروح وريحان، ورب راض غير غضبان», فلا يزال يقال لها حتى تخرج»، قلتُ: «والنفس الخبيثة»؟، فقال: «يشتد ملك الموت منا بغير المؤمن ويقول لروحه: «اخرجى أيتها النفس الخبيثة، كانت فى الجسد الخبيث، اخرجى ذميمة، وأبشرى بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزالُ يُقال لها حتى تخرج»، ثم اعتدل فى جلسته، وكان متكئا، وتلا بصوت خاشع، لا يضاهيه صوت من الإنس: «أن تقول نفس، ياحسرتي على ما فرطتُ في جنب الله، وإن كنتُ لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة، فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي، فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين، ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون». حينئذ، تلبستنى حالة من الخشوع والسكينة، لم أعهدها، استجمعتُ بعدها قواى ثم سألته مستنكرا: «لماذا تصر على إرهابى وإفزاعى، فالله غفور رحيم»؟ استأذنت مُضيفى لصلاة العصر، خاصة أن الشمس كانت فى طريقها للغروب، وفور أن انتهيتُ، عكّر صفوى بسؤال ماكر: «يكتنفنى إحساس، بعدم إخلاصك فى الصلاة، وإنما تتظاهر بها أمامى، خوفا من أقبض روحك الآن..»! فتبسمتُ من قوله، ثم أردفتُ: «أصبت»! فضحك ضحكة صفراء، ثم استطرد: «تصفحتُ أثناء أدائك الصلاة، بوابة «فيتو»، وتوقفت عند مقالك «فغدا نلقى الأحبة»، فما رأيك أن نذهب إليهم الآن»؟، فامتعق لونى من جديد، وقلتُ له: «لكنك قلت إنك أتيتنى زائرا، وليس قابضا»؟، فقاطعنى: «لا تخف»، فسألتُه: «إذن ماذا تقصد»؟، فأجابنى فى برود: «سوف نذهب سويا إلى أحبتك»!، قلت: «ومن هم»؟، فعقّب: «أبوك وجدك»، فتهلل وجهى، وقلت: «موافق..هيا بنا». لملمتُ أشيائى، ونزلنا سويا، وركبنا سيارته الفارهة، وفى غضون ربع الساعة، وصلنا إلى مقابر «التونسى»، المتاخمة لجبل المقطم، كان الليل أرخى سدوله، والظلام أطبق قبضته على المكان، لم يحتمل قلبى وحشة الموقف، فأخرجت شريط «بلافكس»، وهو أحد أدوية القلب التى أنتظم فى تناولها منذ سنوات، وابتلعتُ واحدة، لم تفلح فى إعادة الهدوء إلى قلبى. فى هذه الأثناء، تعمد رفيقى تجاهلى، تاركا إياى فى حال يُرثى لها، وعزة نفسى منعتنى من إظهار هلعى، مرت دقائق كأنها سنوات، بعدها اصطحبنى إلى داخل القبر، فإذا بجدى يصلى فى خشوع، عهدتُه عليه، منذ أبصرت عيناى النور، فيما كان أبى يحمل مصحفا كبيرا فى يده، غير أنه لم يتخل عن عادته فى الانفعال على أحد جيرانه الموتى، فسألته: «فيم انفعالك؟»، فلم يجبنى، ولكنه سألنى: «ما الذى أتى بك إلى هنا»؟، فأجبته: «لأطمئن عليك وعلى جدى»، فقاطعني بنبرة حادة: «لا شأن لك بنا»، فتدخل جدى فى الحوار، بعدما أنهى صلاته، وعانقني، وطلب من أبى أن يصمت، فصمت، واصطحبني إلى ركن ركين، فتحدثتُ معه عن أحواله وحالي أبى، فطمأنني، بعدها سألته عن سر غضب أبى منى، حتى أنه لم يحسن استقبالى، فربّت على كتفىّ، وقال: «لا تغضب، أنت تعلم الأسباب، ويبدو أنه لم ينسها بعد»، فأسررتُ كلامه فى نفسى، واستأذنته فى الانصراف، فصافحنى، فيما أشاح أبى بوجهه عنى. بعد ذلك، عدتُ إلى رفيقى، الذى هاله ضيقى وحزنى، فأبلغته السبب، فقاطعنى ساخرا: «من المؤكد، أن أباك مُحق فى غضبه منك»!، فقلت له: «لا مجال الآن لمزاحك الثقيل»، فأردف بضحكة مُفتعلة: «لاتسئ الأدب.. ألا تخشى منى»؟ فأجبتُه: «ربما كنتُ أخشاك قبلُ، أما الآن فلا..». لم ترق إجابتى الأخيرة، لملك الموت، فصمت ولم يعقب، وركبنا سيارته عائدين، من حيث أتينا، وفى الطريق، سألتُه عن سر زيارته لى، فأجاب: «افتقدتُ حلقات» عودة الروح»، التى كنت تكتبها، فوجدتها فرصة حتى نلتقى، وأسألك عن سر توقفك، فلم تصدق أذناى ما سمعت، فأعاد ما قال، فالتفتُ إليه، متسائلا: «وهل مثلك يقرأ؟»، فتبسم ضاحكا من قولى، ثم أردف: «نعم.. ولكن أصدقك القول، إن سر اهتمامى بها، يرجع إلى أنى كنتُ أراك، وأنت تُجرى حواراتك مع الموتى، ولطالما ساعدتك فى مهمتك دون أن تعرفنى، كما تابعت عن قرب حوارك مع «إبليس»..»،ثم صمت قليلا، سألنى بعدها عن سبب توقفى عن الكتابة، فذكرتُ له أسبابى، شرط ألا يفصح عنها لأحد، فتفهمها تماما، ثم سألنى: «إذن، حوارنا هذا لن يُنشر؟»، فأردفتُ: «لا أعدك»، فقاطعنى: «حاول، فقد يكون الأخير»، فقلت: «إن شاء الله». حينئذ.. وصلنا إلى مقر عملى، فنزلت من السيارة، وقبل أن نفترق، تصنعتُ التودد إليه، لأسأله: «بحكم طبيعة عملك، متى يكون أجلى»؟، فنظر إلىّ شذرا، ثم تلا قوله تعالى: «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ»، فقلت له: «إذن فاذكرنى عند ربك»، فتبسم ولم يعقب، وانصرف.... بعدها حدثت أمور أخرى، لا أتذكرها، سوى أن هاتفى رن، فأيقظنى، من سبات كان عميقا، فإذا بأحد زملائى فى العمل، يسألنى عن سر تأخرى فى الحضور، فاعتذرتُ له، وقلت: «معلش..راحت علىّ نومة»!!