بائعة الجرائد تتذكر .. سيدة خمسينية العمر، حفر الزمن بمخالبه تجاعيد وجهها الصغير، فباتت لوحة فنية تنافس لوحات بيكاسو ودافنشى فى الحزن.. أراها كل يوم وهى تجلس بجوار فرش الجرائد، ممسكة بكتاب أو صحيفة تطالع الأخبار وحكايات الناس.. لا تكترث كثيرا بذاك الزبون الذى يسحب نسخة من جريدة ويدس فى يدهاجنيها معدنيا فتضعه في صندوق خشبى صغير بجوارها، دون أن تنظر للشارى، ثم تمسك بكوب الشاى لتأخذ رشفة وهى تواصل مطالعة ما بيديها من حروف متراصة، وكلمات متعاقبة. إنها «أم مروة» بائعة الجرائد بجوار محطة مترو فيصل.. لم يكن لها حظ من التعليم، فبعد وفاة والدها اضطرت لمغادرة قطار التعليم قبل أن يصل لمحطة الإعدادية، لتساعد والدتها في العمل على «فرش» الفاكهة بشارع جانبى من شارع ترعة الزمر ببولاق.. «كانت الدنيا أمانا.. كنا نبيت فى الشارع بجوار الفرش دون أن نخشى شيئا، فالناس كانوا يحرسوننا ويعتبروننا منهم.. أما حاليا فلا أحد يأمن على نفسه أو ماله وولده».. هكذا ترى أم مروة مصر الآن.. تحكى أم مروة ذكريات لم تنته بعد : تزوجت وأنا صبية صغيرة، وشاء القدر أن يكون زوجى رجلا لا يعرف معنى تحمل المسئولية.. تركنى وكوم لحم نصارع الحياة، ليعود إلى بيت والدته بعد وفاتها ليعيش هناك وحده، متنصلا من واجباته كرب أسرة وأب لأربعة أبناء بنتين وولدين، لأقوم أنا بتربيتهم والإنفاق عليهم، من فرش جرائد بسيط بجوار المترو، ساعدنى أبناء الحلال فى إقامته بعد افتتاح المحطة. قرأت كل ما كانت تقع عليه عيناى .. كتب .. مجلات.. جرائد، حتى «الإنجليزى» حاولت تعلمه، فحفظت الأبجدية الإنجليزية وقدرا كبيرا من الكلمات، التى تساعدنى على تكوين جملة.. أسعد جدا وأنا أتحدث لغة غريبة عنى رغم أنها لا تفيدنى فى عملى أو حياتى. للمغنى الشعبى الراحل حسن الأسمر أغنية شهيرة اسمها «كتاب حياتى ياعين»، أشعر أنه غناها من أجلى، خاصة وهو يقول :الفرح فيه سطرين والباقى كله عذاب».. نعم العذاب ضيف دائم فى حياتى، بل صاحب بيت، كما يقال، أما الفرح فذكرياته معى نادرة، ومع ذلك أشكر الله وأحمده فلا اعتراض على قدر.. قبل سنوات أصيب شقيقى بسرطان الكبد.. أسرعت إلى وزارة الصحة للحصول على قرار علاج على نفقة الدولة، وبعد عناء حصلت على قرار بمبلغ لا يكفى ثمن «شريط برشام» فاستلفت من هذا وذاك لأعالج ابن أبى وأمى، إلا أن السر الإلهى خرج قبل استكمال العلاج.. راح أخى وبقيت الديون.. بعدها بفترة قصيرة، مرضت والدتى أيضا، فاختصرت الأمر ولم أسع ل«قرار» غبى لا يكفى لعلاج نملة، وأعدت الكرة بالسلف والدين، لتلقى ذات المصير، لتلحق بشقيقى. أخشى الموت قبل أن «أستر ابنتى، فكلتاهما على «وش جواز»، بينما الأسعار نار .. وتجهيزهما أصبح أمرا شبه مستحيل.. الأيام التى نعيشها أصعب من عام «77» ولا أحد يعلم ماذا يخبئ لنا القدر..