لكل منا زاوية رؤية نرى وجها واحدا من الصورة ونعتقد أنه الحقيقة، وأحيانا مع مرور السنوات يختلط علينا الأمر ما بين الحقيقة التى عشناها والحقيقة التى تمنيناها، ونذكرها بأنها هى التى حدثت بالتمام والكمال!! لا شك أن المكتبة الغنائية تحتفظ بعدد من الأغانى الرائعة للمطربة الكبيرة شهرزاد فهى لم تغادر ذاكرة الناس، إنها مع صباح هما فقط اللتان تعيشان بيننا من هذا الزمن شادية ونجاة، أصغر ببضع سنوات. فى مسابقة الفيلم التسجيلى الطويل بمهرجان «دبى» عرض فيلم «ستو زاد» راصدا حياة مطربتنا الكبيرة، نراها بعين حفيدتها المخرجة الشابة هبة يسرى.. قالت شهرزاد الكثير إلا أننى أعتقد أنها لم تقل الحقيقة بقدر ما قالت ما تبقى فى ذاكرتها، معتقدة أنه الحقيقة. الحفيدة تنحاز إلى جدتها وتصدقها وتحفزها على البوح أكثر وأكثر.. ومثل هذه الأعمال الفنية التى يمتزج فيها الشخصى بالعام علينا أن نتعامل معها بحذر وتظل مجرد وجهة نظر تحتاج إلى مراجعة وتوثيق حتى نصعد بها إلى مرتبة الحقيقة. شهرزاد هى واحدة من الأصوات القوية التى خرجت من عباءة أم كلثوم، حتى إنها كانت تقلدها على المسرح وتمسك فى يدها المنديل.. وفى البدايات كانت تردد بعض أغانيها، كان لأم كلثوم رأى إيجابى فى صوتى شهرزاد وسعاد محمد باعتبارهما الأكثر اقترابا من الحالة «الكلثومية»، ورغم ذلك فإنه لا شهرزاد ولا سعاد محمد حققتا جماهيرية ضخمة، ولم تشكلا أى خطورة على مكانة أم كلثوم.. لم تشعر أم كلثوم بالخطر من أى مطربة ظهرت بعدها سوى من أسمهان، حتى إن فريد الأطرش ظل يعتقد حتى رحيله أن أم كلثوم لم تغن من ألحانه، انتقاما لأنها كانت تغار من شقيقته، وليس لأن لديها رأيا غير إيجابى فى الألحان التى قدمها لها!! ما الذى من الممكن أن يحدث عندما يرى الجمهور تسجيل فيديو قديما لشهرزاد والجمهور فى الصالة يصفق سوف يتوقع الجميع أننا بصدد مطربة تنافس فى هذا الزمن أم كلثوم، خصوصا أن الفيلم بين الحين والآخر يحرص على أن تتسلل كلمات فى الحوار تقود المتفرج إلى تبنى هذا الاتجاه، ورغم أن الحقيقة هى أن شهرزاد كانت تشارك فى الحفلات ولكن لا تقدم لها حفلات منفردة تنافس بها أم كلثوم وما الذى من الممكن أن يحدث عندما تتسرب معلومة بحسن نية تقول إن أول من أدخل آلة «التشيلو» فى مصر هو زوج «شهرزاد» الفنان محمود رمزى، الذى كان عازفا فى فرقة أم كلثوم.. مثل هذه المعلومات المغلوطة التى تحقق قدرا من الذيوع والانتشار، يصدقها الناس ولهذا كان ينبغى أن تفصل المخرجة بين مشاعرها وهى تروى حياة جدتها، وبين الحقائق التاريخية. أتذكر قبل عامين عندما شاهدت فيلم «ألف تيتة وتيتة» للمخرج اللبنانى محمود قعبور يرصد الزمن القديم من خلال حياة جدته على المستوى الاجتماعى والاقتصادى والنفسى، وكانت الجدة قادرة على أن تمنحنا لمحات من تفاصيل السنين التى عاشتها، ولكنه ليس تاريخا للزمن.. ولكن فيلم «ستو زاد» صدر لنا وقائع باعتبارها هى التاريخ بعينه. كانت لشهرزاد مكانة على الخريطة وعدد من الكبار تحمسوا للتلحين لها مثل عبد الوهاب والسنباطى وبليغ وكمال الطويل وغيرهم ولكن لم تشكل فى التاريخ الغنائى المصرى أو العربى نقلة نوعية بهذه الألحان، كما أن هؤلاء الملحنين لم يعتبروا أن محطة شهرزاد هى التى سوف ينطلقون من بعدها لآفاق أرحب، بل إننى عندما قدمت كتابا عن الموسيقار الكبير محمود الشريف بعنوان «أنا والعذاب وأم كلثوم» قال لى رأيا سلبيا فى شهرزاد، واصفا إياها بأنها صوت يعيش فى متحف هى فى زمن والجمهور فى زمن آخر، وفوجئت بأن المخرجة تضع كلمات الشريف فى تترات المقدمة باعتبارها تشيد بصوتها، رغم أنها تحمل قدرا من السخرية لا يمكن إنكاره!! أنا سعيد بأن نوثق حياة الفنانين الكبار، وهم أحياء بيننا، خصوصا أن التسجيلات المرئية لهؤلاء الكبار -بحكم الزمن- كانت محدودة، ولكن علينا أن لا نصدق كل ما يقولونه، فهم أحيانا يكذبون ولا يدرون أنهم يكذبون وتلك هى المشكلة!!