أعود وأسألكم العذر وأستكمل حديثى خارج الرياضة عن الهلع الذى أصاب المجتمع المدنى من اكتساح التيار الدينى للانتخابات فى المرحلة الأولى، وتوقعات باستمرار تفوقه فى المرحلتين القادمتين، وأقول إن النتيجة جاءت تعبيرا صادقا وواقعيا عن الحالة المصرية والظروف التى عاشتها مصر قبل وبعد الثورة، وهنا أوجز بعض هذه العوامل التى صنعت النتيجة التى يجب أن نقبلها ونتعامل معها لأنها الديقراطية. أولا: ليس جديدا القول إننا شعب دينى بفطرته وإن الإسلام والمسيحية جزء أصيل من التركيبة النفسية والاجتماعية للمواطن، وفى الحالة الضبابية السياسية التى نعيشها الآن وغياب الوعى وحرمان الناس من أعمال عقلها فى الاختيار لسنوات طويلة وانهيار مستوى التعليم واضمحلال الحالة الثقافية طبيعى جدا أن يعود الناس إلى موروثاتهم واعتقاداتهم الدينية، من هنا سمعت كلاما عجيبا فى أثناء وقوفى فى طابور الناخبين أمام اللجنة فى مدرسة باب الشعرية الإعدادية فأغلب الناس كانوا يرددون كلمة واحدة نختار من يحملون كتاب الله فهم لا يعرفون أحدا منهم ولم يسمعوا كلامهم، بل هم من الأساس غير مبالين بما يدور حولهم ومنغمسون فى طاحونة البحث عن الرزق وأكل العيش، وإن كنت ألتمس العذر لهؤلاء، فكان العجب العجاب من أصدقاء الحارة والمدرسة وجميعهم متعلمون وأصحاب شهادات عليا، ولكن أغلبهم غير ملتزمين دينيا وبعضهم لا يواظب على الصلاة فى مواعيدها ولا يعطى لله حقه المعلوم فى الإسلام، ورغم ذلك انتخبوا التيار الإسلامى وتباهوا باختيارهم كتعبير عن التزامهم الدينى بالضبط مثلما يفعلون فى صلاة الجمعة فالكل يلهث حتى يلحق بها ثم يسقط من حساباته العصر والمغرب والعشاء، وعندما تعمقت معهم فى الكلام استنبطت أنهم انتخبوا هذا التيار طمعا منهم فى إرضاء ربهم وكأنهم يقولون خلاص يا ربنا إحنا عملنا اللى علينا وانتخبنا رجالك على الأرض، اغفر لنا ما تقدم وتأخر من ذنوبنا. ثانيا: تحيز المجلس العسكرى من اللحظة الأولى إلى التيار الإسلامى الذى أعطاه الأمان والحماية فى مرحلة ما بعد الانتخابات وهى تطمينات لم يجدها من القوى الثورية التى تعلى المصلحة العامة على الألاعيب الانتخابية والصفقات المستخبية، وبينما الإخوان والتيار السلفى يدافعون عن المجلس العسكرى ويسوقون أنه صمام الأمان، فإن الثوار والقوى السياسية الليبرالية يجلسون فى الميدان ضد استمرار حكم العسكر ورغم نبل مطلبهم، فإنه جاء فى الوقت الخطأ وأخاف العسكر فزاد تحالفهم مع القوى الإسلامية ففوجئنا بالموافقة على حزب النور وهو حزب يقوم من ساسه لراسه على أساس دينى وكل قادته وزعمائه من أئمة المساجد ورجال دعوة ومحترفى إصدار الفتاوى الدينية وهو حزب سيحول الحياة إلى حلال وحرام وستدخل الفتاوى والأحكام كل صغيرة وكبيرة من لحظة دخولك الحمام وحتى خروجك من الحياة، وهى قضايا ستشغل المجتمع عن همه الأساسى وهو إعادة بناء المجتمع وإحداث نهضة تعوض سنوات الغياب التى عشناها فى حكم النظام الساقط. ناهيك عن أن المجلس العسكرى وأدواته راحت تشهر بالحركات الشبابية ومصادر تمويلها الخارجية دون أن تقدم سندا قانونيا أو برهانا فى الوقت الذى غض فيه البصر عن تمويل حزب الحرية والعدالة والملايين التى أنفقها على حملته الانتخابية، كما ترك جماعة الإخوان المسلمين تتحرك بحرية فى المجتمع دون سند قانونى أو مؤسسة شرعية وهو وضع يفضح التحيز السافر من المجلس العسكرى لتيار سياسى دون غيره. ثالثا: إذا كانت قوى الإسلام السياسى قد استغلت كل العوامل المتاحة للنجاح ففى المقابل فإن قوى التيار المدنى والليبرالى تفرقت وتشتتت وانقسمت ووزعت نفسها على عشرات الأحزاب، فالفردية والذاتية عندها أهم من مصلحة الجماعة المدنية، فى نفس الوقت فإن شباب الثورة لم يتحدوا وتشتتوا فى اتحادات وائتلافات وجماعات صغيرة لم يعد لها وجود الآن، أما ميدان التحرير فاختيار أجندته وأولوياته لم يواكب سرعة حركة العمل السياسى ففشلوا جميعا وانتهى الأمر إلى ثورة قام بها أحرار المجتمع المدنى وأهدوها إلى التيار السلفى.