فى كتاب الكلاباذى «التعرف لمذهب أهل التصوف»، يُعرّف الجنيد الزهد بقوله «الزهد خلو الأيدى من الأملاك والقلوب من التتبع». فخلو الأيدى قد ييسر للإنسان أن يحرر قلبه من التعلق بالأشياء، وقد تخلو الأيدى وتبقى القلوب أسيرة. أما إذا تحرر القلب، فلا أهمية لخلو الأيدى، ما دام تجاوز القلب النعم وسكن إلى المنعم. فالزهد من عمل القلوب وليس من عمل الجوارح. لذلك يقول الحق «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين» (التوبة: 24) وكذلك يقول المسيح عليه السلام «وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أبا أو أمًّا أكثر منى فلا يستحقنى. ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر منى فلا يستحقنى. ومن لا يأخذ صليبه ويتبعنى فلا يستحقنى. من وجد حياته يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلى يجدها» (إنجيل متى. الإصحاح العاشر 36-39). إنها الدنيا معشوقة الغافلين، الذين رضوا بها، واطمئنوا إليها، وآثروها على الآخرة. وكان ذلك مبلغهم من العلم. إذ «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» (الروم: 7). أما من يعرف خالقه حقا، فهو يزهد فى كل شىء يشغله عن ربه. ولذلك يقول النبى (عليه الصلاة والسلام) «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شىء ما خلا الله باطل» (متفق عليه). ولذلك وثبة الأكياس من فخ الدنيا. تصديقا لقوله تعالى «فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور» (لقمان: 33) وحينما يسعى الإنسان إلى التخلص من أسر الدنيا، قد يقع -كرد فعل- فى غفلة الزهد! حيث يظن أنه قد حرم نفسه من مباهج كثيرة كان يمكن أن يستمتع بها، لولا خوفه من عذاب خالقه أو طمعا فى جناته. وفى ذلك تعظيم للدنيا، بينما التعظيم لا يجب أن لا يكون لغيره سبحانه. ولذا يقول الشبلى «الزهد غفلة لأن الدنيا لا شىء والزهد فى لا شىء غفلة». والزهد مبدأ عام لكل الأديان، وليس خصوصية دين بعينه. لأنه دعوة إلى تحرير الإنسان من سيطرة الأشياء عليه، بخلق نوع من التوازن بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى. فكما يقول المسيح (عليه السلام) «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه» (إنجيل مرقص. الإصحاح الثامن 36). أما من أخذ من الدنيا بقدر الضرورة يستعين به على الآخرة فالدنيا مزرعته، ولذلك قال النبى (صلى الله عليه وسلم) «اللهم اجعل قوت آل محمدا كفافا» (متفق عليه)، وكذلك قال تعالى «أليس الله بكاف عبده» (الزمر: 36) فالحق سبحانه يرزق عبيده، ويمنحهم الطيبات، فقد قال عز وجل «قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق» (الأعراف: 23).