«الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح تفتى بعدم جواز التصويت للمرشح الليبرالى والعلمانى» كان هذا هو العنوان الذى صدمت عند قراءته فى أحد المواقع الإخبارية قبل أيام. والصدمة لم تكن من تحجر أو سخافة ذلك الموقف المعتاد من قبل الجماعات التى احتكرت لنفسها الحديث باسم الدين، ولكن من توقيت إصدار الإعلان والشخصيات المشاركة فيه، وتحديدا الدكتور خيرت الشاطر، النائب الأول للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين. فالشاطر هو أحد الوجوه التى يقدمها الإخوان على أنه من أعضاء الجناح المعتدل، وهو رجل الأعمال الماهر المنفتح الذى يجتمع مع وفود المستثمرين الأجانب، لإقناعهم أنه لو حكم الإخوان فسيكون البزنس تمام التمام من دون مشكلات أو معوقات. ولكن عندما يتعلق الأمر بالشأن المحلى، فإن جماعة الإخوان تظهر لنا الوجه الحقيقى، والتلويح بسياسة العصا لمن عصا. ففى الوقت الذى تزعم فيه الجماعة الموقرة فى كل أحاديثها وبياناتها وتقسم بأغلظ الأيمان أنها تؤمن بالفعل بالدولة المدنية وتداول السلطة واحترام حقوق الأقليات، يخرج علينا أحد كبار قادتها فى بيان رسمى، ليدعو المصريين إلى عدم التصويت لمنافسيه، ليس بسبب مواقفهم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بل من خلال استغلال أخطر سلاح فى يده، وهو محاولة احتكار الحديث باسم الدين الإسلامى الحنيف. وهكذا، «أفتى» الدكتور الشاطر ومعه عدد من قيادات الجماعة الإسلامية والجهاد وآخرون «بعدم جوز التصويت فى انتخابات مجلس الشعب المقبلة للمرشحين الليبراليين والعلمانيين، فى حالة وجود مرشح إسلامى، لأن هؤلاء الليبراليين والعلمانيين يعتنقون أفكارا متطرفة بعيدة عن روح الإسلام، وأنه لا يجوز أن يمثلوا المسلمين فى البرلمان». هذا هو نص البيان. ولكن ماذا لو لم يوجد مرشح إسلامى يا مشايخنا ممن تهدون بقطع الرقاب وكتم الأنفاس والتفتيش فى النفوس؟.. لم توضح الفتوى الوجهة الشرعية فى هذه الحالة. ربما يكون مكروها، أم أن الأمر يبقى حراما مطلقا، ويكون المطلوب من الناخب فى هذه الحالة أن يقاطع الانتخابات، أو يذهب إلى إبطال صوته، أو يكتب فى ورقة الانتخاب «يسقط الليبراليون والعلمانيون.. إسلامية.. إسلامية»؟ صحيح، وماذا لو كان المرشح للبرلمان مصريا مسيحيا يتمتع بسمعة طيبة؟ طبعا لا يجوز، لا يجوز، لا يجوز. أتولون كافرا عليكم يا قوم؟ بخ بخ. إذن حياتنا السياسية المقبلة لو وقعت تحت قبضة الإخوان ورفاقها وفروعها بكل أسمائها، لأصبح لغة الحوار بيننا تقوم على «يجوز» و«لا يجوز» من وجهة نظر فرقة إسلامية محددة فى مواجهة فرق إسلامية أخرى عدة. وبالطبع يعلم الكثيرون بذلك الحديث النبوى الشريف الذى يشير مضمونة إلى أن المسلمين سينقسمون إلى نحو سبعين فرقة، كلهم فى النار فى ما عدا فرقة واحدة. وبالطبع كل فرقة من فرق الإسلاميين تزعم أنها الفرقة الناجية، والباقى كفار، مصيرهم جهنم وبئس المصير. أى ذكاء سياسى هذا؟ وأى رسالة يريد أن يبعث بها الإخوان إلى جموع الشعب المصرى قبل أيام فقط من أول انتخابات تشهدها مصر بعد التخلص من نظام أمعن فى تزوير الانتخابات والفساد وقمع المواطنين؟ المشكلة لا تكمن فقط فى أن الإخوان ومن معهم فى هذا البيان اعتمدوا سياسة «من ليس معى فهو ضدى»، ولكن الأخطر هو التلويح والتشهير بسلاح التكفير، واعتبار أن التصويت لليبراليين والعلمانيين أمر «غير جائز» من الناحية الشرعية والفقهية، ليكونوا هم فى الجنة ومن عداهم فى النار. من أجل هذا السبب، ولأسباب أخرى عديدة، يشدد الليبراليون على ضرورة عدم تداول المواقف السياسية من منظور دينى. فجماعات الإسلام السياسى، وكما أشرنا، غير متفقة على موقف واحد، ومواقفها تتراوح ما بين الاعتدال إلى الإفراط والتطرف. ولكن الكذب ليس بجديد على أنصار التيار الإسلامى ما دام أنه يكون لهدف سام من وجهة نظرهم، أى إقامة الخلافة. هو نفس الكذب الذى مارسوه فى استفتاء 19 مارس الشهير، عندما زعموا أن التصويت ب«لا» سيكون معناه تولى «الكفار» من الليبراليين مهمة إعداد الدستور المقبل، وأنهم بعد ذلك سيقومون بمنع الحجاب وإصدار قوانين تسمح بالزواج بين المثليين. طبعا كان هذا كله كذبا، ولم يوجد سياسى واحد ينتمى إلى التيار الليبرالى بكل طوائفه ردد مثل هذه المطالب. وفى نفس السياق، دعونا نتذكر كيف تم استغلال الدين بشكل متواصل من كل حكام المنطقة العربية والإسلامية ممن كانوا الأسوأ فى مجال الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والفساد. ألم يجمع الرئيس اليمنى الحالى على عبد الله صالح قبل أسابيع من سماهم «علماء مسلمين» لكى يصدروا «فتوى» تحرم الخروج عليه؟ وقبل ذلك، ألم يقم عدد من علماء الدين فى مصر أيام عبد الناصر بتبنى الفهم الاشتراكى للإسلام ويذكروننا بصحابة أجلاء مثل أبو ذر الغفارى؟ وعندما جاء السادات، قام ربما نفس هؤلاء العلماء بتبنى الفهم الرأسمالى للإسلام، وذكرونا بالصحابى عبد الرحمن بن عوف. وفى زمن عبد الناصر كذلك، كان علماء الإسلام يحرمون الصلح مع إسرائيل تحريما قاطعا. وماذا حدث عندما جاء السادات ليوقع «كامب ديفيد» مع إسرائيل؟ نفس علماء الدين أصدروا فتوى بجواز الصلح مع إسرائيل وأبرزوا الآية الكريمة «وإن جنحوا للسلم فاجنح له»، وأخيرا لا ننسى ولن ننسى موقف مفتى الجمهورية الحالى الذى عينه مبارك وحرم بدوره التظاهر فى 25 يناير، والذى لولاه لبقى مبارك جاثما فوق صدورنا ومن ورائه ابنه لعقود قادمة. ولكن الأخطر هو أن مثل هذه الفتاوى تهدد مستقبل الوطن بأكمله، وتبين أى مصير سنلقى لو تولى قادة تلك الجماعات شؤون إدارة مصر. انتخبوا من تشعرون أنه صادق ويسعى لتحقيق مصالح كل المصريين، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه أو جنسه، ولنبعد هذه العملية السياسية والانتخابية برمتها عن نطاق ما «يجوز» و«لا يجوز »، لأننا لا نريد أن نلعب بالنار.